شوارع فرنسا متّقدة... وحكّام أوروبا يشربون «طاسة الرعبة»!
بعد شهور قليلة من موجة احتجاجات شعبيّة كبيرة كان الدافع المباشر لها محاولة حكومة البلاد فرض قانون جديد لسنّ التقاعد متجاوزةً الشعب والبرلمان؛ اتّخذت الجولة الجديدة من الاحتجاجات والاضطرابات من ضاحية باريس «نانتير» منطلقاً لها، وتحوّلت خلالها الشوارع الفرنسيّة إلى ساحات حرب ما بين المتظاهرين وقوّات الشرطة والأمن.
«دولة الحريّة» تعتقل الأحرار!
صدّر الإعلام العالميّ والعربيّ ما جرى بوصفه نتيجة مباشرة لمقتل الشاب نائل، ذي الأصول الجزائرية -المغربية برصاص شرطيّ فرنسيّ؛ وبوصفه الحدث الأساسيّ الذي تسبّب بما جرى، والذي لولاه لما كان ما كان. وإنْ كانت قد بدأت الاحتجاجات من ضاحية العاصمة الفرنسيّة، فلم تقف عندها بل انتقلت شرارتها إلى عدّة مناطق أخرى، لتعلن بعدها وزارة الداخليّة في «دولة الحريّة» فرنسا عن اعتقال ما يزيد عن 700 متظاهر، بعدما جرى اعتقال ما يزيد عن 850 معتقل إثر احتجاجات قانون التقاعد السابقة، فيما أشارت بعض التقديرات الرسميّة عن خسائر بالأرواح طالت عشرات المتظاهرين في الاحتجاجات الجديدة، وعن خسائر ماديّة جسيمة شملت إضرام النيران بنحو 1350 سيارة، وبحوالي 250 مبنى سكني.
«يعيشون في ألعابهم»!
تعاطت السلطات الفرنسيّة مع الاحتجاجات الجديدة، أمنيّاً بالنار، وإعلاميّاً-سياسيّاً بطريقة مُضحِكة عبر إلقاء اللوم على ألعاب الفيديو؛ الرئيس إيمانويل ماكرون قال: «لدينا شعور بأن بعضهم (يقصد المتظاهرين) يعيشون في شوارع ألعاب الفيديو التي أدمنوا عليها»... هي هكذا إذاً، المحتجون في فقه ماكرون يعيشون في ألعابهم، لا في شوارع فرنسا التي يعاني أهلها من الفقر والبطالة والتمييز والوضع الاقتصادي المعيشي الصعب، ولا في فرنسا التي تعاني من اضطرابات اجتماعيّة عدّة، ومن حالة قلق مستمرّ إثر تداعيات المعركة العسكريّة الجارية في أوكرانيا الآن والتي تموَّل من جيوبهم!
لكن، ولسوء حظّ ماكرون ودعايته الإعلاميّة-السياسيّة، فإنّ الاحتجاجات فتحت الملف المزمن المتعلّق بالإهمال والتهميش في الضواحي الفرنسيّة، كما أثارت مجدّداً القضايا المتعلّقة بالواقع الاقتصاديّ المتردّي، والتمييز والأقليّات وغيرها من المشكلات القائمة. وهذا بمجمله يحمل مؤشِّرات على أنّ المشكلة أكبر بكثير من كونها ردّ فعل على مقتل مراهق بعمر الـ 17 عاماً، كما يجري الترويج، بل تشير إلى حالة الغضب والاحتقان الموجودة لدى الشارع الفرنسيّ، وإلى حالة عدم الرضا التي بلغت مستويات عالية يمكن عندها أن ينهض الشارع ويتّقد لأيّ حادثة. وربّما هذا تماماً ما يفسّر حالة القلق والريبة التي يلاحظها المتابع لتصريحات المسؤولين الفرنسيين.
هذا ما يقلق راحة الغربيّين!
وبتوسيع دائرة النظر، يلحظ المتابع للأحداث وتطوّراتها، أنّ القلق ليس قلقاً فرنسيّاً فقط، بل قلقٌ غربيٌّ بصورة عامّة. فرغم التعاطي الغربيّ مع المسألة من زاوية نظر ترى الاحتجاجات بأنها هدأت، ووصلت لذروتها، وبدأت وتيرتها بالانخفاض؛ رغم ذلك، كانت حاضرةً أصواتُ القلق الأوروبيّة بقوّة (ألمانيا وإيطاليا مثالاً)، وأحد دواعي ذلك ربّما، هو طلب الفرنسيين من كيان الاحتلال المساعدة والمشاركة في عمليات القمع الجارية بحقّ المتظاهرين، وهو ما يعني عمليّاً أنّ جهاز الدولة الفرنسيّ بات عاجزاً، وغير قادر على السيطرة على الأحداث بمفرده، وهذا يعني تالياً أنّ احتمالات استمرار الاحتجاجات وتصاعد وتيرتها هو احتمال وارد في ظلّ عدم امتلاك السلطات الفرنسية الوزن الكافي لإنهاء الأمر، وإن لم نشهد هذا في هذه الجولة، فقد يكون في جولة أخرى قادمة لا محالة.
وهنا يبرز السؤال التالي: ماذا يعني استمرار الاحتجاجات وتصاعد وتيرتها في بلد محوريّ مثل فرنسا؟ يعني في الواقع أن تمتدّ هذه الاحتجاجات إلى جميع الدول الأوروبيّة، التي تعاني شعوبها ممّا يعاني منه الشعب الفرنسيّ، والتي تظهر بصورة واضحة حالة سخطها ممّا يجري في بلادها أيضاً. يبدو أن هذا بالضبط ما يقلق راحة الغربيين ويقضّ مضاجعهم، فالحركة الشعبيّة في فرنسا رافعةٌ للحركات الشعبيّة في عموم أوروبا، وهكذا كانت منذ زمن بعيد...
ظواهر فريدة
شهد الشارع الفرنسي ظواهر فريدة خلال موجتي الحراك التي يتم الحديث عنهما هنا، الظاهرة الأولى، هي وحدة الاتحادات النقابية العمالية الأربعة ومشاركتها جميعها في موجة الاحتجاجات ضدّ قانون رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً، وهذه الوحدة أمر غير سهل، وعلى الأقل هي لم تحدث منذ حوالي 10 سنوات في البلاد. أمّا الظاهرة الثانية، فهي قيام رجال الإطفاء - الذين عادة ما يتم استخدامهم لقمع المتظاهرين عبر رشهم بالماء - بالتظاهر ضدّ الشرطة.
مجمل هذه المعطيات والتفاصيل، تنبّه إلى أن الشعب الفرنسي وبعض الهيئات الممثلة له من قوى سياسيّة وغيرها يحزمون أمورهم باتجاه خوض معركة كسر عضم مع السلطات الفرنسيّة. وهذا يسمح بالتنبؤ بأنّ الاتجاه العامّ لتطوّر الأمور سيسير نحو مداه الأقصى عبر جولات جديدة من الحراك الشعبيّ، وأن الاحتجاجات التّالية ستذهب باتجاه أكثر عمقاً مع تطوّر الحراك وتجذّر شعاراته، وهذا أمر شديد الأهميّة، لكونه يسرّع من نشوء قوى طليعيّة حقيقيّة أكثر جذريّة في طروحاتها لحلول الأزمات التي تعاني منها البلاد.