على هامش اتفاقية الشراكة السورية – الأوربية «الأغروبولس».. جنّة منطقة الغاب أم جحيمها؟!
كلما دنا موعد حلول مصيبة تنزل على رؤوس المواطنين بفعل تقليص دور الحكومة ورفع يد الدولة عن جزء من هذا القطاع أو ذاك، يطلع علينا أحد المسؤولين ويصفعنا بنعيق بشائره التي يصفق لها الطيبون منا.. ولكل مناسبة خطيب مبشر، ولكل جمهور رسالة، فلأهل دمشق مترو الأنفاق، ولأهل الجزيرة إنماء جزيرتهم وإنعاشها، ولحمص جر مياه الفرات ونقل مصنع السماد الذي خنق أهلها، أما في اللاذقية فالنفط سال من شقوق الإسفلت في سوق الهال.. وفي منطقة الغاب كان الأغروبولس كلمة مجلجلة تعيدنا إلى حضارة الرومان في أفاميا، وربما إعادة بناء حلم الإسكندر المقدوني..
فما قصة الأغروبولس، أو الجنة الموعودة في الغاب كما صورها أحد المسؤولين لفلاحي المنطقة؟ ولماذا كان هذا المشروع؟ وهل سيتحقق حتى من وجهة نظر الداعين إليه؟ وما صلته مع اتفاقية الشراكة الأوربية السورية؟ وما تداعياته فيما لو نفذ حسب ما أراد له الأجنبي أن يكون؟؟
تعود بداية العمل بمشروع الأغروبولس إلى عام 2004، حيث جاء متزامناً مع توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي بالأحرف الأولى، وذكر حينها أن الغايات منه هي تعزيز الصادرات الزراعية والصناعات الغذائية السورية، وتطوير الخدمات والبنية التحتية بالمنطقة، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وخلق فرص عمل جديدة، وتطوير السياحة، ومعالجة القضايا البيئية في منطقة المشروع، وتعزيز الشراكة مع السكان المحليين لإنجازه.
وحسب اللجنة الزراعية، ستكون هذه المنطقة شبه منطقة حرة، وستقام منطقة صناعية زراعية تقوم على الزراعات البديلة، وسيقوم المدربون بتدريب المزارعين لإنتاج المحاصيل البديلة وفق متطلبات السوق الأوربية! وبدأت تهيئة الإطار التشريعي والقانوني، وتغيرت أسماء المديريات لتأخذ أسماء جديدة، فصارت «مديرية زراعة الغاب» «الهيئة العامة لإدارة وتطوير استثمار الغاب»، وبقي التطوير بالأحرف الأولى، لا بل أتى على هيئة رفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج، من محروقات وأسمدة، وملكية الدولة للأراضي الزراعية تحولت إلى أملاك خاصة، ويجري تغيير الهياكل والمؤسسات المتعاملة مع الفلاحين، كصندوق الدعم الزراعي، وصولاً إلى تمزيق التنظيم الفلاحي وتسليم رقاب الفلاحين إلى المستثمر الموعود عبر رفع يد الدولة عن القطاع الزراعي تدريجياً، إلى أن تتخلى بشكل نهائي حسب بنود اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي: «إن الطرفين يؤمنان بمبدأ اقتصاد السوق الحر». وخصص لهذا التجمع الاقتصادي نحو 30000 دونم، لتقام عليها الوحدات الاقتصادية الأجنبية التي ستتعامل مع الفلاحين دون وسيط، بالتعاقد المباشر معهم لزراعة أنواع بديلة عن المحاصيل الزراعية الإستراتيجية كالورود والأعشاب الطبية والعطرية، وبعض الفواكه مثل الفريز، فالقمح والقطن والشوندر السكري المستورد أرخص بكثير كما يقول بعض المسؤولين، المسؤولين عن تخريب البلد، فقد غدت منتجات فلاحينا عبئاً على الدولة، والاستيراد «أسهل وأربح بكتير»..
أسئلة لابد منها
من المتوقع أن تبنى مائة وحدة اقتصادية، أرباب عملها من المستثمرين الأجانب، وربما فنيوها وعمالها أيضاً، مع تطوير قانون العمل وإدخال مكاتب التشغيل كحلقة وسيطة بين العامل ورب عمله، والسماح باستقدام اليد العاملة الأرخص، وهذه دعوة مجانية للمستثمرين لقضم عضلة كتف الاقتصاد السوري، والمعيب أن تدعو الغير لسرقة جهد بني جلدتك من العمال، هذا ما كان يدعى، ومازال يسمى «نخاسة».
وهل سيدخل الإنتاج الزراعي والصناعي المصدَّر من تلك الوحدات الاقتصادية ضمن الحصة السورية المسموح تصديرها والمعفاة من الضرائب الجمركية؟ أم أن لها وضعاً خاصاً؟ فان كانت من الحصة فإننا لن نستفيد منها شيئاً، فهي خاضعة للإعفاءات والتسهيلات حسب قوانين الاستثمار من جهة، وأخذت الحصة التصديرية من جهة أخرى، ولن تنتج قيمة مضافة لإنتاج هذه الوحدات، فهي تنتج وتصنع على أراضينا ولا ننال منها إلا النفايات الصناعية.
كيف تعقد الآمال على مشاريع فاقدة البنية التحتية؟ عمادها مياه الري السائرة إلى البحر ولا سدود تخزنها. وكم من الوقت هدر على دراسات سدود ستقام هنا أوهناك؟ وكم وعود براقة صدرت في هذه المناسبة أو تلك على أمل تامين مياه الري؟ لم يتحقق أي شيء حتى الآن، وتقدر مياه الغاب المهدورة بأنها تكفي لري خمسة أضعاف مساحته صيفاً، فيما لو خزنت في سدود مع الحفاظ على مجاري المياه الطبيعية، علماً أن أراضي أملاك الدولة التي تديرها الحكومة تغرق شتاء لسوء تصريف مياه الأمطار، وتتصحر صيفا لانعدام المياه نهائياً، ولأن الحكومة فشلت في بناء السدود، هاهي تستثمر في دول أخرى، وتدعو رجال أعمالها للاستثمار في السودان.
أخطر ما في المشروع الزراعات البديلة وتهديدها للأمن الغذائي، فالمنطقة ستكون محرومة من رعاية وتوجيه الدولة، والحال كذلك سيتجه الفلاحون إلى رب عملهم وراعيهم الجديد لتلبية طلبه على المزروعات التي يحتاجها، ولاشك أن الأرباح التي يجنيها الفلاحون في البداية ستكون مجزية، أما بعد أن تتأصل التجربة الزراعية المأمولة، ويهرع المزارعون إلى هذا الصنف من الزراعة الرابحة، سيتغير الحال ليقعوا تحت سطوة قانون العرض والطلب، بعد أن يكونوا قد تخلوا عن الزراعات الإستراتيجية، وهذا ليس تخميناً، إذا علمنا أن زراعة القطن والشوندر السكري لهذا الموسم شبه معدومة.
إن الشراكة تهدد صناعتنا وزراعتنا، وما يقال عن فوائد الشراكة هو تضليل، والوعود التي تطلقها الحكومة خلبية، ليس لها أي انعكاس واقعي، ومهمتها التمويه والتغطية على فشل السياسات الاقتصادية المتبعة، لأن أحد متطلبات الشراكة رفع الدعم عن كل المواد بما فيها تلك التي تتعلق بالأمن الغذائي، في وقت نحن فيه أشد ما نكون، بحاجة إلى تعزيز الأمن الغذائي الوطني.
السؤال المطروح الآن هو: هل تنفيذ بنود الشراكة الأوربية، بشقها الاقتصادي خاصة، سيحسن الوضع الداخلي اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؟ أم سيضعفه ويزيد مشكلاته تعقيداً؟ الأرجح، في ظل البنية الحالية للاقتصاد السوري الذي يتميز بمستوى أداء منخفض، بسبب التشوهات التي خلقها النهب الكبير البرجوازي الطفيلي والبيروقراطي، ولن تكون نتائج تطبيق هذه الشراكة على الأرض، إلاّ المزيد من التعقيد للوضع الاجتماعي-الاقتصادي، مع تهديدات ومخاطر على مجمل نواحي الحياة، يمكن أن تؤدي إلى تدمير شامل لبنية المجتمع والدولة.
أوليس الحديث عن الاتفاقية أنها ستضع الإصلاح في سورية على سكة واضحة هو استقواء بالخارج؟ ولكن هذه المرة ليس استقواء على الدولة فقط، وإنما على المجتمع، وخاصة على شرائحه الأكثر تضرراً من هذه السياسات.
جاءت الشروط الاقتصادية في الاتفاقية لأهداف اقتصادية وسياسية، تهدف إلى الإضعاف التدريجي لمناعة الدولة والمجتمع، وهذه الخلخلة ستوصلهم إلى الأهداف السياسية الإستراتيجية، التي سيسهل عندئذ إملاؤها.
■ يامن طوبر