لِمَن تَحكُم الحكومة؟ بين الطفيليين والمنتجين والملايين

لِمَن تَحكُم الحكومة؟ بين الطفيليين والمنتجين والملايين

رفعت الحكومة أسعار الخبز والدواء، ورفعت تسعيرة المستوردات: الزيوت، وعلف الدواجن، والحليب المجفف، والسكر... إنّ هذا الأمر متوقع وسيستمر، فالحكومة تدير شؤون الأقوى: المستوردين باعتبارهم مجالاً حيوياً لقوى النفوذ والتطفل، والصناعين بمستوى أقل، حيث لا يزال لديهم بعض الوزن، ولكن خارح حساباتها أكثر من 15 مليون ممن لا حول لهم ولا قوة. فبالنهاية الحكومة تدير لصالح الحكم، والحكم لا يرى المجتمع إلا بمقدار ما يملك من مال وقوّة.

في الظرف السوري، حيث تحكم قوى الأمر الواقع في كل مناطق البلاد، وتحاول أن تجمع كل ما يمكن جمعه من ثروة، فإن حكوماتها ستكون معنية فقط بشؤون شرائح طبقية واجتماعية محدّدة: أرباب العمل، المستثمرون، المستوردون، المصدرون، المهربون، حملة السلاح وحماة المعابر، هؤلاء هم الشعب في منظور الحكم.

أمّا الباقي من شغيلة ومنتجي وعاطلي سورية فلا داعي حتى لحكمهم... بل يكفي تركهم لحكم الفقر وقيد الأجر واللقمة اليومية، ويمكن تعبئتهم مؤقتاً بمنظومة الصدقات التي تقسمهم إلى قبائل وعشائر وطوائف ومريدين، في واقع سيستمر حتى تنقلب الطاولة فتولد البلاد، أو تفنى.

فمن يهم الحكم والحكومة فعلياً؟ الاستيراد كنشاط للطفيليين

بمنظور الحكم وحكومته، فإن المستوردين هم وزن ينبغي التعاطي معه جدياً: فالاستيراد عملياً نشاط يقارب: ثلث الناتج السوري في الظروف الحالية، وتدور فيه قرابة 5 مليارات دولار سنوياً ضمن المستوردات النظامية فقط، وقد تتراوح أرباحها بين 30-100% وربما أكثر... تتوزع على مجموع النخب المرتبطة بهذا النشاط: المتنفذون الذين يملكون حق السماح بالاستيراد ومنعه، وبالتالي لديهم حصة من نشاطه، وسوق القطع الأجنبي سواء النظامية عبر منظومة المكاتب والمصارف أو غير النظامية، منظومة خدمات الاستيراد، مثل: المصارف والتأمين والشحن، إضافة إلى منظومة الجمارك والمعابر والنقل وغيرها من الحلقات التي تستطيع الإفادة من البضائع المستوردة، والتي أصبحت عصب استمرار الحياة: ودون الاستيراد لا خبز ولا حليب ولا بيض، بل أكثر من ذلك ترتبط بالاستيراد 70% من الزراعات المحلية عبر مستلزماتها المستوردة، وعملياً عبر الاستيراد يتم امتصاص خيرات الإنتاج الزراعي الذي أصبح استمراره مسخّراً لأرباح المستوردين ومصدّري البضائع الزراعية الخام على حساب وفرة الغذاء المحلي.
وبناء عليه، إن الاستيراد هو أولوية للحكم، وبالتالي للحكومة، وهو الطريقة للحصول على حصة من كل الأساسيات، ولن يتم تقليصه أو إدارته إلا بالطريقة التي تزيد تمركز ربحه لدى الكبار.

الصناعة مساحة قليلة للمنتجين

يهم الحكومة والحكم أيضاً، وبمستوى أقل، منظومة الصناعات المحلية الخاصة، باعتبارها تشكل نسبة تقارب 10% من الناتج الإجمالي وفق آخر الأرقام الرسمية لعام 2019. انطلاقاً من هذا الوزن (النهائي- المالي) الأقل للمنظومة الصناعية، فإن مستوى الاستماع لصوتها وتلبية طلباتها أقل من تلبية قطاع الاستيراد. ووفق آخر تصريحات لرئيس غرف الصناعة في سورية، فإن نسبة الربح في المنشآت الصناعية السورية لا تزيد عن 9%، وتنخفض إلى 7%. مع أنها كانت تنتج فائض قيمة بنسبة: 36% وفق إحصائيات 2019. الأمر الذي يعني زيادة كبيرة في تكاليفها غير الإنتاجية بالدرجة الأولى، فالصناعيون يدفعون جزءاً من ربح المنتج الأساسي على حلقات أخرى: فساد، تجارة، مصارف، تأمين، إتاوات، مالية إلخ...
وهو ما يفسّر مستوى الاحتقان الصناعي الخاص، ويفسّر أيضاً تراجع عدد المنشآت المنتجة في المدن الصناعية الخاصة في عام 2020 بنسبة: 16%، بينما تراجع عدد المنشآت التي كانت تُبنى بمقدار الثلث، وهذا التراجع جرى في عام واحد فقط.

الأراضي والغنائم المنتظرة

بالطبع، لدى الحكم والحكومة اهتمام كبير بقطاع العقارات، باعتباره يكتنف على ثروة هامة متمثلة بالأراضي وبالحاجة للسكن، وفيه فرصة متمثلة بالدمار الواسع! وهذا الاهتمام يتمثل بتسهيلات ومشاريع الاستثمارالعقاري، وعلاقتها الوثيقة بملكية جهاز الدولة للأراضي، وملكيته للحق في استملاك الأراضي الخاصة. على هذا الأساس تقدّم التسهيلات والإعفاءات لقطاع الاستثمار العقاري انتظاراً للحظة إعادة الإعمار التي بمنظورهم الضيق قد لا تكون إلّا شراكات عقارية من نمط المرحلة بين عام 2005-2010 عندما تدفق المال الخليجي على هيئة استثمارات خارجية، ليشارك قوى النفوذ الكبرى في إنشاء مجمعات سكنية فاخرة، غنم منها بعض الشركاء واستهلكتها النخبة.
وبانتظار الحكم والحكومة لأموال الخارج، فإن التعامل مع القطاع العقاري اليوم لن يتعدى السعي إلى زيادة مالية الحكومة من الملكيات الخاصة للأسر السورية للعقارات، ومن حاجتهم للمأوى، لتفرض ضريبة أعلى على تداول السوريين للعقارات بيعاً أوإيجاراً وفق قانون البيوع العقارية.

ملايين العاملين والعاطلين

هؤلاء بمنظور الحكم والحكومة ليسوا شعباً فاعلاً، بل مفعولاً به، لأنهم ببساطة لا يمتلكون شيئاً. وهم بالنسبة للنخبة إما أتباع وطنيون، أو أتباع لطرف منافس، وبالتالي خونة!
والسوري صاحب الأجر، أينما كان في دمشق، واللاذقية، وإدلب، والحسكة ودرعا ليس ضمن اعتبارات أيٍّ من قوى النخبة والأمر الواقع التي تتوازع الحكم في أرجاء البلاد.
هؤلاء بالنسبة للنخبة يكفيهم وسطي أجر لا يسمح بالبقاء، ويكفيهم الحد الأدنى من الأساسيات: خبز وطاقة ودواء. ويكفيهم أن يعيشوا بمستوى يقصّر العمر ويولّد الأمراض. فسلطات الأمر الواقع هذه لا مساحة لديها في أزمتها لتلتفت إليهم، وكل تركيزها ينصب على إدارة «الهبش» مما تبقى من ثروة تدور بين شرائح وقوى، بل ووجوه محددة.
على هذا الأساس، لن يكون هناك أي تحسّن لوضع الأجور، وهو ما أوضحته القرارات علناً بل مجرد «عطاءات» من فترة لأخرى، ولن يكون هنالك أي مسعى جدي لتخفيض الأسعار لتتناسب مع هذه الدخول، لأن الأسعار موضوعة على أساس الأسعار الدولية، بينما الأجور على أساس المستوى القياسي للإفقار الذي يعيشه السوريون. وعلى هذا الأساس، فإن كل ما ينتج عن قوى الأمر الواقع هذه وحكوماتها، لن يدور إلّا في فلك قوى المال... فإذا خسر الصناعيون بسعر الدواء وضغطوا بهذا الاتجاه سيتم رفع سعر الدواء بنسبة 30%، وإن كان ثمن هذا ملايين غير قادرة على الحصول على هذا الدواء، فمنطق الحكم والحكومة: «لا بأس، يمكن تصديره»!
إن هذا لا يعني أن الحكم وحكوماته وقوى الأمر الواقع على اتساع سورية لا تحسب حساب كوننا ملايين محتقنين بالظلم، ولكنها لا تمتلك للتعامل مع هذا إلا طريقين، الأول: التخويف والقمع وربط شرائح واسعة من المهمشين بالميليشيات، والثاني: تقسيمنا وفقاً لمنظومة المساعدات والإحسان المحلية والإقليمية والدولية. فيعيش السوري في إدلب واعزاز ودمشق واللاذقية على العطاءات المتقطعة لأمراء الحرب وجمعياتهم، ووجوه «الإحسان» وامتداداتهم الإقليمية والمحلية، وصولاً إلى رحمة المساعدات الدولية التي تديرها شبكات «المنظمات الدولية». سياسة واضحة للتعامل مع الملايين: تجويعهم- تخويفهم- التصدق عليهم... وهي سياسة لم تبق منظومة متخلفة عبر العالم إلا وجرّبتها ونهايتها وخيمة: إمّا الغضب الذي يبتلع هذه النخب ويلفظها، لنستطيع السير إلى الأمام، أوالفوضى التي تطوي بلاداً من صفحات التاريخ ولو مؤقتاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1023