«قنابل» روسية–إيرانية من العيار الثقيل
أثار توقيت زيارة الرئيس الروسي إلى طهران في شهر تموز الجاري، الكثير من التساؤلات المرتبطة بتوقيتها والقضايا الموضوعة على جدول الأعمال، ففي الوقت الذي ركّز فيه الإعلام على توريد الطائرات المسيَّرة الإيرانية إلى روسيا – وهو ما لم يجرِ تأكيده حتى اللحظة – غابت القضايا ذات التأثير الاستراتيجي الأكبر. فما هي النتائج الثلاث الأبرز لهذه الزيارة؟
وقعّت إيران وروسيا في العام 2001 أوّل اتفاقية للتعاون الاستراتيجي غطّت عقدَين من تاريخ العلاقات بين البلدَين، اللّذين ينخرطان اليوم في التحضير لاتفاقية جديدة بعد انتهاء صلاحية السابقة، وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية لم يجرِ التصديق عليها أو نشرها بعد، إلا أنّ المباحثات حولها باتت في المراحل الأخيرة حسب تأكيدات المسؤولين من البلدين، مع ذلك ظهرت على السطح في الأسابيع الماضية بعض ملامح هذا التعاون والذي انطلق بالفعل.
التعامل بالعملات المحلية
على الرغم من الرغبة المعلنة لدى إيران وروسيا في التخلي عن الدولار في التعاملات التجارية بين البلدين، إلا أنّ معوّقات مختلفة أعاقت تحوّل هذه الرغبة إلى واقع، إلى أنْ أعلن محافظ المصرف المركزي الإيراني علي صالح آبادي عن بدء التعامل بالريال الإيراني مقابل الروبل الروسي، ووصف المسؤول المالي ما يجري بالـ «الحدث الكبير» مؤكداً أنه مع اختتام أعمال القمة الثلاثية لإيران وروسيا وتركيا في 20 تموز الجاري تم بيع مليوني روبل روسي في السوق المحلّية، وأضاف أنَّ العملية انطلقت وسوف تتوسَّع بشكلٍ كبير في الفترة القادمة، وستزداد حصة الروبل والريال من حجم التبادلات التجارية بين البلدين معلناً أنّ «اليورو والدولار لن يكونا حاسمَين بعد الآن». توقيتُ هذه الخطوة حمَل الكثير من الدلالات السياسية، فعلى الرغم من أنّ روسيا وإيران تحدَّثتا حول هذه الخطوة منذ العام 2017، إلا أنّ الظرف السياسي لم يكن بمستوى النضج المطلوب، فعلى الرغم من أن بعض المراقبين يعزون هذا التأخر إلى صعوبات تكنيكية لربط الأنظمة الاقتصادية والمالية المختلفة للبلدين ببعضهما، إلا أنّ العامل السياسي كان دون شك المسبب الأكبر لهذا التأخير، فتخلّي إيران عن الدولار في التعاملات التجارية مع البلدان الأخرى يعني القفز فوق العقوبات الأمريكية وهو ما يشكّل تصعيداً سياسياً كبيراً ربما لم تكن إيران مستعدّة له، هذا بالإضافة إلى المخاوف الموجودة داخل إيران من الخلل في الميزان التجاري بين روسيا وإيران لصالح الأولى مما يعطي الروبل ميزة أكبر بالمقارنة مع الريال الإيراني. ويضاف إلى ذلك وجود مؤشرات (سنتطرق لها في نهاية هذه المادة) أعاقت هذا التوجه داخل روسيا. لكن الإعلان السياسي الاقتصادي المذكور يعني أنه تم البدء بتجاوز هذه المعوّقات بكافة أشكالها التقنية المالية والسياسية. وسيسهم المناخ الدولي الحالي بإنجاز الهدف النهائي بسرعة أكبر.
استثمارات روسية ضخمة
قدرة النظام الإيراني العالية على المناورة لم تحمِ قطاع النفط من الأضرار التي لحقت به بالفعل بعد انسحاب الولايات المتحدة من «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2018 من طرفٍ واحد، وفرض عقوبات شديدة استهدفت بشكلٍ أساسي قطاع النفط الذي يعدّ الرافد الأهم للخزينة الإيرانية. روسيا وفي ظلّ المتغيرات الكبرى التي تجري عالمياً، وخصوصاً تلك المرتبطة بقطاعات الطاقة الاستراتيجية، تبدي اهتماماً كبيراً في الاستثمار بقطاع الطاقة الإيراني، وأعلن الرئيس التنفيذي لشركة النفط الوطنية الإيرانية محسن خُجسته في هذا السياق عن عزم روسيا ضخ استثمارات تفوق 40 مليار دولار، والتي تستهدف تطوير 3 حقول للغاز و6 حقول نفطية إيرانية، بالإضافة إلى استكمال مشاريع للطاقة تتركز في المناطق الجنوبية والخليج. حصة غازبروم الروسية كانت الأكبر في هذه العقود، والتي ستشكل نسبة كبيرة من الخطة الاستثمارية الشاملة التي تطمح لها الحكومة الإيرانية، والتي بلغت حسب التصريحات حوالي 160 مليار دولار.
تعتبر إيران والتي أنتجت في سبعينيات القرن الماضي أكثر من 6 مليون برميل يومياً، منتجاً أساسياً وازناً. واحتياطيات النفط المؤكدة في إيران بحسب حكومتها، تحتلّ المرتبة الرابعة عالمياً الذي يبلغ المؤكَّد منه 208 مليارات و600 مليون برميل (وكان لا يقل عن 150 مليار برميل اعتباراً العام 2013)، وذلك على الرغم من أنّها تحتل المركز الثالث إذا ما استبعدت الاحتياطيات الكندية من النفط غير التقليدي. وهذا يقرب من 10% من إجمالي احتياطيات النفط المؤكَّدة في العالم.
التضييق الغربي على إيران فَرَضَ عليها بناء شراكات ثابتة باتجاه الشرق، فعلى الرغم من العقوبات الأمريكية الشديدة تؤكّد الصحافة الإيرانية نقلاً عن مسؤولين في وزارة النفط تصدير إيران مليون برميل من النفط يومياً تذهب أغلبها إلى بكين، التي امتلكت الجرأة الكافية لتجاهل عواقب العقوبات الغربية. وإذا نجحت إيران بالتعاون مع روسيا في إنجاز الخطة الاستثمارية الواعدة، ووجدوا الحلول الضرورية لتجاوز العقوبات ستسهم إيران بشكل كبير في السوق العالمية بمساعدة الاحتياطي الكبير المذكور أعلاه، وسيكون قطاع الطاقة الإيراني قادر على تأمين الطلب الضروري للتطور اللاحق لدول الجنوب النامية وخصوصاً أنّ تطور هذا القطاع في هذا الظرف بالتحديد وفي ظل المساهمة الروسية الكبيرة لن يتحول إلى أداة للضغط على الصين أو روسيا بل سيكون صمّام أمانٍ إضافيّاً للدول الصاعدة.
انطلاق ممر دولي استراتيجي
تجد روسيا أفقاً لشراكة استراتيجية كبرى مع إيران التي عانت من العقوبات الغربية لعقودٍ طويلة، وبعد حِزَم العقوبات التي تعرَّضت لها روسيا مؤخراً بات العمل مع إيران أقلّ مجازفةً ويضمن حلولاً دائمة لكثير من المشكلات الماثلة أمام البلدين. فروسيا التي رأت في أوروبا لمجموعة من الأسباب السياسية والتاريخية والجغرافية الشريك التجاري الأهم، وجدت أنّ هذه العلاقات لم تكن كافية لردع أية أعمال عدوانية من قبل هؤلاء الشركاء! وهذا ما عزز الآراء القديمة الموجودة في روسيا والتي ترى أن هذه الأخيرة لم تستخدم جذورها الآسيوية إلى الحد الأقصى بعد، وظلت مشاريع الربط مع دول الجنوب متواضعةً إذا ما جرت مقارنتها بنظيرتها في القسم الأوروبي، وهو ما أثبت الواقع الحالي أنّه عاملُ ضعفٍ في الأمن الوطني الروسي، وبابٌ جيّدٌ للضغط وابتزاز موسكو. كلّ هذا وغيره من الأسباب أعاد إلى الواجهة أحد المشروعات القديمة، والحديث هنا عن الممر الدولي للنقل بين الشمال والجنوب International North South Transport Corridor المعروف اختصاراً بـ «INSTC». والذي يربط سانت بطرسبورغ بالساحل الغربي للهند عبر إيران. هذا الممر والذي يشقّ طريقه من روسيا عبر بحر قزوين إلى الموانئ الإيرانية شمالاً، لينتقل عبر الخليج العربي وصولاً إلى الهند، شكّل عاملَ جذبٍ للدول الثلاث، لكن حجم التبادل التجاري المتواضع لم يكن حافزاً كافياً لتفعيل هذا الطريق الحيوي، ويبدو وضوحاً أنّ منبع المشكلة هو أنّ النسبة الأعظم من تجارة روسيا كانت مع الدول الأوروبية. ومع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بدأت موسكو تواجه صعوبات مؤقتة في إيجاد سوق تصريف بديلة لبضائعها. وتشكّل الهند وإيران أسواق واعدة قادرة على حل هذه المشكلة، مما أعاد «INSTC» إلى دائرة الضوء. ولذلك انطلقت في شهر آب الماضي أول شحنة تجريبية وكانت عبارة عن حاويتين محملتين بالأخشاب من روسيا إلى الهند، ليبلغ عدد الحاويات في شهر تموز الحالي 39 حاوية نُقلَت عبر الممر الذي يتمتع بميزات إضافية، إذ يوفّر ما يصل إلى 30% من تكلفة النقل السابقة من روسيا إلى الهند والتي كانت تتم عبر أوروبا إلى البحر المتوسط فقناة السويس والبحر الأحمر وخليج عمان من ثم إلى الهند، ويختصر من المدة التي كانت تستغرق ما بين 40 إلى 60 يوماً في الطرق السابقة لتستغرق عبر الممر الجديد ما بين 25 إلى 30 يوماً فقط. هذا بالإضافة إلى كونه لا يمر من باكستان أو كازخستان وهو ما يحقق الطمأنينة بالنسبة لروسيا والهند.
الصدام المباشر بين روسيا والغرب يُبعِدُ بشكل سريع القوى الروسية التي أعاقت بناء علاقات متينة مع الشرق، فإذا ما نظرنا لهذه التطورات بوصفها نتيجةً للصدام الأخير يمكننا القول إنّ الأسواق الكبيرة الواقعة في الجنوب كانت متعطّشة بالفعل لتعاون أكبر مع روسيا، إلى تلك الدرجة التي باتت فيها قيمة التبادل التجاري تُحقّق نمواً سريعاً وملحوظاً ويمكن رصدُ هذا التطور بوضوح في الهند وإيران والصين وغيرها من الدول. هذا بالإضافة إلى تفعيل الكثير من المشاريع القديمة التي وُضِعَتْ مخططاتُها منذ سنوات لكنها بقية دون تنفيذ، ويعدّ التبادل بالعملات المحلية والممر البري الاستراتيجي «INSTC» خيرُ مثالٍ على ذلك. هذه التطورات ستحملُ آثاراً كبيرة جداً على مجمل العلاقات الدولية وسلاسل التوريد وتقسيم العمل الدولي السابق، هذا بالإضافة إلى أنها تمهّد لإعادة إحياء طرق تجارية فَرضتْ الهيمنة الغربية تهميشَها ممّا حرمَ دول آسيا من الحفاظ على روابطها التاريخية.