الخبز والطاقة 3 مليارات دولار... أكبر من بقايا جهاز الدولة
الطاقة والخبز، ربما لا يوجد ما يكثف الأسس المادية الاقتصادية لأي بناء اجتماعي أكثر من هذين المكوّنين... الخبز الكافي للبقاء، والطاقة اللازمة للإقلاع والعمل. إنّ توفّر هذين المكونين هو الحد اللازم وغير الكافي لضمان الأمان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وعندما تكون البنية الاقتصادية السياسية (متساهلة) مع أزمات الخبز والطاقة فإنها عملياً لا تبحث عن أسس البقاء أو الإقلاع للأمام، وهي غير مبالية بالسقوط في الهاوية.
منذ بداية الأزمة بل منذ مطلع الألفية وتحديداً بعد عام 2005، كان الدعم الاجتماعي الذي يشمل عملياً منظومة الخبز والطاقة، هو العنصر الذي تتمحور حوله السياسات الاقتصادية السورية في مسارها نحو (الانفتاح الاقتصادي ومناجاة الغرب).
وكانت تسوّق لهذه السياسة باعتبارها تحقق أهداف مالية: وفر في الميزانية، تقليص العجز، تخفيف الأعباء والإنفاق، زيادة الموارد العامة وإلخ. وقد كانت هذه السياسة تقوم على ذريعة أن الدعم مضخّم ولا يوزع بشكل عادل، ويؤدي للهدر ويستفاد منه الفساد. وكل ما سبق صحيح، فمبالغ الدعم المضخمة أكبر من التكاليف الحقيقية وهذا أولاً، أمّا ثانياً: المواد المدعومة كانت تاريخياً عرضة للاستثمار عبر شبكات فساد جهاز الدولة من الحلقات العليا للحلقات الصغرى. ولكن ثالثاً وهو الأهم: إنّ كل آليات تقليص هذا الدعم، لم تحجبه عن شبكات الفساد، بل حجبته عن المجتمع وعمّقت الأزمات، وزادت غلّة الفساد، فالفساد أساس في المنظومة السياسية السورية وتغيير الآليات الشكلي لا يغير من واقع وجوده شيئاً.
الاجتهاد في الذكاء الإلكتروني
اليوم، يجتهد ليبراليو سورية في خلق آليات جديدة بداعي تحديث طرق التوزيع، ولكن كلها بالمجمل تهدف إلى تحقيق غرض أساسي هو تقليص الكميات وتقنينها ليصبح صاحب الحق بمادة معينة مضطر لانتظار الإشعار الإلكتروني ليحصل على كميته، وبهذه الحالة يتم التحكم بالكميات وتقليلها عبر التأخرات الزمنية، وعوضاً عن استحقاق جرة غاز للأسرة كل شهر تقريباً تصبح المدة 60 يوم بشكل غير معلن خلال فترات معينة.
وبالمقابل، فإن هذه الطرائق، تتم عبر شراكات وسيطة مع جهاز الدولة، تؤدي إلى حصة من مخصصات وإيرادات الأساسيات الموزّعة لتذهب إلى مزودي الخدمات، مثل: الشركات الوسيطة في البطاقة الإلكترونية، وشركات الاتصالات. وإن كان هذا يبدو ثانوياً، إلا أنّه أساسي في سياسات هذه المرحلة التي يصبح فيها إيجاد مسارب دخل مضمونة للمتنفذين هدف أساسي في ظل تراجع الموارد في السوق، حيث يتطفل هؤلاء على تأمين الأساسيات ويربحون منه حتى عند تقليصه.
الخبز والطاقة
أكبر من ميزانية الدولة
لقد وصلت الأمور فعلياً إلى مرحلة يصبح فيها تأمين الأساسيات: الخبز والطاقة مسألة أعلى من قدرة بقايا جهاز الدولة الذي امتصته عقود الفساد وعقد الأزمة. وأصبح القائمون عليه يتعاملون مع هذا على أنه أمر واقع، فلا قدرة مالية للدولة بالموارد التي تصل إليها على التصدي لمهمة تأمين حاجات الحد الأدنى من الخبز والطاقة. وسنذهب إلى تقليص جديد لكميات الخبز بعد التقليص السابق.
إنّ تأمين كميات الطحين الضروري لإنتاج الخبز بعد خطة التقشف أصبحت مليوني طن، وكلفتها تقارب بأسعار اليوم: 480 مليون دولار، أما تأمين حاجات الطاقة الناقصة عبر الاستيراد بمستويات كاملة، فتحتاج إلى 2,5 مليار دولار. وكلا هذين المبلغين عرضة للزيادة مع الارتفاع المتوقع في الأسعار العالمية مع تجلي الموجة الثانية من الأزمة الدولية المتجليية في التضخم وارتفاع أسعار الأساسيات. إذ بدأت توقعات وصول سعر النفط إلى 100 دولار، بينما بدأت أسعار الغذائيات في السوق الدولية ترتفع بمعدلات قياسية.
إنّ مبلغاً يقارب 3 مليارات دولار لتأمين الخبز والطاقة يعني مبلغاً يزيد على ميزانية الحكومة السورية لعام 2021 التي تقارب 2,6 مليار دولار. أي أنه فوق الاستطاعة النظرية لمالية الحكومة، وتحديداً أن هذا المبلغ مطلوب سداد معظمه بالقطع الأجنبي، وهذا بعيد المنال. فنحن في وضع اليوم من عدم القدرة على التحكم بالقطع الأجنبي، لدرجة أن السياسات النقدية تضطر لاعتماد أسلوب عقيم تحبس فيه مواردها المتوفرة بالليرة ضمن المصارف، حتى لا تنزل إلى السوق وتتحول إلى عامل مساعد في شراء القطع الأجنبي والمضاربة عليه، فسوق القطع بمعظمه خارج يد الحكومة وقدرتها.
ما الذي تعينه أزمة الخبز والطاقة؟
إن أزمة الخبز والطاقة هي عملياً رأس جبل الجليد الذي يخفي تحته فساد شامل يديره قسم متحكم من جهاز الدولة يعكس نهبه الاستثنائي وسرقاته التاريخية مع ملحقاتها التي تجري خلال الأزمة وهي انعكاس لازمة بنية سياسية واقتصادية واجتماعية.
هنا للأسف لا حلول جزئية، فأزمة نقص الخبز والتقشف به، هي أزمة ثقة عميقة لأنها إعلان عن سياسة التخلي عن آخر الخطوط الحمراء لمجتمع يعيش أصحاب الأجر فيه على أجور أقل من حد الكفاف والاستمرار بـ 6 مرات! بينما نخبه وحكومته ترى بأن هذا هو المجال الذي يمكن التحرك به لتخفيف الأعباء المالية... أي أن هؤلاء يرون أن تقليص كميات الخبز التي تحصل عليها الأسر السورية بسعر مخفّض هو مكان التوفير المالي الممكن! وهي نخب وحكومات لا تستطيع أن تمد يدها إلا على لقمة الشرائح الأفقر والأضعف.
أمّا عندما يتم التوفير على حساب تأمين أساسيات الطاقة، فإن هذه النخب وحكوماتها تفقد كل رشدها وكل أحلامها الواهمة (بالبناء والاستثمار) لأن أحداً لن يستمر بالعمل، أو يبادر في بيئة لا تتأمن فيها أساسيات الطاقة.
أخيراً، يمكن القول إن 3 مليارات دولار أساسيات هي بالفعل أضخم من بقايا جهاز الدولة، ولكنها ليست أضخم من قدرات الاقتصاد السوري المنهوبة... وهي بالفعل لا شيء قياساً بسوق الممنوعات مثلاً، تلك التي يمكن الوصول بتقديرات سوقها إلى 16 مليار دولار في سورية، مبنية على قيمة المصادر منها خلال عام واحد فقط، والتي تقارب 2 ملياري دولار، هذا عدا عن كل أشكال سوق الفساد والنهب الأخرى (التهريب، الأرباح الاحتكارية للاستيراد، العملة). تلك الموارد التي لم يعد من الممكن لا اقتصادياً ولا سياسياً تعبئتها للصالح العام، لأن قانون السوق تحكمها قوى مال ونفوذ كبرى لا ترضى بتراجع ربحها عن نسب أرباح محددة اعتادت تحصيلها من مستويات الفساد السورية الكبرى، والتي مهما زادت موارد جهاز الدولة أو نقصت فإن مصيرها أن يتم ابتلاعها عبر هؤلاء.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1024