عشتار محمود
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
هنالك ظاهرة ملفتة في الإحصائيات السورية في السنوات الأخيرة، وهي: زيادة كبيرة في نسبة الاستثمار من الناتج... أي أن جزءاً أكبر من الدخل المنتج سنوياً، يذهب للاستثمار المحلي. بينما نسبة أقل تذهب للاستهلاك، سواء الاستهلاك الخاص الذي يشكّل استهلاك الأسر معظمه، أو الاستهلاك العام الذي تنفقه الحكومية.
رفعت الحكومة السورية أسعار الأساسيات مجدداً ودفعة واحد: الخبز 100%، المازوت 277%، مع زيادات ستتلاحق في المواد التي لا تزال الدولة تديرها، وكان أولها: الأعلاف، ورفع تعرفة النقل، ولن تكون آخرها. وهذه المرّة ترافق الرفع مع زيادة الأجور بنسبة: 50% ونصل إلى حدود 24 دولار حد أدنى! وذلك بعد أن تمّ تجميد الزيادات منذ نهاية 2019 رغم تضاعف مستويات تكاليف المعيشة أكثر من مرتين ونصف منذ ذلك الرفع وحتى اليوم.
يركّز الغرب اليوم على ملف المعابر، ويضع قضية مصير معبر باب الهوى الملف رقم واحد في الأزمة السورية الآن، والمسألة ستحسم في اجتماع 10 تموز لمجلس الأمن لمناقشة تمديد القرار 2533: هل سيمدد فتح معبر باب الهوى، أم سيستأنف إعادة فتح معابر أخرى خارج سيطرة الحكومة، أم ستغلق كل المعابر الحدودية، وتصبح المساعدات محصورة بالوصول إلى دمشق وعبر المرافئ السورية؟!
الطاقة والخبز، ربما لا يوجد ما يكثف الأسس المادية الاقتصادية لأي بناء اجتماعي أكثر من هذين المكوّنين... الخبز الكافي للبقاء، والطاقة اللازمة للإقلاع والعمل. إنّ توفّر هذين المكونين هو الحد اللازم وغير الكافي لضمان الأمان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وعندما تكون البنية الاقتصادية السياسية (متساهلة) مع أزمات الخبز والطاقة فإنها عملياً لا تبحث عن أسس البقاء أو الإقلاع للأمام، وهي غير مبالية بالسقوط في الهاوية.
كل ما نستخدمه في حياتنا اليومية يرتبط بدارات صغيرة جداً تُسمّى بالرقائق الإلكترونية CHIPS، من الكمبيوترات الفائقة إلى الهواتف الخليوية، وصولاً إلى ما يشغّل الراديو في السيارة، فمختلف المعدّات اليومية تحتوي على الرقائق. التي ينتج منها عالمياً ما يقارب تريليون سنوياً، إنّ هذه الصناعة تتحول إلى (النفط العالمي اليوم) وربما يمكن تشبيه تايوان- حيث تنتج معظم أشباه الموصلات اليوم- بمضيق هرمز بالأمس، حيث تعبر معظم الطاقة العالمية، بل ربما يتجاوزه أهمية.
رفعت الحكومة أسعار الخبز والدواء، ورفعت تسعيرة المستوردات: الزيوت، وعلف الدواجن، والحليب المجفف، والسكر... إنّ هذا الأمر متوقع وسيستمر، فالحكومة تدير شؤون الأقوى: المستوردين باعتبارهم مجالاً حيوياً لقوى النفوذ والتطفل، والصناعين بمستوى أقل، حيث لا يزال لديهم بعض الوزن، ولكن خارح حساباتها أكثر من 15 مليون ممن لا حول لهم ولا قوة. فبالنهاية الحكومة تدير لصالح الحكم، والحكم لا يرى المجتمع إلا بمقدار ما يملك من مال وقوّة.
الواقع الاقتصادي السوري محكوم بالسياسة بكل تفاصيله ويومياته، وهو في مطب عميق لا يمكن الخروج منه بأنصاف الحلول... بل فقط بتسوية سياسية شاملة تعيد تشكيل وجه البلاد وتجمع أجزاءها وتنهي شتات أبنائها. تدرك جميع القوى الفاعلة سياسياً واقتصادياً في الوضع السوري هذا بوضوح، سواء من يريد الاستثمار في إعمار سورية ومستقبلها، أو من يستثمر في خرابها اليوم! قوى «الاستثمار» هذه تقطّع الوقت حتى تتجلى طبيعة وإمكانات الشراكات المقبلة بمنظورهم. ولا أحد ضمنها يسعى جدياً في المرحلة الحالية للقيام بأية خطوة إلا بمقدار ما يمنع الانهيار الشامل، ويسمح بالبقاء عند حافة الهاوية.
ها هو سعر الصرف ومستويات الأسعار تستقر نسبياً لمدّة شهرين على التوالي، وهو أمر يستحق الرصد في الوضع السوري، بعد أن أصبح المسار المتدهور لليرة متسارعاً منذ نهاية عام 2018، وقد بلغ ذراه في الأشهر الثلاثة الأولى من 2020 ومن العام الحالي. فهل هذا الاستقرار الحالي مستدام؟ وبماذا يرتبط؟ وما علاقة أمراء الحرب؟
مليون ونصف هكتار من الأراضي الزراعية السورية مزروعة بالقمح في الموسم الحالي، وعادت المساحات لتتماثل تقريباً مع مستويات عام 2010... ولكنّ هذا النجاح الموعود لم يكتمل لأن معظم المساحات البعلية المعتمدة على مياه الأمطار خسرت معظم غلتها من القمح، بل وفق التصريحات المنقولة عن الوزارة، خرجت من الإنتاج، وبدأ الحديث ينتشر عن أزمة الخبز هذا العام!
فتحت المقاومة المعركة من غزّة، وانطلقت الصواريخ كامتداد للمقاومة الشعبية في القدس والضفة، ثم لتحيا من جديد مدن الداخل الفلسطيني وتتحول اللد وحيفا ويافا من صور شاعرية إلى وقائع سياسية يسطّرها شباب غاضب. غزة المحاصرة، والضفة المسوّرة بجدار عنصري والمقسمة بحواجز التفتيش، وأخيراً الأحياء العربية المعزولة في أراضي الـ 48... جميعها اليوم تحاصر الكيان، وتعطي القضية الفلسطينية كل الدلائل للعالم أنه في صراع الإمبريالية والشعوب فإن القضية الفلسطينية مفصل وانعطافة نحو قيامة الشعوب.