لاجئون في الوطن..
أسوأ ما في الحياة شعور الإنسان بأنه لاجئ ومغترب في وطنه، والأسوأ ألا يعترف أحد بهذا اللاجئ أو بالأسباب التي أدت إلى اغترابه وبما وصلت إليه حاله، مع أن الجميع يعلم علم اليقين أن الأمور لم تكن لتصل إلى هذا المستوى من التردي، لولا السياسات الجائرة للفريق الاقتصادي، الذي أصدر كل قراراته الليبرالية، دون أية مراعاة لما ستؤول إليه الأمور مستقبلاً.. ومن سوف يدفع ثمنها.
هذا أول ما يمكن أن يقال عن حال عشرات الآلاف من مواطني المناطق الشمالية الشرقية وخصوصاً أبناء محافظة الحسكة ومدنها الرئيسية، التي تعتبر منبع الذهب الأبيض والأسود والأحمر، بعد أن اضطروا لحمل عيالهم وما تيسر من متاعهم، والنزوح، بحثاً عما يسد رمقهم ويدفع عن أطفالهم غائلة الجوع، نحو الجنوب الذي لا يقل تعباً وإنهاكاً..
والحقيقة، إن كارثة حقيقية أضحت تلوح في الأفق بكل آثارها المدمرة للمواطن والوطن على حدّ سواء.. ما لم تبادر الحكومة بحل إسعافي، إنساني، وحقيقي.
أول الكلام
في محافظة درعا، يمكن لأي كان اليوم، مشاهدة الآلاف المؤلفة من أبناء محافظة الحسكة، الذين تركوا كل شيء يملكونه خلفهم ومضوا للبحث عن عمل في القطاع الزراعي، في هجرة تخالف واقعاً كان حتى وقت قريب هو السائد، حيث كانت السنوات الماضية تشهد هجرة مؤقتة نحو محافظة الحسكة في المواسم المتتالية «قمح ـ قطن» صيفاً وشتاءً.
ولكن هناك أيدٍ ليست خفية جعلت هذه المحافظة الغنية بكل شيء، أفقر محافظة من كل النواحي رغم كل ما تملكه وتشتهر به من ثروات باطنية وزراعية هائلة، أما أبناؤها الذين لم يستطيعوا ترك أو نسيان رائحة الأرض والزرع ومزاولة الزراعة التي لا يعرفون غيرها، فلم يبق أمامهم، وهم الذين تقاسموا اللقمة مع إخوتهم في الوطن ولم يبخلوا على أحد بالغالي والثمين أيام المحن والصعاب، إلا اللجوء إلى المناطق التي ما تزال فيها زراعة وأراض خضراء..
مجتمعات بدائية
عندما وصل بنا المطاف إلى مناطق تواجد هؤلاء المهجرين، الذين توزعوا بشكل عفوي على مداخل المدن وجوانب الطرق والحقول، كان المشهد صادماً. شاهدنا بيوتاً صنعت يدوياً من بقايا أكياس الخيش وفق الطريقة البدوية القديمة، ولم لا؟ أليست الحاجة هي أم الاختراع؟ هذه هي بدائل البيوت التي كانوا يسكنونها وتحفظ كرامتهم.. شاهدنا وجوهاً شاحبة لرجال ونساء وأطفال، تبعث على اليأس، يفوح منها رائحة فقرٍ مدقع.. صدمتنا نظرات وعيون تشرح كل ما بداخل أصحابها من ألم وجوع، دون أن تنطق بكلمة واحدة، نساءٌ رضين بكل مآسي الحياة، وقبلن بالرحيل إلى حيث يرغب الرجال، شرط ألا تهان كرامتهن وكرامة أزواجهن، فقد حكموا على أنفسهم البقاء معاً على السراء والضراء.
مواطنون درجة عاشرة
من لا يعرف قصصهم وما جرى لهم، قد يطلق عليهم الكثير من الأحكام المتسرعة، لكنه سرعان يندم عليها بعد التحدث معهم والدخول في عالمهم، ولعل حديث أبي محمد «العاجز» الذي لم يكن يتخيل أن يصيبه ما أصابه، كان الأدق في وصف هذه النقطة، حيث قال: «كل من يمر بجوارنا يحسب أننا «نَوَرْ» ومتسولون.. نحن نعمل بكرامتنا، لكن نظرة البعض لنا جعلتنا نحسب أننا بالفعل مواطنون من الدرجة العاشرة».
ويضيف: «المشكلة ليست هنا، بل في الأسباب التي أدت بنا إلى هذه الحال، وخاصة القرار الأخير لرفع أسعار المازوت الذي أدى بنا إلى ترك أراضينا وبيوتنا، لعدم استطاعتنا متابعة أعمال الري وتكاليفه. إننا نعرف كل ما يحصل في بلدنا، ولسنا أغبياء كما يعتقدون. أحياناً نشعر أن الحكومة التي أصدرت قرارات كهذه، في هذا الوقت من السنة، أنها عدوة لنا!!».
ـ أبو أحمد لديه تسعة أولاد قال لنا غاضباً: «المعونات الحكومية التي كان من المفترض توزيعها على الفقراء والمتضررين، وزعت على الأغنياء، وبعض المتنفذين في المحافظة، أما القروض التي يحكى ويكتب عنها صباح مساء، فيذهب ثلثها أو نصفها للواسطات أو المشرفين عليها، قرض الـ 400 ألف ليرة سورية ينزل بالنهاية إلى 200 ألف بسبب الرشوة».
وأكد أبو أحمد أن تصرفات البعض يجعلهم دائماً في المؤخرة جراء الغبن القائم، والمسؤولون في المحافظة يفعلون ما يصب في مصلحتهم الشخصية، ممتنعين في الوقت ذاته عن تنفيذ أي قرار لا يخدم مآربهم.. وأضاف.. «عندما توجهنا إليهم قبل أن نغادر أرضنا، عاملونا بكل قرف وتقزز، وبلا مسؤولية، فحتى أغنامنا ماتت جوعاً، أو بعناها بخسارة لعدم وجود أعلاف».
ساعة عمل ميتة
الشاب عمر قال: «نعيش وفق عدد الساعات التي نعملها، لا الأيام، فأحياناً نعمل ساعتين فقط، نأخذ 60 ليرة فقط!. فلا تكفينا ثمن ربطتين من الخبز. الأرض التي نخيم عليها ندفع عليها أيضاً مقابل يصل إلى 1000 ل.س بالشهر، وإلا لن يقبل صاحبها بوجودنا. وكدنا نموت جوعاً بعد الأزمة الأخيرة على الأفران، لأنهم منعوا بيعنا الخبز بحجة أنها مخصصات درعا فقط، علماً أن عدد أرغفة الربطة لا يزيد على ستة!». أما المياه يقول عمر: «المصادفة هي التي أنقذتنا، لأن الشخص الوحيد الذي مدنا بالمياه من دون مقابل، باعتبارنا نشتري البرميل 50ل.س هو مواطن فلسطيني عايش ما نعايشه الآن أيام النكبة، فأعطانا المياه رأفة بحالنا».
إحدى السيدات قالت: «لن أتكلم عن شيء، ولكن أتمنى أن تصورني وأنا أحمل تنكة الماء على كتفي في القرن الواحد والعشرين!».
أبو شيركو قال: «لم نترك طفلاً واحداً في المدارس، وها هم جميعاً معنا، وعلى من يتحدث عن التسرّب من المدارس وزيادة الأمية، أن يؤمن لقمة عيشنا كي نعود بالأطفال إلى مدارسهم، لأننا لم نعد نستطيع تحمل أنفسنا، فكيف نتحمل مصاريف ونفقات دراستهم التي زادت همومنا؟!».
ضرب السياحة
يقول أبو مسعود: «المصيبة أننا حتى اللحظة، لم نرّ أي مسؤول من محافظة درعا نشرح له معاناتنا، أو لكي يساعدنا على الأقل بتأمين بعض الأمور أو الحاجيات البسيطة، وإنما والحق يقال: بعثوا إلينا بمرسال هددنا طالباً منا عدم السكن على الطرق العامة، لأننا، وحسب قوله، نساهم في تشويه صورة المحافظة وضرب الحركة السياحية فيها! في الوقت الذي قمنا نحن، عندما هجّر الآلاف من قرى الفرات الذي سمي آنذاك «بالغمر»، بإعطاء المحافظة أفضل المناطق بأراضيها الخصبة على الخط العاشر بمحاذاة الحدود التركية. إن الأيام تكرر نفسها ولكن بشكل مغلوط ومجحف جداً بحقنا وحق أطفالنا ونسائنا وكرامتنا».
ويتابع أبو مسعود كلامه بالمثل المعروف: «يلي بيعرف بيعرف ويلي....» فنحن الآن وإن أردنا العودة إلى بيوتنا لا نستطيع القيام بذلك، لأننا بكل بساطة لا نملك تكاليف العودة، فبعد ارتفاع أسعار المازوت، باتت أية سيارة شحن صغيرة تطلب عشرين ألف ليرة على الأقل، ونحن في ظل هذا الوضع لا نملك حتى بضع مئات من الليرات، وهانحن أول ضحايا الأمر الواقع الذي سيحرقنا جميعاً جوعاً وعطشاً».
كرامة الوطن والمواطن
إن أقل ما يقال هنا، إن أي مواطن في هذا الوطن، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، من ديريك إلى مزيريب، لا يستحق هذا الإجحاف وهذه الإهانات التي أصبحت عند البعض عادة للإساءة لكرامة وإنسانية البعض أو الكل، إن أبسط ما يمكن أن يقدم لهؤلاء المواطنين، هي تلك الأشياء البسيطة التي تحدثوا عنها، وهي بالأصل من بديهيات حقوق المواطنة والتي تتمثل بالمياه، الخبز، وتأمين أراضي ليحطوا الرحال فيها، أو كأضعف الإيمان تأمين رجوعهم إلى ديارهم شرط أن يقدم لهم ما فقدوه في محافظتهم، ولاسيما بعد الشعارات التي أطلقتها الحكومة حول تنمية المنطقة الشرقية واللذين ذهبا (الشعارات والمنطقة) أدراج الرياح.. والسؤال هنا: أين هي تنمية المنطقة الشرقية التي طبلوا وزمروا في الحديث عنها؟! وما ذنب الذين هجّروا منها والذين زاد عددهم عن عشرات الألوف، أولئك الذين أهلكهم الفقر وأنهكتهم البطالة؟! إن الكثير من القرارات المتخذة بحاجة إلى إعادة نظر، ما لم نقل التراجع عنها، بغية الحفاظ على كرامة الوطن والمواطن..
وكما يقال: الفقر في الوطن غربة والغنى في الغربة وطن..
■ عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.