لماذا يرفض ماكرون الاعتذار من الجزائر؟
في مقابلة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نشرتها يوم أمس مجلة «لو بوينت»، وعند سؤاله هل سيعتذر من الرئيس الجزائري تبون عن التاريخ الاستعماري لفرنسا، يقول ماكرون: «لا أرى ضرورة لطلب المغفرة، ليس هذا هو الهدف، لأن هذه الإيماءة يمكن أن تكسر كل الروابط. أسوأ شيء هو أن نقول إننا نعتذر ثم نذهب في طرق منفصلة».
إذا بحث المرء عن مثالٍ نموذجي عن وحشية الاستعمار الأوروبي، فلن يجد «أفضل» من نموذج الاستعمار الفرنسي للجزائر؛ ربما يكفي القول إنّ الفرنسيين قتلوا أكثر من مليون إنسان، وبشتى الطرق، خلال استعمارهم للجزائر.
من حيث المبدأ، فإنّ ماكرون نفسه، كشخص، قد ولد بعد استقلال الجزائر، وربما الغالبية الساحقة من المسؤولين الفرنسيين الذين على رأس عملهم، قد ولدوا بعد انتهاء استعمار فرنسا للجزائر، أو أنهم كانوا أطفالاً لا ذنب لهم في نهايات ذلك الاستعمار.
مع ذلك، يصر ماكرون، ومعه السلطة الفرنسية ككل، على تحمّل مسؤولية ذلك الاستعمار، الأخلاقية على الأقل، من خلال رفض الاعتذار... الأمر الذي يتطلب السؤال عن جوهر هذا الرفض ومعناه.
ربما كلمات ماكرون التي اقتبسناها أعلاه، هي نفسها تشرح عمق المسألة، وإنْ بشكلٍ مرمّزٍ وغير واضح؛ الاعتراف بجرائم فرنسا في الجزائر وطلب المغفرة، ليس أمراً بلا عواقب، إذ يترتب عليه عدة أشياء، بينها:
أولاً: الاعتراف بالجرائم، والاعتذار، يعني وضع الأساس القانوني للمطالبة بالتعويضات، والتي يمكن أن تكون فلكية بحق، وتعكس حجم النهب والإجرام الذي ارتكبه الفرنسيون في الجزائر.
ثانياً: أمر كهذا سيتحول إلى سابقة، تستخدمها المستعمرات الفرنسية السابقة، وخاصة في إفريقيا، للمطالبة هي الأخرى بالتعويضات.
ثالثاً: أخطر من هذا كلّه، هو «كسر الروابط» و«المضي في طرق منفصلة» وفقاً لكلام ماكرون، والذي يعني بالجوهر، إعادة بناء العلاقات بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، وفي إفريقيا خاصة، ضمن مقاربة جديدة، هي مقاربة الاحترام المتبادل للسيادة، الأمر الذي يعني ضمناً أنّ فرنسا عليها أن تخسر سطوتها وتسلطها في عدد كبير من بلدان إفريقيا، وخاصة في المجال المالي، وفي مجال الثروات الباطنية، وخاصة المعادن النفيسة.
رابعاً: الاعتذار وما سيترتب عليه، سيمتد أيضاً إلى الداخل الفرنسي، وإلى الفرنسيين الأفارقة على وجه الخصوص، والذين سيتحول وجودهم في فرنسا، رغم أن بعضهم هو من الجيل الثالث وربما الرابع من «المهاجرين»، سيتحول وجودهم من «منةٍ» و«فضلٍ» فرنسي، إلى حقٍ متأصل يستوجب المساواة الحقيقية في الحقوق والواجبات، ويستوجب عدالة في توزيع الدخل ليست النخبة الفرنسية في وارد التفكير بها من الأساس.
خامساً: فرنسا، بعدم اعتذارها عن تاريخها الاستعماري، لا تحمي ظهرها فقط، بل وظهر شركائها المستعمرين الآخرين، الذين هم أيضاً، ليسوا بوارد فتح أبواب الحساب التاريخي أمامهم...
أياً يكن الأمر، فالموضوع لا يتعلق بالماضي، بقدر ما يتعلق بالحاضر والمستقبل؛ فانتهاء مرحلة الاستعمار العسكري المباشر، لم تعني إطلاقاً انتهاء الاستعمار ككل. ما يزال الاستعمار الغربي الاقتصادي قائماً، وما تزال العقلية الاستعمارية قائمة. والاعتذار الآن لن يكون مجرد مصالحة أخلاقية مع الماضي، بل سيكون مسماراً إضافياً في نعش الاستعمار الجديد الاقتصادي، الذي يحتضر أمام أعيننا، والذي سنشهد عملية دفنه خلال حياتنا هذه...