(قانون الغاب)...  يرفع الخبز والمازوت

(قانون الغاب)... يرفع الخبز والمازوت

رفعت الحكومة السورية أسعار الأساسيات مجدداً ودفعة واحد: الخبز 100%، المازوت 277%، مع زيادات ستتلاحق في المواد التي لا تزال الدولة تديرها، وكان أولها: الأعلاف، ورفع تعرفة النقل، ولن تكون آخرها. وهذه المرّة ترافق الرفع مع زيادة الأجور بنسبة: 50% ونصل إلى حدود 24 دولار حد أدنى! وذلك بعد أن تمّ تجميد الزيادات منذ نهاية 2019 رغم تضاعف مستويات تكاليف المعيشة أكثر من مرتين ونصف منذ ذلك الرفع وحتى اليوم.

دلالات هذه السياسة ليست فقط غياب العدالة واختلال الميزان وتجاهل مآسي المجتمع وجوعه، كما يعلم جميع السوريين، بل هي تعكس أيضاً عقلية أصحاب القرار والقوّة ومفهومهم عن دور جهاز الدولة.

نيوليبرالية الأمس
(إنّ تنفع الذكرى)

إنّ هذه السياسات المتكررة ليست عبثية، بل هي منهج وقناعة اقتصادية محدودة، وهي مشتقة مما يسمّى النيوليبرالية اقتصادياً، حين تصبح السلطات تصمم السياسات الاقتصادية على أساس حسبات مالية وسوقية ضيقة، وعلى أساس العلاقات والقوانين التي تجري في دائرة محددة: عمادها، النخب الاحتكارية المتنفذة، وقوامها الأرقام.
فمثلاً، عندما بدأت سورية في مطلع الألفية تحرّر التجارة الخارجية دفعة واحدة ودون أية حسابات، وتخفف الدعم الاجتماعي، وتسمح بتهاوي مؤسسات صناعية وبنى اقتصادية عامة كبرى، كانت نخبة النيوليبرالية في سورية تلتزم بسيناريو منفصل عن الواقع، يقول: (التجارة والاستثمار الخارجي قاطرة النمو، والانفتاح الاقتصادي سيؤدي إلى تدفق الأموال من الخارج، ولن نحتاج إلى اقتصاديات وإنتاج واستثمار جهاز الدولة، وباقي النتائج تحصيل حاصل). وقد نجحوا باستقطاب أرقام من أموال الخليج لتُستثمر في قصور ريف دمشق، وفي البنية المصرفية، وتوهموا برضا الغرب عنهم عندما تغنّى بأرقام النمو الاقتصادي الوهمية: 5% وأكثر.
وبالمحصلة، لم يستطع أفق السيناريو المحدود الذي عاشوا ضمنه أن يدرك الضربات العنيفة التي تلقّاها المجتمع السوري- بريفه وورشه وشبابه العامل والعاطل- التي هزّته ودفعته في 2011 للغضب، وسمحت (لكل الأجندات) باستخدامه، وقسّمت المجتمع والبلاد.

نيوليبرالية اليوم: الأرقام المهمة

اليوم، العقلية ذاتها يقودها النيوليبراليون (وهم أتباع ملحقين بالمنهجية الاقتصادية- السياسية المتطرفة الغربية التي نشأت موضوعياً عن السلطة المطلقة الأمريكية منذ الثمانينات). وهؤلاء الملحقين و(بافتراض حسن النية)، لا يستطيعون أن يدركوا محدودية وخطورة المهمة الاقتصادية التي يعطونها للفرق التنفيذية الحكومية اليوم، التي تركّز على مهمة واحدة: إبقاء خزينة المال العامة (شغّالة)، ليشعروا بالرضا مع زيادة الحصيلة المالية من بيع المازوت والخبز، وإعطاء شغيلة جهاز الدولة (على مضض) مبلغاً أقل، وتحقيق وفر مالي يُدفع أرباحَ بنزينٍ لمستورد ما! هذه الأرقام التي يعبؤون بها، أمّا أرقام، مثل: تراجع استهلاك الخبز الذي لا يعني استهلاك غيره، بل يعني مزيداً من خواء الأمعاء، أو أرقام، مثل: خسائر تعطل منشآت، وبطالة واستقالات نتيجة (نقص المازوت)، هي نتائج ثانوية!

عقلية قانون الغاب

النيوليبرالية كعقلية مستمدة من (لحظة تغوّل) الغرب، هي عقلية متوحشة غير حضارية، بمعنى أنها لا تعرف سوى قانون الغاب، وهي أقصى حالات: حكم القوي ليبتلع الضعيف.
على هذا الأساس فإن النيو ليبراليين لا يؤمنون جدياً بمفهومي: أمراء النفوذ والحرب، والفقراء. إنّهم يعتبرون أن قوّة النفوذ والسلاح والمال تعطي أصحابها الحق بأن يُلزموا مالية جهاز دولة شبه المتهالك بسعر بنزين مثلاً أعلى من السعر العالمي بـ 3 أضعاف تقريباً، ولهم الحق أيضاً أن يفرضوا السعر الذي يريدون لقاء استيراد القمح، وطبيعي أيضاً أن ينقلوا أعمالهم من الظل إلى الضوء، ويتحولوا من مهربين وتجار ممنوعات إلى مستثمرين عقاريين، أو أصحاب شركات استيراد يُحتفى بإنجازاتهم.
وِفق السياسة النيو ليبرالية، هؤلاء لا يمكن المسّ بهم والحديث عن الاستفادة من مواردهم، لأنهم ببساطة الأقوى! ولا يُزاح أحد منهم، أو تتغير معطيات في سوق عملهم إلا بتوافق النخبة لإعادة توزيع الحصص، وتغيير طابع الأعمال وإدارة أزمات داخلية.
بالنسبة لهؤلاء، جهاز الدولة هو أداة إدارة أعمال لا أكثر، بمعنى أنّه (مصدر رزق): يؤمن عقوداً كبيرةً وتمويلاً مضموناً، ويؤمن كذلك الحماية، وهو منافس غير جدي اقتصادياً.

من نحن بالنسبة لهم؟! لا أحد!

وفق عقلية النيو ليبراليين ذاتهم، فإنّ من تبقى من شرائح اجتماعية يتم التعاطي معهم أيضاً حسب أوزانهم، ولكن انطلاقاً من منظور الأقوى أيضاً. فالصناعيون وزن ما، ولكن عندما يوضعون في الميزان مع كبار المهربين فإن الغلبة للأقوى، وكذلك الأمر بالنسبة لمصائر ملايين المزارعين، وكلف إنتاجهم العالية، عندما توضع في الميزان مع مصالح محتكري استيراد المستلزمات، فإن الغلبة للأقوى.
أمّا تلك الشريحة من الشغيلة والعاطلين، فهؤلاء غير مرئيين فعلياً بالنسبة للنيوليبراليين... بل إنّ تدهور أوضاعهم قد يعني مزيداً من المساعدات الدولية التي يتم استثمارها بشكل جيد وفق دوائر النفوذ، والتي يصل منها إلى مناطق الحكومة ما تقارب قيمتها 2,4 ملياري دولار.
وحتى شريحة العاملين في جهاز الدولة الذين دونهم لا يمكن بقاء هذا الجهاز... فإنّ هؤلاء محكومون بقيد الحاجة والفاقة، ويتم تجاهل زيادة (أجور السخرة) التي تُدفع لهم وإبقائهم على حدٍّ أقل من حدّ الكفاف الفردي، وحين (يأتي الفرج) وتزداد رواتبهم الشهرية كما اليوم، فإن الزيادة الشهرية لا تغطي زيادة آجارات السرافيس وربطة الخبز، ليدفعوا الزيادة لسوق المازوت والخبز، ويتم دفعها مجدداً للمستوردين وسارقي المواد المدعومة بشكل أو بآخر.

أخيراً، إنّ ما يحدث ليس جديداً، وما نقوله أيضاً ليس بجديد! التوحّش ومنطق الغاب، هو عنوان قديم في السياسة الاقتصادية السورية. فالأقوياء لا يمكن المسّ بهم نتاج قوتهم، والضعفاء لا يمكن إلّا تحميلهم أعباء الخراب. أمّا خلال الحرب فلم يعد يوجد ما يسمّى خط أحمر، إلا مصالح النخب الضيقة ومعدلات ربحهم، أمّا الخبز والجوع والمازوت والإنتاج كلها (نتائج ثانوية وأضرار جانبية)، إلى أن يفرض الأمر الواقع والحقائق نفسها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1026