الاستمرار في إنتاج الفساد يوقف شركة الأسمدة
ربما ليست القضية الآن الحديث عن الفساد المنظم والمبرمج في الإدارات، وربما لم يعد مجدياً أن نقول إن هناك تماهياً بين الفاسدين وبعض الموجودين في مراكز القرار فالكل بات يعلم بذلك.. وما من جهة مسؤولة تحاول تغيير ذلك جدياً، خصوصاً أن معظم المتربعين على كراسي الإدارة ينتجون الفساد عبر قرارات يصدرونها لخدمة البعض، وبالمحصلة لخدمة مصالحهم الشخصية..
إذن ما الذي يمكن التركيز عليه اليوم وقد طمى الخطب؟
الأموال المهدورة
من يقرأ تقارير الشركة العامة للأسمدة يصاب بالعجب للأموال الكبيرة التي صرفت وتصرف على هذه الشركة دون تحقيق الغاية منها.. مئات المليارات تصرف ثمن مواد أولية خام وطاقات كهربائية وحرارية مهدورة خلال عمليات الإنتاج، حتى أن الإدارات تجتهد لإيجاد كل المبررات الفنية والإنتاجية لهذا الهدر للمحافظة عليه وعلى أسبابه!! وبذلك تجد هذه الإدارات المبررات الكافية لصرف مئات الملايين على مشاريع ومعدات مستوردة لمعالجة نتائج الخلل والهدر مع تعمد المحافظة على أسبابه، في المقابل عندما يطالب العمال أو المهندسين بحق من حقوقهم أو أي مطلب يعود عليهم بالفائدة المادية تحسن من أوضاعهم المادية
وتنعكس إيجابياً على أوضاعهم الصحية وتزيد ارتباطهم بالعمل... فإن الإدارات غالباً ما تجد الكثير من المبررات غير المقنعة لعدم تلبية هذا الطلب، بل وهناك تناغم من الجهات الوصائية وتبريراً للإدارات بوضع مسؤولية ارتفاع التكلفة والهدر على العمالة الفائضة!.
تشجيع الاسستثمار
لا يوجد مواطن سوري إلا ويؤيد تشجيع الاستثمار والتشغيل، ولكن السؤال المطروح: ما هي المشاريع التي أقيمت بعد الانفتاح الاقتصادي واقتصاد السوق وكانت مجدية وانعكست إيجاباً على الوطن والمواطن؟
وهل أقام القطاع الخاص شركة أسمدة أو جرارات أو حتى معامل سكر؟
طبعاً، الجواب هو النفي، فما أقيم حتى الآن أغلبه في أحسن الأحوال يمكن تصنيفه على أنه «مشاريع خدمية»، بل وتم دفع رأس المال الخاص إلى قنوات المضاربة والربا والتجارة والسمسرة ليس إلا، وما أقيم من منشآت صناعية رغم محدوديتها، قد تم إغلاقه، وقد صرخ أكثر من مستثمر: «الحكومة تريد أن تحولنا إلى تجار وسماسرة».
شركة الأسمدة
أسعار التكلفة في شركة الأسمدة مرتفعة، والأسباب السمسرة والهدر، والأرقام تقول إن نسبة الهدر /30%/ بالمواد الأولية وخصوصاً من الفوسفات المستورد.
طن اليوريا، المفروض أن يستهلك /750م/ مكعب غاز، لكنه يستهلك في الشركة /1100/ متر غاز.
ثمة مياه ملوثة بسبب سوء التخطيط والتنفيذ، ثمة هدر وتخريب للبيئة.. تدفع الشركة ثمن قرطاسية ودفاتر وسجلات مليون ل.س شهرياً!.. وهناك /21/ سيارة للمدراء والمحسوبين عليهم، وثمة الكثير الكثير من أذونات السفر الوهمية.. وهناك دفع متواصل لمئات الملايين في كل سنةً لخبراء من دول عديدة، ويتم وضع دراساتهم في الأدراج.. أما محطة المعالجة فمنذ أن تم استيرادها لم تعمل، رغم أن ثمنها يصل إلى مئات الملايين.
والخلاصة الطبيعية الماثلة أمامنا بعد كل ذلك التخريب، أن طن السماد السوري يباع بـ/28/ ألف ل.س، والمستورد من تونس يباع ب/16/ ألف ل.س فقط.. وفهمكم كفاية!.
إنتاج ولا بيع
رغم كل ذلك الشركة تعمل، وقد وصلت المخازين إلى أكثر من /100/ ألف طن، ما أدى إلى امتلاء المستودعات، حتى أن التخزين الآن أصبح في الشوارع والطرقات. فالسماد يستجره المصرف الزراعي عادة، ولكنه توقف منذ أشهر عن الاستجرار بسبب امتلاء مستودعاته بالسماد المستورد!.
وهكذا تم إيصال الشركة إلى واقعها الحالي:
هدر، سمسرات، ارتفاع التكلفة، خسارة بالمليارات، السماح للقطاع الخاص بالاستيراد وتقاسم الأرباح والعمولات مع الشركة الخاسرة ومع التجار، والمحصلة توقف الشركة عن الإنتاج وعرضها على الاستثمار، وليس «البيع أو الخصخصة»، وقد قدمت حتى الآن شركات لبنانية وباكستانية عروضها.
الخاسرة الرابحة
يقول الخبراء لا توجد شركة أسمدة في العالم خاسرة إلا في سورية، وخسارة الشركة بلغت بالمليارات والأسباب واضحة، ولكن لو حسبنا الخسائر الاقتصادية بعد توقفها عن العمل لوجدنا المبلغ أضعاف خسائرها الحالية، لأن الشركة تنتج حمض الآزوت وحمض الكبريت والأمونيا وحمض الفوسفور ومواد أخرى عديدة، تدخل في عشرات الصناعات في شركات ومعامل للقطاعين العام والخاص.
وتوقفها عن العمل والإنتاج يعني استيراد المواد التي ذكرت، وهي بالمليارات أيضاً، وهذا يعني دخول حفنة من التجار والسماسرة الجدد إلى سوق الأسمدة كاحتكاريين متحكمين بأسعار وأنواع وكميات هذه المادة الحيوية.
وينطبق هذا أيضاً على شركات السكر... لأن التصريحات يومية من قبل الجهات الوصائية وهي تقول: إن كيلو السكر يكلف في المعامل السورية /60/ ل.س واستيراده من الخارج يكلف /15 ـ 18/ ل.س، وهذه كارثة حقيقية برأي الجهات الوصائية، لذلك فقد ضربت زراعة الشوندر السكري وأقلع الفلاح عن زراعة هذا المحصول، والسبب استيراد بذار في حلقات سمسرة متدني الجودة، ورافق ذلك استيراد السكر وتعبئته في معامل القطاع العام.
لم تفكر الجهات الوصائية بعشرات آلاف من الفلاحين والعمال الزراعيين، الكادحين الذين يزرعون الشوندر ويعملون في معامل السكر..
معامل السكر أيضاً ليست خاسرة حتى وإن بلغت كلفة الكيلو /100/ ل.س لأن معامل السكر تؤمن خميرة الخبز وتؤمن الكحول الطبي والصناعي ونواتج أخرى عديدة، ولو أجرينا حساباً عن قيمة كافة النواتج من عملة تصنيع السكر لوجدنا بأنها أقل من قيمة الإنتاج المستورد.
توقف معامل السكر يعني استيراد الخميرة والكربون والكحول بمئات الملايين.. والعقل الصناعي يقول: يجب أن نقيم معامل أخرى للسكر من أجل سد حاجة السوق المحلية من هذه المادة وسد حاجة الشركات في القطاعين العام والخاص من النواتج، ولكن الاستيراد يبدو أنه الأجدى لتكتمل حلقات السمسرة والارتزاق.
دعم القطاع العام
حتى الآن، التصريحات الحكومية كافة تؤكد على دعم القطاع العام، وأن الخصخصة خط أحمر. ويؤكد وزير المالية «جواز استثمار لبعض الأصول الثابتة غير المستثمرة أو المتوقفة لدى القطاع العام الصناعي بما فيها حق الانتفاع أو الاستثمار لهذه الأصول».
وهنا نسأل السيد الوزير: هل شركة الأسمدة أصول ثابتة وغير مستثمرة؟ وهل المرافئ السورية أصول ثابتة وغير مستثمرة؟ وهل شركة الحديد غير مستثمرة؟ لن نتلقى جواباً، لأن القافلة تسير إلى ما لا نهاية.
لذلك لم يعد من المجدي أن نقول إن القطاع العام بحاجة إلى إصلاح، وخصوصاً شركة الأسمدة، وإذا تمت مساءلتنا عن أي إصلاح يجري، نقف بصمت ونقول: إن الخلل يكمن في اتخاذ القرار حيناً! وفي عدم اتخاذه في أحيان أخرى!!