مستقبل اتفاقيَّتي حبوب البحر الأسود والتصدير الزراعي الروسي
فيديل قره باغي فيديل قره باغي

مستقبل اتفاقيَّتي حبوب البحر الأسود والتصدير الزراعي الروسي

بين وقت وآخر تصدر تصريحات عن المسؤولين الروس على عدة مستويات تشتكي من عوائق ما زالت قائمة أمام التطبيق الكامل لاتفاقيَّتي حبوب البحر الأسود ومذكرة التفاهم لتصدير المنتوجات الزراعية الروسية، مع تصريحات تشير إلى بعض التقدم أحياناً أخرى. ورغم عدم التوضيح التفصيلي لمكامن المشكلات والعوائق، ولكن يُفهَم أنها على الأرجح تتعلّق بجانبين: عوائق من الجانب الأوكراني، وأخرى بسبب العقوبات الغربية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها وأتباعها من الاتحاد الأوروبي وكندا ودول أخرى على روسيا، ولا سيّما القيود على البنوك والتجارة.

ملخَّص اتفاقيتي «البحر الأسود»
و«المنتوجات الزراعية الروسية»

بتاريخ 22 تموز 2022 تم في إسطنبول التوقيع بالتوازي على اتفاقيّتين:

الأولى، هي «مبادرة النقل الآمن للحبوب والمواد الغذائية من الموانئ الأوكرانية» بين روسيا وأوكرانيا وتركيا، سارية المفعول لمدة 120 يوماً من تاريخ توقيعها وتتجدد تلقائياً للمدة نفسها ما لم يعلن أحد الأطراف النيّة بإنهائها أو تعديلها، وبالفعل تمّ تمديدها لمدة 120 يوماً إضافية بتاريخ 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. وبعد نحو شهر من ذلك (في 12 كانون الأول/ديسمبر 2022) صرّح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين بأنّ روسيا تريد تعديل هذه المبادرة لضمان وصول المزيد من الإمدادات الغذائية إلى أفقر دول العالم في إفريقيا وآسيا، علماً بأنّ الصفقة مرّرت 16 مليون طن من المنتوجات الزراعية إلى العالم (بحسب التصريحات التركية مطلع العام 2023). ولكن يبدو أنّ الغرب الغني والاستغلالي ما زال يستولي على حصة الأسد من الصادرات، كما سبقت وأشارت موسكو إلى ذلك بإسهاب وتركيز وتكرار.

 أما الاتفاقية الثانية التي وقّعت في اليوم نفسه فهي «مذكّرة تفاهم بين الاتحاد الروسي وأمانة سرّ الأمم المتحدة بشأن تعزيز المنتوجات الغذائية الروسية والأسمدة إلى الأسواق العالمية»، وبخلاف الاتفاقية الأولى قصيرة المدى، فإن هذه الثانية سارية المفعول لمدة 3 سنوات.

بالنسبة للاتفاقية الأولى فإنّ الأمم المتحدة ليست طرفاً مباشراً فيها، بل تلعب دور تيسير وتنسيق ومساعدة بالتنفيذ. وتضمنت الاتفاقية إنشاء «مركز التنسيق المشترك» في إسطنبول (JCC)، تتمثل فيه الأطراف الثلاثة والأمم المتحدة.

أما الموانئ الأوكرانية المنصوص عليها في الاتفاقية فهي ثلاثة: أوديسا، وتشيرنومورسك، ويوجني (بيفيدني)، وتبحر السفن المشمولة بها عبر ممرّ إنساني بحري متفق عليه ويكون محظوراً أنْ تقترب منه أيّة مَركبات حربية (من سفن أو طائرات أو درونات) إلا لمسافة محدّدة يُتّفق عليها في مركز التنسيق.

وتتعهد الأطراف بتقديم أقصى الضمانات الأمنية لجميع السفن والشحنات المشمولة بالاتفاقية، فلا يهاجم أيّ طرف السفن التجارية والمدنية والموانئ المشمولة بها. ويجب على أوكرانيا تحمل المسؤولية والسلطة عن كل النشاطات في مياهها الإقليمية. وتتشكل فرق تفتيش مشتركة (بما فيه قبل وأثناء المرور بمضيق البوسفور) لضمان عدم تمرير شحنات محظورة. وعند الحاجة لنزع الألغام يُستَعانُ بكاسحات ألغام من بلد آخر بالاتفاق بين جميع الأطراف.

بعد موافقة روسيا على تمديد هذه الاتفاقية في 17-11-2022 رغم شكواها من طريقة تطبيق بعض البنود، فسّر بعض المحلّلين الروس هذه الموافقة بأنها «حل وسط يخدم مصالح جميع الأطراف بما فيها مصالح روسيا»، وبرأيهم فإنّه بمجرّد بيع حبوب عام 2021 «سوف تستنفد الاتفاقية نفسها على الفور، لأنّ محصول 2022 في أوكرانيا، ولأسباب واضحة، صغير، وربما لن يكون هناك محصول على الإطلاق في 2023». وبالفعل تضاءلت صادرات أوكرانيا من المنتوجات الزراعية من 7 ملايين طن في شهري 9 و10 من العام المنصرم 2022، لتصبح 6 ملايين طن في شهر 11، ثم انخفضت بشدّة إلى 4 ملايين طن في الشهر الأخير من 2022. ولكنّ كييف لا تعزو ذلك إلى انخفاض إنتاجها بل، وكما صرّح أحد مسؤوليها الخميس 5–1–2023 فإنها تتهم موسكو بـ«إجراء عمليات التفتيش ببطء شديد» الأمر الذي ينفيه الجانب الروسي.

 1234

أما مذكّرة التفاهم الروسية-الأممية - والتي تشكو روسيا بأنّها ما تزال تواجه العراقيل الأهم المعيقة لتنفيذها بالكامل - فهي مذكّرةٌ شدّدت في نصّها منذ البداية على أنّ «الحق بالغذاء الكافي هو من حقوق الإنسان، والغذاء ليس مجرد سلعة». وأنّ من العوامل الأساسية للتعاون الروسي-الأممي «منع الجوع وتفاقم قضايا الأمن الغذائي – وبالدرجة الأولى في البلدان النامية والأقل تطوراً – عبر تأمين استقرار أسواق الغذاء العالمية بتسهيل الوصول للمنتوجات الزراعية، بما فيها الأسمدة والمواد الأولية الضرورية لإنتاج الأسمدة (بما فيها الأمونيا)، ذات المنشأ الروسي».

ونصّت الوثيقة على اتفاق روسيا مع الأمانة العامة للأمم المتحدة على مجموعة من الإجراءات لضمان وصول المواد الزراعية المذكورة أعلاه للأسواق وخاصة البلدان الفقيرة والنامية. ويمكن تلخيص مضمون هذه الاتفاقية بالنقطتين التاليتين:

  • تواصل روسيا التزويد التجاري للغذاء والأسمدة إلى البلدان التي بحاجة إليها، بما في ذلك الأمونيا وزيت عباد الشمس، وعبر مرافئ البحر الأسود التي تسيطر عليها أوكرانيا.
  • تسهّل الأمم المتحدة إزالة عوائق قطاعات المال والتأمين واللوجستيات التي قد تعترض طريق تصدير المنتوجات الزراعية الروسية والأسمدة. ونصّت الاتفاقية بصريح العبارة بضرورة إعفاء هذه المنتوجات الروسية من العقوبات الغربية: «إعفاؤها من الإجراءات المفروضة على الاتحاد الروسي، استناداً إلى مبدأ أنّ هذه الإجراءات لا تنطبق على الغذاء والأسمدة». 

أهمّية الأسمدة الروسية عالمياً

بحسب «معهد أبحاث سياسات الغذاء العالَمي» (IFPRI) الذي مقرّه في واشنطن، تمثل روسيا حوالي 15% من صادرات الأسمدة الآزوتية العالمية، بما في ذلك منتجات مثل الأمونيا واليوريا. كما وتمثل روسيا وبيلاروسيا بشكل مشترك حوالي 41% من صادرات البوتاس العالمية. وتعطيل تصديره من هذين البلدين دفع بدول العالَم للبحث عن مصادر بديلة. فالبرازيل مثلاً، وهي ثاني أكبر مستورد للبوتاس في العالم بعد الولايات المتحدة، كانت قد استوردت في الأشهر التسعة الأولى من عام 2021 حوالي 20% من وارداتها من البوتاس من بيلاروسيا. ولكن في الفترة نفسها من عام 2022، انخفضت هذه الكمية بنسبة 46%، وهو ما يمثل أقل من 10% من إجمالي واردات البرازيل من البوتاس. واضطرّت البرازيل للاستعاضة عن جزء كبير من البوتاس البيلاروسي باستيراد البوتاس الكندي (بزيادة 37% عن مستويات العام الماضي من يناير إلى سبتمبر).

بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا والعقوبات الغربية على روسيا، توقفت روسيا وبيلاروسيا عن إبلاغ منظمة التجارة العالمية بياناتهما التجارية المتعلقة بتصدير الحبوب والمنتوجات الزراعية.

وبحسب التقديرات غير المباشرة لمعهد IFPRI في واشنطن اعتماداً على بيانات الدول المستوردة، تراجعت صادرات القمح الروسي بنحو 11% عن مستويات عام 2021 بين كانون الثاني وآب، ثم تعافت بعد ذلك. كما انخفضت خلال الفترة نفسها صادرات الأسمدة من روسيا مقارنة بمستويات 2021، وانخفضت صادراتها من البوتاس واليوريا بنسبة 16.5% و22.8% على التوالي. أما صادرات روسيا من فوسفات ثنائي الأمونيوم فتجاوزت 8% فوق مستويات عام 2021.

أما الانخفاض الأهم في تصدير الأسمدة فحدث في صادرات روسيا من «الأمونيا اللامائية» (بانخفاض 63%) والبوتاس من بيلاروسيا (بنسبة 50%).

يتم شحن هذه المنتوجات تقليديًا عبر موانئ في الاتحاد الأوروبي (كالبوتاس من بيلاروسيا) أو موانئ أوكرانيا (كالأمونيا الروسية، التي شحن منها في العام الماضي حوالي 4.4 مليون طن، 45% منها عبر موانئ البلطيق و55% عبر العالم). وأطول خط أنابيب للأمونيا هو الممتد من تولياتي على نهر الفولغا إلى ميناء بيفديني بالقرب من أوديسا بأوكرانيا وقد تأثر بسبب الحرب.

ولصادرات الأمونيا تحديداً مشكلة خاصة تتعلق بعدم تفريق العقوبات الغربية بين استخدام هذه المادة الكيميائية من أجل الأسمدة ومن أجل تطبيقات أخرى غير الأسمدة، مما قلل من فائدة ما يتحدث عنه الغرب من «إعفاءات» بخصوصها وجعلها مسألة معقّدة في التطبيق العملي ومحفوفة بالمخاطر بالنسبة للشركات والدول.

الأهم من ذلك، أنّ بعض هذه المنتجات جزء من سلسلة القيمة العالمية لإنتاج الأسمدة - وبالتالي فإنّ الاضطرابات في مدخلات معينة يمكن أن تعطّل إنتاج المواد المركَّبة في بلدان أخرى. المغرب هو ثاني أكبر مصدر لمنتجات الفوسفات في العالم، ولا سيّما ثنائي فوسفات الأمونيوم (DAP) وفوسفات الأمونيوم الأحادي (MAP)، بالإضافة إلى رابع أكبر مستورد للأمونيا اللامائية، التي تُستورَد تقليديًا من دول مثل روسيا والجزائر. وبالتالي فإنّ الانخفاض الحاد في واردات الأمونيا اللامائية من روسيا (والجزائر) قد دفع المغرب للبحث عن مورّدِين بديلين في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2022 وخاصة من مصر والمملكة العربية السعودية.

قبل انتهاء الفترة الأولى من صفقة حبوب البحر الأسود في 19 نوفمبر أبلغت روسيا الأمم المتحدة بأنّ تمديد مبادرة حبوب البحر الأسود يعتمد على تخفيف الغرب للقيود المتبقية على صادرات روسيا الزراعية والأسمدة، بما في ذلك إعادة فتح خط الأنابيب اللامائي إلى أوديسا.

قد يختار المستوردون عدم الشراء من روسيا وبيلاروسيا بسبب التكاليف الإضافية لممارسة الأعمال التجارية (كالاضطرار إلى التعامل مع تعقيدات مصرفية إضافية)، أو بسبب الامتثال المفرط للعقوبات خوفاً من بطش واضعيها بالشركات التي قد تتجاوزها.

وتزعم الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها الغربيين أنهم حاولوا تخفيف الخوف «المفرط» من التورط بمخالفة العقوبات، وذلك بإصدار ما أسموه «رسائل راحة» أو «طمأنة» زعموا أنّ من شأنها «تسهيل تصدير بعض المنتجات الأساسية من روسيا من خلال توضيح أنّ العقوبات ليست مطبقة عليها».