الجرمانيوم والغاليوم: مجرّد بداية لعقوبات الصين المضادّة ضدّ العنجهية الأمريكية
أصدرت «وزارة التجارة» و«الإدارة العامة للجمارك» الصينيّة قراراً يوم الإثنين، 3 تموز 2023، ينصّ على «تنفيذ الرّقابة على الصادرات من المواد المتعلّقة بالغاليوم والجرمانيوم»، من أجل «حماية الأمن القومي» والمصالح الصينية بموافقة مجلس الدولة. وهذان العنصران من أكثر المواد أهمّيةً وحساسيّة لصناعة أشباه الموصلات وبالتالي الكثير من الأجهزة الإلكترونية والتكنولوجيات الحديثة. وفي مقابلةٍ حديثة اعتبر خبير أمريكي في المعادن أنّ ما يحدث بمثابة ردّ صيني على عنجهية واشنطن تجاه الصين.
شملت قيود التصدير الصينية عملياً طائفة أوسع من عنصري الغاليوم والجرمانيوم بشكلهما الصافي، لتشمل مركبات يدخلان فيها، فيما يبدو محاولةً لمنع الجهات الأمريكية والغربية المستهدَفة بهذه «العقوبة الصينية المضادّة» من القدرة على إعادة استخلاص هذين العنصرَين من المركّبات أيضاً.
الصين هي أكبر منتج في العالم للغاليوم والجرمانيوم. فهي تملك 80-85% من إجمالي احتياطيات الغاليوم بالعالم، و41% من إجمالي احتياطيات الجرمانيوم بالعالم (في المرتبة الثانية مباشرةً بعد الولايات المتحدة التي تملك من احتياطي الجرمانيوم 45%). وذلك بحسب بيانات معهد الموارد المعدنية والأكاديمية الصينية للعلوم الجيولوجية). وفي عام 2021 زوّدت الصين السوق العالمية بـ 68.5% من ورادات الجرمانيوم في العالم، وبلغ إنتاج الجرمانيوم العالمي في ذلك العام حوالي 130 طناً.
الأهمية التكنولوجية للجرمانيوم والغاليوم
يصنّف الجرمانيوم في جدول مندلييف الدوري للعناصر الكيميائية في خانات «أشباه المعادن»، ورمزه Ge وعدده الذرّي 32، وهو مماثل لمجموعة الكربون (التي تحوي القصدير والسيليكون)، يتميز ببريق أبيض فضي وهو شبه موصل يحوي كمية قليلة جداً من الشوائب مما يجعله من أنقى المواد التي حصل عليها الإنسان. ويوجد في الطبيعة بكميات صغيرة مخلوطاً مع الفلزّات الأخرى ويمكن الحصول عليه بتنقية فلزّات النحاس والزنك والحديد.
يعود تاريخ صنع الترانزستورات المبكرة من الجرمانيوم إلى زمن الحرب العالمية الثانية (استخدم لتطوير رادار محمول جواً). وبعد العام 1945 بدأ يستخدم في صناعة بعض المعدّات الإلكترونية، ومع تطوّر صناعة الترانزستور زاد الطلب عليه حتى اليوم حيث يستخدم في الألياف البصرية والاتصالات وأجهزة الأشعة تحت الحمراء للرؤية الليلية. سبيكة «السيليكون-الجرمانيوم» وهي مادّة مهمة في سلاسل أشباه الموصلات، يمكنها تحسين سرعة الترانزستورات بشكل كبير. بفضل الجرمانيوم أمكن تطوير مشغّل أقراص الكمبيوتر بتكنولوجيا Blu-ray، كذلك لها أهمية كمواد أشباه موصلات رئيسية في تكنولوجيا اتصالات الجيل الخامس 5G. وفي السيارات دون سائق.
يمكن القول إنه دون الجرمانيوم لن يكون هناك ترانزستورات ورقائق أشباه موصلات على الرغم من أهمية مكانة السيليكون فيها. اعتبرت الحكومة الأمريكية والجيش الأمريكي الجرمانيوم «مادة استراتيجية حاسمة» للأمن القومي الأمريكي، وحتى في عام 1987 كانت قد دعت إلى تأمين 146 طن من الجرمانيوم في «مخزون الدفاع الوطني». (على سبيل المقارنة يبلغ احتياطي الجرمانيوم في مقاطعة منغوليا التداخلية ذاتية الحكم في الصين 600 طن).
أمّا الغاليوم (رمزه Ga وعدده الذرّي 31) فهو من «المعادن» في الجدول الدوري، ويسمّى «العنصر الخجول» بسبب انخفاض حرارة انصهاره (28 درجة مئوية) حيث ينصهر في راحة اليدّ. ويعتبر الغاليوم أيضاً مهماً لصناعة أشباه الموصلات ورقائقها.
هذان العنصران مهمّان لصناعة شاشات الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، وفي الإضاءة والاتصالات، والخلايا الشمسية، وعلى الأقمار الصناعية، وغيرها... وقد يعني انخفاض الصادرات الصينية على المدى القصير ارتفاع الأسعار في السوق.
خبير معادن أمريكي ينصح حكومته بتقليل عنجهيّتها
في مقابلة معه الجمعة 7 تموز 2023 على إحدى قنوات اليوتيوب، وصف جاك ليفتون، المدير التنفيذي لـ«معهد المعادن الحساسة» في الولايات المتحدة الأمريكية، خطوة الصين هذه بأنها «ردّ الصّاع بالمثل» على الولايات المتحدة الأمريكية «لأننا قمنا بتقييد تصدير الآلات المتخصّصة بصنع أحدث الرقائق إلى الصين، وحظرنا على شركاتنا شراء رقائق صينية لاستخدامها في منتوجاتنا دون إذنٍ من دولتنا... فقال الصينيّون حسنًا، هذه قواعدكم للّعبة؟ إذن سنلعبها... لذا سنختار تقييد مادتين لا يمكنكم الوصول إليهما...».
وبحسب هذا الخبير كانت الولايات المتحدة الأمريكية فيما مضى «مكتفية ذاتياً» من الجرمانيوم والغاليوم، لأنّ المادّتَين، وبخلاف ما أشاعه بعض الإعلاميين على خلفية هذا التقييد الصيني، ليستا من «المواد الباطنية النادرة»، بحسب قوله، بل يمكن إنتاجهما في الواقع كنواتج ثانوية لمعالجة فلزّات مواد شائعة؛ فالجرمانيوم هو منتج ثانوي لمعالجة فلزّات الزنك والفضّة، أو التعامل مع الفحم. والغاليوم هو منتج ثانوي لفلزّات الألمنيوم. لكن الولايات المتحدة توقّفت عن تطوير إنتاجهما لأنّ الصينيين دخلوا في معالجة هذه المواد بطريقة كبيرة وأقلّ كلفة بكثير، فسرعان ما أصبح من الواضح أنّ شراءها منهم كان أرخص بكثير من إنتاجها في الولايات المتحدة. ويقول الخبير الأمريكي: «أصبح الصينيون فجأة على دراية كبيرة بالمواد المهمّة وكانوا ينظمون أنفسهم لتحقيق الاكتفاء الذاتي من كل هذه المواد التي تكمن وراء مجتمعنا التكنولوجي الحديث».
ويضيف: «يبدو أن حكومتنا لا تفهم أنّ تلك الثقافات خارج الساحل الشرقي الأمريكي قد تكون مختلفة عن ثقافتنا، على سبيل المثال، تستمر حكومتنا في إخبار ثاني أكبر اقتصاد في العالم [عملياً الصين هي الاقتصاد الأول حالياً لكن الأمريكان لا يعترفون بذلك - المحرّر]، وربّما أكثر الناس فخرًا في العالم بتراثهم الذي يبلغ آلاف السنين بأنّكم كاذبون وغشاشون وتحاولون إفسادنا وما إلى ذلك».
ولذلك يَعتبر الخبير الأمريكي أنّه أمرٌ طبيعيّ أنْ ينزعج الصينيّون من هذه المعاملة العنجهيّة التي تنتهجها واشنطن تجاه بكّين.
وفي حديثه علّق خبير المعادن الأمريكي هذا على زيارة جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية إلى بكين، قائلاً: «أراهن على أنها عندما هبطت من الطائرة وذهبت لرؤية أوّل صينيّ بدأ بإخبارها مباشرةً: ماذا تفعل بلادُكِ بحقّ الجحيم؟! تريدون أن تناقشوا الاقتصاد معنا بينما توجّهون الإهانات إلينا، وتطلقون علينا صفات المنبوذين، وعلى قائدنا العظيم أنه ديكتاتور وما إلى ذلك...».
ويتابع بأنه يعتقد أنّ هذه المشكلة مع الجرمانيوم والغاليوم لن تحلّ في وقت قريب: «حتى يصبح دبلوماسيّونا دبلوماسيّين فعلاً، وحتى يرى من يسمّون أنفسهم بخبرائنا في واشنطن أنّه لم يكن علينا الخروج من تجارة الجرمانيوم والغاليوم في الولايات المتحدة، وأنه يجب أنْ نعود لتطويرهما...».
«أسلحة دفاع اقتصادي» أخرى في ترسانة الصين
الصين أيضاً غنية بكثير من العناصر والمواد الأخرى. ربما التالي في الأهمية بخصوص أشباه الموصلات بعد الجرمانيوم والغاليوم، هو الأنتيموان (المعروف في التاريخ العربي باسم «الإثمد» أو «حجر الكُحل»). الصين أكبر منتج للأنتيموان في العالم، وتحوي الصين 24% من إجمالي احتياطياته العالمية (المقدَّرة عالمياً بـنحو 2 مليون طن). مثلاً مدينة لينغ شوا زانغ في مقاطعة هيوم الصينية تمتلك أكبر منجم للأنتيموان في العالم باحتياطيات 30 ألف طن، ويكفي منجمٌ واحد لتخديم صناعة الرقائق في كلّ العالم. وهذا العنصر (الذي رمزه بالجدول الدوري Sb) يعتبر ركيزةً مهمّة أيضاً لجميع رقائق أشباه الموصلات، ولا يمكن الاستغناء عنه في تطوير أجهزة صغيرة الحجم والتكلفة وخفيفة الوزن وذات استهلاك منخفض للطاقة.
فإذا أدرجت الصين الأنتيموان أيضاً ضمن ضوابطها للحدّ من تصديره فستعاني صناعة الرقائق العالمية مرّةً أخرى من صدمة كبيرة. ويجدر بالذكر أنه إلى جانب الصين، هناك دولة أخرى يمكنها أيضاً توفير الأنتيموان، وهي روسيا.
يلي ذلك بالأهمية، عنصر «الإنديوم»، والذي تمثّل الصين أيضاً صاحبة أكبر احتياطي منه في العالم بنسبة 72.7% من احتياطيات الإنديوم العالمية.
ليس هذا فحسب، فهناك أيضاً البلاتين، الذي رغم أنه لم يكن يعتبر فيما مضى مادة شبه موصلة، بل استخدمته الصين عموماً في صناعة الصّلب كالغلّايات والتوربينات من الفولاذ البلاتيني، ولكن اكتشف العلماء لاحقاً أنّ المادة الأولية تتميّز ببنية جزيئية ثنائية الأبعاد، لذا فهي مفيدة لإنتاج رقائق رفيعة للغاية ومادة ممتازة لأشباه الموصلات.