التسوية السورية-التركية و«الإله الأمريكي»؟
قبل لقاء موسكو لوزراء الدفاع الروسي والتركي والسوري، كُتبت مئات المقالات التي تهاجم هذا المسار، أي مسار تسوية سورية تركية برعاية روسية وبدعمٍ ومبادرة من مسار أستانا.
المهاجمون توزعوا على فريقين كالعادة؛ متشددون في جهة المعارضة، وزملاؤهم في التشدد في جهة النظام. وكان جوهر الهجوم في حينه منطلقاً من أنّ المسار لن يُستكمل ويجب الضغط لعدم استكماله، وبقي الأمر كذلك حتى بعد أيامٍ من لقاء وزراء الدفاع.
في الأسبوع الأخير، يبدو أنّ المهاجمين قد اقتنعوا أخيراً أنّ هذا المسار ماضٍ حتى النهاية، ولن يتمكنوا لا هم ولا داعموهم من منعه. وعليه، فقد رأينا في الأيام القليلة الماضية، ودون مبالغة، عشرات المقالات التي تتمحور حول فكرة واحدة: «نعم، التسوية السورية التركية ماضية حتى النهاية، ولكن لن تؤدي إلى شيء، لأنّ الربّ الأمريكي هو وحده القادر على حلّ الأزمة السورية أو منعها من الحل».
تجريب المجرب
قبل الحكم على أيّ موقف جديد لكتاب هذا النوع من المقالات، وللقائلين بهذا النوع من الأفكار، لا بد من تذكر مواقفهم وتحليلاتهم السابقة؛ لأنّ أحد أمراض هذا العصر هو الذاكرة السمكية لوسائل الإعلام، وكذلك استخفافها بعقول الناس عبر الإصرار على الكذب وتكرار الكذب دون أي حياء ودون أي مراجعة لما سلف من أقوال ومواقف.
وكي لا نطيل الوقوف على أطلال هذه «الكتل» السياسية والإعلامية، نكتفي بالتذكير بأنّ القسم الأعظم من أصحاب مقولة «الإله الأمريكي القادر على كل شيء»، كانوا هم أنفسهم من رافضي بيان جنيف 2012 وبعدها باتوا من المتمسكين به، ومن ثم كانوا من رافضي 2254 وباتوا يعتبرونه صراطهم، وكانوا منافقين في كلا الحالتين. وكانوا من رافضي اللجنة الدستورية ولكنهم اشتركوا فيها، وكذلك رفضوا مسار أستانا بأسره، واضطر قسم كبير منهم إلى بلع لسانه عن انتقاده، وهكذا دواليك... (ومرة أخرى: في كل ما سبق، ينطبق الكلام على المتشددين في النظام وفي المعارضة على حد سواء).
ولما كان تجريب المجرب أمراً لا نفع منه، فإنّ الاستناد إلى تحليلات هؤلاء هو الطريق المباشر نحو عدم فهم أي شيء.
أفيون الوهم
مع ذلك، ربما من المفيد الوقوف عند بعض الأسباب التي تجعل من هذا النوع من الآراء، الأكثر رواجاً في وسائل الإعلام.
وسائل الإعلام العربية الأساسية، هي حتى اللحظة فرعٌ من وسائل الإعلام الغربية والأمريكية خاصة. وهذا يشمل وسائل الإعلام الخليجية والقطرية خاصة؛ ولذا ليس من الغريب أبداً أنّ الاعتراف بوحدانية الإله الأمريكي هو شرط ضمني للعمل ضمن هذه الوسائل.
في كل عمليات التحول التاريخي الكبرى، آخر ما يصيبه التغيير هو البنية الفوقية، وضمناً الأفكار والمعتقدات. قلة قليلة هي من تلتقط التغير قبل حدوثه وتتكيف معه مسبقاً وتعمل من أجله. الغالبية لا تدرك التغير بحجمه الكامل، حتى بعد وقوعه. هذا حال المتشددين في الطرفين.
كل ما يجري في العالم من صراع هائل بين القوى الصاعدة وبين القوى الغربية المتراجعة، لم يمنع حتى اللحظة خروج آراء حمقاء كل الحماقة من نمط أنّ الوجود الروسي في سورية هو «بتكليفٍ أمريكي»! وأيضاً آراء من نمط أنّه لن يكون هنالك حل دون موافقة أمريكية.
لا ينتبه هؤلاء إلى ما يجري من تغيرات، لا ينتبهون إلى أنّ هنالك كتلة دولية إقليمية حاضنة لتطبيق 2254 في سورية، قد قطعت شوطاً مهماً في التكوّن، تشمل هذه الكتلة كلاً من الصين، روسيا، تركيا، إيران، ومعهم دول عربية أساسية باتت علاقتها مع كل من الصين وروسيا علاقة استراتيجية لا رجعة فيها... هذه الدول بمجموعها، قادرة على فرض الحل في سورية دون الأمريكان، وبالرغم منهم.
بين الأسباب التي تجعل البعض مصراً على التمسك بأحبال الوهم الأمريكي، أنّه قد وضع كلّ بيضه في السلة الأمريكية... ومصير هذا البيض سيكون مؤلماً بحق، ولذا لا بد من جرعات كبرى من أفيون الوهم، لتخفيف الآلام...