معالم من «الثقب الأسود» للفساد هل نسبة هدر الاستثمار العام 77%؟!

معالم من «الثقب الأسود» للفساد هل نسبة هدر الاستثمار العام 77%؟!

هنالك ظاهرة ملفتة في الإحصائيات السورية في السنوات الأخيرة، وهي: زيادة كبيرة في نسبة الاستثمار من الناتج... أي أن جزءاً أكبر من الدخل المنتج سنوياً، يذهب للاستثمار المحلي. بينما نسبة أقل تذهب للاستهلاك، سواء الاستهلاك الخاص الذي يشكّل استهلاك الأسر معظمه، أو الاستهلاك العام الذي تنفقه الحكومية.

في عام 2019 وصلت نسبة الاستثمار من الناتج إلى 60%، نسبة غير مسبوقة في سورية، وهي نسبة تعني: أن معظم الدخل المنتج داخل البلاد يتحول إلى مشاريع وإنشاء؟!

ومن أصل 11,9 تريليون ليرة دخل، هنالك 7 تريليون استثمار... رقم يقارب بأسعار اليوم: 2,4 مليار دولار. ورغم كل هذه الموارد «الاستثمارية» فإن الناتج لا يحقق زيادات تذكر، وتتبقى الأسر بأقل قدر من القدرة الاستهلاكية.

بين الماضي القريب واليوم

لم يُكن يُستثمر في الاقتصاد السوري في عام 2010 إلّا ما نسبته 22% من الناتج، ليرتفع الرقم إلى نسبة 40% في عامي 2017-2018، ويصل إلى 60% فجأة في عام 2019. نسبة كبرى واستثنائية لدرجة الشك. (وبطبيعة الحال فإن الإحصائيات القومية في هذه الظروف هي موضع شك، ولكنها المصدر الوحيد لقراءة الاتجاهات).
ولكن، رغم هذه النسبة المرتفعة فإن الناتج في سورية لا يزداد بنسب متقاربة... والنمو حتى في الإحصائيات الرسمية لا يتحقق إلّا بمعدلات طفيفة لا تتلاءم مع استثمار 60% من الناتج! فعملياً وفق القواعد الاقتصادية الأولية والبسيطة، زيادة التراكم الاستثماري يُفترض أن تنعكس زيادة في معدل النمو، ويزداد الدخل في كل عام عن العام الذي قبله. ولكن هذا لا يحصل...

ما الذي يبتلع النمو؟

قبل الأزمة كانت كل زيادة 1% في نسبة الاستثمار يمكن أن تحقق زيادة 0,25% زيادة في نمو الدخل الإجمالي سنوياً، وهو الدخل أو الثروة التي توزّع أجوراً وأشغالاً وأرباحاً وإنفاقاً عاماً وغيرها. والعلاقة بين الاثنين يعبّرعنها بمعدل اقتصادي يسمّى المعامل الحدي لرأس المال، وكان يبلغ حينها 0,25 في سورية، وهو المعدل الذي تحدده معطيات البيئة الاقتصادية والاستثمارية في ذلك الحين، من طبيعة الاستثمار إلى المستوى التكنولوجي وصولاً إلى بنية القوى العاملة وكفاءتها، انتهاءً بالسياسات والفساد وآثاره في امتصاص طاقة الاستثمار، وغيرها من العوامل.
اليوم، هذا المعدل المعبّر عن جملة عوامل البيئة الاقتصادية والسياسات انخفض إلى 0,06، وبنسبة تدهور: 76%...
وبهذا المقياس وضمن هذه البيئة فإننا لنحقق معدل نمو 5% فقط أي بالمستوى المنخفض وغير الكافي لعام 2010 فإننا نحتاج إلى استثمار يفوق 80%.
إنّ هذا يعني أنّه رغم الموارد الكبيرة الموجودة داخل البلاد، والتي تدخل قيد الاستثمار، إلّا أن هذا الاستثمار يمتص طاقة إنتاج الدخل الإضافي، الذي يتم ابتلاعه بثقب أسود كبير.
الاستثمار الخاص أرقام استثنائية «غير طبيعية»
الملفت، إذا ما فصلنا الاستثمار الخاص عن الاستثمار العام، هو أن القطاع الخاص يشهد تحسناً في مؤشراته الاستثمارية، عمّا قبل الأزمة، والمعامل ارتفع بنسبة 170%. وقد شهد في عام 2019 أرقاماً استثنائية.
فمثلاً حقق معدل نمو سنوي بين 2018-2019: 24%، وذلك بعد أن استثمر نسبة تقارب 70% من الناتج الذي حققه.
وعملياً، كل زيادة بنسبة 1% في استثمار القطاع الخاص، تحقق زيادة بنسبة 0,34% في الدخل السنوي الذي حققه في عام 2019. بينما كانت لا تحقق إلا 0,2 في عام 2010.
وهذه الزيادة الهائلة في استثمار القطاع الخاص من ناتجه لا تعكس مؤشرات إيجابية بالضرورة، أولاً: لأنها تعكس الحصة القليلة للاستهلاك الخاص، استهلاك الأسر... وثانياً: لأن عوائد الاستثمار الخاص الكبيرة هذه لا تشمل جميع شرائحه طبعاً... وهنالك جَور هائل في توزيعها.
فمثلاً، بينما معدل الربح في الصناعة 9% في تصريحات لغرف الصناعة، فإنّ معدل الربح في التجارة والاستيراد: قد يفوق 200%. ولذلك فإننا إذا تابعنا المواضع التي يستثمر بها القطاع الخاص لوجدنا أن قرابة نصفها 48% يذهب للاستثمار في مستلزمات قطاعات: التجارة والمال والخدمات الحكومية والخاصة. بينما النصف الباقي يتوزع على كل القطاعات الاستثمارية الأخرى بحصة: 35% للصناعة والزراعة مجتمعتين، ومبلغ لا يزيد عن 80 مليون دولار لمعدات وآليات الزراعة والصناعة في كل القطاعات!
المعالم الأولية السابقة لواقع الأرقام الكلية للقطاع الخاص، تشير إلى حجم الربح الخاص مقابل النسبة القليلة جداً للأجور الموزعة في استثمارات القطاع الخاص، وتشير أيضاً إلى أن أموال الربح هذه لم تعد تخرج من البلاد بفعل العقوبات، بل تجد جدوى عالية في الاستثمار داخلها، وأين تستثمر بالدرجة الأولى: في التجارة والمال والخدمات، ومن ضمنها يستثمر القطاع الخاص في خدمات الحكومة، ويساهم عبر الفساد بتحقيق مكاسب من هذا الاستثمار.

الاستثمار العام معالم الثقب الأسود

وفق أرقام الحكومة نفسها، فإنّ الاستثمار العام يعاني من معامل رأس مال سالب، وهو ما يعني أنّه عندما يستثمر القطاع العام فإن ناتجه لا يزداد بل ينخفض! وهي حالة استثنائية أيضاً.
وبالفعل، فإن ناتج القطاع العام تراجع بنسبة 11% بين عامي 2018-2019.
وبالتفصيل فإنّه في عام 2019 كانت كل 1% زيادة في نسبة استثمار القطاع العام، تترافق مع تراجع ناتجه بمقدار -0,21%.
أي بالبنية الحالية لاستثمار القطاع العام، فإن الاستثمار فيه خسارة كبرى، وحتى إذا ضاعف استثماره مع بقاء كل الشروط الأخرى على ما هي عليه فإن دخله سيتراجع بمقدار الخمس!
والاستثمارات التي يتم تخصيصها للقطاع العام، يتم ابتلاع خيرها...
عندما يتم تخصيص موارد للإنفاق استثمارياً على تجهيزات ومستلزمات جهات القطاع العام، فإنّ النتيجة سالبة، وهذه الاستثمارات تقلّص من ناتج القطاع العام... وهي لا تشكل رقماً قليلاً بل قاربت في 2019: 3000 مليار ليرة، وما يقارب مليار دولار اليوم، و4 مليار دولار في حينها بأسعار صرف الحكومة!
إنّ هذه المبالغ التي تصرف جميعها بالشراكة مع مستثمرين من القطاع الخاص، تستورد أو يُدفع عليها أو تكلّف أكثر من قدرتها على توليد الدخل. وذلك نتيجة لأمرين أساسيين: كلف الفساد أولاً، ومجمل البنية الإنتاجية والإدارية المتخلفة، والتي تؤدي للهدر في القطاع العام السوري ثانياً.
إن استيراد معدات كهربائية أو دفع مبالغ استثمارية لصيانتها بتكاليف فساد عالية مثلاً- وبالمقابل لايتم إنتاج الكهرباء- هو تحويل هذه الاستثمارات إلى ناتج سلبي، وكذلك الأمر في المصافي عندما يتم دفع مبالغ مضاعفة لقاء الصيانة وللمستثمرين فيها، وبالمقابل، لا يتم توريد نفط كافٍ فإن الاستثمار العام في المصافي سينخفض. الأمر ذاته في الإنفاق على شبكات المياه، وفي مخصصات الطرق، وفي إنتاج الخبز وغيرها.
إنّ الدعم والبيع بأسعار مخفضة ليس سبب تراجع ناتج القطاع العام، بل على العكس، إنّ مبالغ الدعم التي توضع كاستهلاك حكومي مع ما تبقى من أجور الموظفين هي الجزء الأساسي الذي يُبقي للقطاع العام حصة من الناتج عبر إنفاقه الاستهلاكي الضروري.
ولتقدير حجم هذا الهدر، يمكن أن نقارن تقريبياً بالمعامل في القطاع الخاص، فلو أن لشركات القطاع العام معامل رأس المال في القطاع الخاص لكان من المفترض أن يكون الدخل الإضافي المتحقق على مستوى البلاد ينمو بمعدل 20% بالقيم الحقيقية، عوضاً عن 3,7%، والفارق يقارب 2300 مليار ليرة مهدورة ونسبة 77% من الإنفاق الاستثماري في القطاع العام!
فماذا لو كانت هذه النسبة معممة أيضاً على الإنفاق الاستهلاكي في القطاع العام؟!
وهذا نموذج فقط من أثر الفساد والبنية على الإنفاق الاستثماري في القطاع العام...
الوقائع تقول: إنّه لا شراكة ولا استثمار جدي مع بنية اقتصادية وبيئة استثمارية من هذا النوع، ولن يتشارك القطاع الخاص إلّا كوسيط يستفيد من إمكانات النهب في استثمارات القطاع العام.

 (النسخة الانكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1029
آخر تعديل على الخميس, 19 آب/أغسطس 2021 17:25