«إسرائيل» تفضحُ قلقَها من انهيار «عُملة التطبيع» المرتبطة بالدولار
وفقًا لاستطلاع رأي أجراه في مارس/آذار الماضي «معهد واشنطن» الذي أسسته «لجنة العلاقات الأميركية-الإسرائيلية» المعروفة اختصارًا بـ«آيباك»، فإنّه قد زادت إلى أكثر من الثلثين نسبة المواطنين في البحرين والسعودية والإمارات الذين ينظرون بشكل سلبي إلى اتفاقيات التطبيع مع كيان الاحتلال، وذلك بعد أقل من عامين على توقيعها. ويبدو أن هذا الميل قد لا يطول به الوقت حتى يتوصّل من لم يقتنعوا بعد بأنّ مسار التطبيع مصيره الإفلاس إلى هذه القناعة، حتى في أوساط من سمّاهم تحليل أمني «إسرائيلي» حديث بالـ«البراغماتيين العرب» ظهر مؤخراً على خلفية فشل زيارة بايدن للمنطقة من جهة، مقابل مؤشرات دور أكبر سيتعاظم لثلاثي أستانا من جهة أخرى.
في هذا السياق تأتي زيارة الكيان إلى المغرب أشبه بـ«هرولة» ضمن محاولات لـ«تلميع» التطبيع وسط فشل الكيان وداعميه بإبقاء «عملة التطبيع» ذات «قيمة» ما قد «تغري» أطراف جديدة بقبولها، أو قابلةً للتداول حتى لدى نخب ضيقة تظن أن بإمكانها «صرفها» حتى ولو لمصالحها الضيقة. فواشنطن و«إسرائيل» بل والحركة الصهيونية العالمية (كما يتضح من الضربة التي تتلقاها مؤخراً في ملف الوكالة اليهودية في روسيا) قد وصلوا جميعاً إلى مستوى من الضعف والتأزم لا يستطيعون فيه سوى محاولة المزيد من التخريب والنهب وإشعال حروب العدوان وتشديد التعامل الاستعبادي التاريخي مع أتباعهم والمطبّعين معهم أو الواهمين بأنّ لهم مستقبلاً معهم، لدرجةٍ تجعل حتى أولئك «البراغماتيين» – وحتى من منطلق «براغماتي» بحت للمفارقة الساخرة – يحسبون ألف حساب قبل الإقدام على أية خطوة إضافية في تعزيز تطبيع قائم أو ارتكاب حماقة تطبيع جديد (اللهم إلا شديدو الغباء أو شديدو الإفلاس السياسي)، هذا إذا لم يكن حتى التراجع خطوات تحت ضغط الزلازل الجيوسياسية التي تشقّ الأرض من مشرقها إلى مغربها وتبتلع العالم أحادي القطب المهيمَن عليه غربياً وأمريكياً وصهيونياً وتفتح الطريق لتشكل العالم الجديد.
استطلاع يحمل دلالة مهمة
اعتبارًا من آذار/مارس من هذا العام 2022 تراجعت بشدة نسبة من يرون اتفاقات التطبيع «إيجابية»، فوفق استطلاع «معهد واشنطن» المشار إليه في المقدمة: في الإمارات العربية المتحدة، أعرب 25% فقط عن دعمهم للتطبيع، مقارنة بـ 71% رأوه سلبياً أو سلبياً للغاية، أما في البحرين فكانت الأرقام 20% مؤيد و76% ضدها. وتتراجع أيضاً نسبة السعوديين المهتمين بالتطبيع مع «الإسرائيليين».
وبالمقارنة مع النتائج الجديدة، نجد أنه سابقاً في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020، كشفت بيانات الاستطلاع الأول أنّ 41% من السعوديين كانوا يرون اتفاقات التطبيع «إيجابية» أو «إيجابية للغاية»، مقابل 54% عارضوها، وهكذا يظهر الاستطلاع الحالي انخفاضًا حادًا في نسبة المؤيدين: 19% فقط مقابل 75% من المعارضين. ورأى 47% من المستطلعة آراؤهم في الإمارات العربية المتحدة الاتفاقات في ضوء «إيجابي»، مقابل 49% عارضوها، وفي البحرين رأى 45% أن الاتفاقات «إيجابية»، وعارضها 51%، أي أن النسبة كانت متساوية في الحجم مع أغلبية طفيفة للمعارضين. وبالطبع يجب علينا أن نأخذ هذه الأرقام بتحفظ لكون الجهة التي أجرت الاستطلاع صهيونية عملياً (معهد واشنطن الذي أسسته الآيباك) وربما هذا يضيف قيمة في الحقيقة للميل العام الذي أظهره الاستطلاع والذي ربما حاول التخفيف من شدّته ومن المتوقع أن تكون شدّته وأرقامه أسوأ في الواقع بالنسبة للكيان مما تم عرضه.
وعلّقت وسائل إعلام «إسرائيلية» أنه في الفترة التي سبقت زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة، قيل الكثير حول إمكانية اتخاذ السعودية إجراءات تطبيع، وقد تم اتخاذ بعض الخطوات، ولكنها سرّية و«خجولة» وليست علنية، على سبيل المثال: الإعلان عن فتح المجال الجوي أمام الشركات «الإسرائيلية» لم يأتِ على ذكر «إسرائيل» وتم نشره عمداً في منتصف الليل.
تقييم أمني «إسرائيلي» يفشي قلق الاحتلال
في سياق متصل بتقييمات حديثة داخل الكيان، لزيارة بايدن الأخيرة وكذلك لقمة طهران والتطبيع العربي، نشرت القناة 12 التابعة لإعلام الاحتلال في 24 من يوليو/تموز 2022 مقالاً للعميد يوسي كوبرفاسر، الرئيس السابق لقسم الأبحاث في شعبة جهاز الاستخبارات العسكرية «الإسرائيلية» المعروف بالعبرية اختصاراً بجهاز «آمان»، وكوبرفاسر هو أيضاً باحث فيما يسمى «مركز القدس للشؤون العامة وشؤون الدولة».
أول ما يلفت الانتباه في كلام كوبرفاسر هو أمران مرتبطان ببعضهما: أولاً، خيبة الأمل الصهيونية من زيارة بايدن حتى أنه وصفها بـ «ضجة مهرجان زيارة بايدن» ومن جهة ثانية الحقد الكبير الواضح تجاه قمة طهران التي جمعت رؤساء دول ثلاثي أستانا (روسيا وإيران وتركيا) حيث يصفها كوبرفاسر بـ«قمة الجُّذام» (نسبةً لمرض الجذام المعروف بالتشويهات البشعة التي يحدثها في وجه وجسم المصاب)، مما يعطي مؤشراً على مدى الألم الصهيوني من أيّ تقارب مهمّ على ساحة «الشرق العظيم» نحو حلّ المشكلات الإقليمية وتعزيز التعاون البيني بعيداً عن الصهيوني والأمريكي، وهذا الانزعاج متوقع وطبيعي تماماً من هذا الكيان العدواني المزروع كالسرطان الخبيث للتفريق والتخريب والتدمير والنهب.
ويلاحظ كوبرفاسر «اضطرار الولايات المتحدة للتصالح شيئًا فشيئًا مع الواقع الصعب الذي يتضمن تهديدًا حقيقيًا لمصالحها الحيوية، وحاجتها للقتال من أجل النظام العالمي تحت قيادتها» ويوضح صراحةً أن المقصود بتهديد مصالحها الحيوية هي «روسيا والصين وإيران ودول أخرى، وهي تهدد أيضاً النظام الإقليمي في الشرق الأوسط». ويوضح أكثر بأنه يرى «التركيز الأمريكي حتى وقت قريب على التوترات مع روسيا والصين أضر باجتماع المصالح بين الولايات المتحدة و(إسرائيل) ودول الخليج، التي لا تعتبر روسيا والصين تهديدات لأمنها». ويقرّ هذا الضابط والباحث الأمني «الإسرائيلي» بأنّ «زيارة بايدن تعكس صعوبة الاعتراف الأمريكي بمعاني الواقع الجديد الذي نشأ في أعقاب الحرب في أوكرانيا» ملاحظاً أيضاً الخطر على «إسرائيل» من «إدراك الإيرانيين والسعوديين لذلك وإظهارهم موقفًا صارمًا ضد التوقعات الأمريكية منهم». وكذلك من «رفض السعودية الاستجابة الفورية للمطلب الأمريكي بزيادة إنتاج النفط» ويقرؤها ضمن «تآكل دور الولايات المتحدة في المنطقة خصوصاً منذ الانسحاب المحرج من أفغانستان، في صورة من الضعف تضرّ بمكانة حلفاء الولايات المتحدة الذين يتردّدون في مواجهة إيران» وفق تعبيره.
ويعرب كوبرفاسر عن أنّ ما جرى أقل مما كان مأمولاً «إسرائيلياً» في ملف التطبيع من زيارة بايدن التي «ساهمت قليلاً فقط» في التطبيع مع ما وصفها بـ«الدول العربية البراغماتية» ذاكراً «السماح بالتحليق فوق سماء المملكة العربية السعودية والاتفاق من حيث المبدأ على رحلات جوية مباشرة من (إسرائيل)». وربما يشفّ كلام كوبرفاسر هذا عن أحد أبعاد اختيار «إسرائيل» لأهداف أسهل وأصغر مثل المغرب وكأنها تقول «أرأيتم؟ أنا ما زلت هنا، وثمة من يحبّ أن يطوّر التطبيع معي»، وخاصةً أنّ المغرب ذو علاقات سيّئة مع الجزائر التي تتقارب أكثر مع روسيا.
الخيبة «الإسرائيلية» من فشل فكرة «الناتو العربي»
يعرب الخبير الأمني الصهيوني بشكل واضح عن خيبة الأمل هذه ويسارع إلى التخفيف منها بتعليق آمالٍ أصغر على إحراز شيء ما لحفظ ماء الوجه فيقول: «لم تنطلق فكرة نظام دفاع إقليمي مشترك خلال الزيارة، لكن هذا ليس سببًا للتخلي عنها، وعلى طول الطريق يمكن دراسة سبل تعزيزها، ربما على أساس التعاون الثلاثي بين (إسرائيل)، الولايات المتحدة وكل من الدول العربية البراغماتية حسب احتياجاتها. زيارة رئيس الأركان للمغرب هي خطوة في هذا الاتجاه». وهكذا يعتبر كوبرفاسر «بايدن غير قادر على التحدي» وبالتالي «يجب على (إسرائيل) ألا تعتمد عليه في العمليات الإقليمية المهمة» على حد تعبيره.
ولكنه يختم تحليله بالإفصاح عن غلبة التشاؤم على التفاؤل لدى الكيان المأزوم وضغط عامل الزمن عليه أيضاً، فيقول بشأن ما تأمله «إسرائيل» من «تغيّرات إيجابية» بالنسبة لها: «إذا تأخّرت التغييرات أو لم تتحقق على الإطلاق بسبب العقبات التي يواجهها بايدن، فستزيد فرصة استفادة الآخرين الذين يتحدّون الترتيب الحالي وموقف الولايات المتحدة، ومحاولتهم تعزيز الترتيب الذي يريدونه هم، مما يؤدي إلى تفاقم المخاطر على (إسرائيل)...».