محمد العبد الله
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
ثلاثة أسابيع ونيف، وجلسات الحوار الوطني الفلسطيني الذي انطلق من مدينة "رام الله" مستكملاً مداولاته في مدينة "غزة " بناءً على رغبة العديد من المشاركين فيه، لم تكن كافية لظهور "الدخان الأبيض" من غرفة الحوار. ومابين تلك الجلسة الكرنفالية التي شهدت خطاب الإنذار الرئاسي _ إما الاتفاق على وثيقة أسرى سجن "هداريم" خلال عشرة أيام أو ما تبعها من تمديد للفترة إلى أربعين يوماً إضافية وإلا الاستفتاء، والجلسة الخامسة أو السادسة التي ستنتهي فيها الحوارات، لتظهر للعلن حصيلة تلك الاجتماعات، في المؤتمر الصحفي أو "العرس الوطني" حسب تعبير أحد المشاركين، وثيقة أو برنامج "الإجماع الوطني". طوال تلك الأسابيع، لم تتحرك عقارب الزمن لوحدها، بل ارتبطت فيها وبها، عقول وقلوب الملايين من الصابرين الصامدين، وهي تراقب عبر الفضائيات والتصريحات "التعارضات والتناقضات" بين ماأطلق عليه البعض تجاوزاً "صراع الأخوة الأعداء". في المشهد الفلسطيني المألوف منذ عقود سالت الدماء الفلسطينية، لكن هذه المرة لم تكن فقط بصواريخ وفرق موت "أولمرت _ بيرتس _ بيريس" بل بأيد فلسطينية، نشرت الموت والدمار، وأباحت سفك الدم الفلسطيني على مذبح المشاريع الفئوية المشبوهة.
مرت في الثاني من هذا الشهر، الذكرى الثانية والتسعون لوعد «بلفور». في ذلك اليوم من عام 1917 أصدر وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور تصريحاً مكتوبا وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل روتشيلد، يتعهد فيه بإنشاء «وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين». وبموجب هذا الوعد، الذي منحه وزير الخارجية البريطاني لليهود، أعطى من لايملك إلى من لايستحق. ومنذ ذلك التاريخ توضحت بشكل صارخ، طبيعة العلاقة بين الامبراطورية البريطانية، والحركة الصهيونية. كما بدأت مع ذلك الوعد، الخطوات المتسارعة لتتحقق من خلال الترتيبات المباشرة، الهجرة اليهودية المتعاظمة، والدعم اللوجستي الكامل للعصابات اليهودية الصهيونية. والتي مهدت لها العديد من القرارات الصادرة عن السلطة العليا لإدارة الانتداب البريطاني فوق أرض فلسطين. وإذا كانت المذابح وعمليات الطرد والتهجير، التي استهدفت أصحاب الأرض الأصليين، قد ازدات وتيرتها في ظل الدعم اللامحدود من بريطانيا للحركة الصهيونية، فإن مايعانيه الشعب العربي الفلسطيني بعد العقود التسعة المنصرمة من عمر الوعد المشؤوم، يؤكد أن الجريمة والمذبحة مازالت مستمرة، بأسماء جديدة، تعيد انتاج الوعد البريطاني، بوعد أمريكي- وعد بوش للمجرم شارون- في شهر ابريل/ نيسان عام 2004، يتماهى بنتائجه الكارثية على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، بالوعد البريطاني، من حيث ترسيخ كيان العدو الصهيوني بالأرض العربية، بحماية امبريالية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار، الدور الذي يضطلع بها هذا الكيان/ الثكنة/ المخفر، الاحتلالي والاستعماري، كرأس حربة لسياسة الهيمنة والتوسع الامبريالية.
جاءت نتائج إعادة طرح تقرير غولدستون في الجلسة الخاصة لمجلس حقوق الإنسان العالمي في جنيف، لتهدئ قليلاً من حالة الغضب الشعبية الواسعة التي استهدفت كل مكونات سلطة رام الله المحتلة، أفراداً ومؤسسات، لكنها لم توقف الحملات الإعلامية المتبادلة بين رموز وهيئات السلطة، وقوى المعارضة الفلسطينية- فصائل وهيئات أهلية وشخصيات سياسية وفكرية وإعلامية مستقلة- المتصاعدة على خلفية الصيغة المصرية الجديدة لـ«المصالحة»، التي تضمنتها «اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني- القاهرة 2009»، خاصة وأن الموقف الرسمي المصري، كان حاسماً في الطلب من الفصيلين المتنازعين «فتح وحماس» التوقيع على الاتفاقية، لأنها «غير قابلة للتعديل أو التطوير أو المناقشة»!
تعيش الجماهير الفلسطينية في محافظات غزة والضفة حراكاً سياسياً استثنائياً. فصناديق الاقتراع للجولة الرابعة من انتخابات المجالس البلدية لم تُفرغ أوراقها فقط، بل تدفقت عبر نتائجها ملامح العمل الفلسطيني القادم. لقد أنهت حماس من خلال جهد دؤوب على الأرض "سياسي مقاوم، اجتماعي ملتزم بهموم الناس" وعبر شخصيات أكاديمية، تجارية مشهود لها بالكفاءة والنقاء المسلكي، استئثار فتح بغالبية مقاعد المدن الكبرى بالضفة (نابلس وجنين مثلاً) وجسدت على أرض الواقع الانتخابي ثنائية جديدة، تنهي بوضوح شديد تفرد حزب السلطة بالعديد من المواقع.
في الخامس عشر من أيار / مايو ، يحيي الشعب الفلسطيني يوم نكبته، بمزيد من الإصرار على التشبث بوطنه المحتل منذ عام 1948 عبر العديد من الأشكال التعبيرية الجماعية، بهدف استحضار تجربة الماضي وعِبَره، من أجل التعامل مع الحاضر والمستقبل، برؤية نقدية، تسعى لتفكيك مفردات الخطاب السياسي الذي ساد لفترة طويلة _ البعض مازال يستند إليه _ القائمة على تفسير حدوث نكبة الشعب الفلسطيني والأمة العربية عام 48، بمنطق "المؤامرة" البريطانية / اليهودية فقط! وباستبعاد مقصود لدور بعض الحكومات العربية بالمشاركة بها. خاصة وأن معظمها في تلك الفترة كان يخضع في حركته السياسية / الدبلوماسية لتوجيهات الدولة المستَعمِرة أو المنتدبة. إضافة إلى البنى العشائرية / الإقطاعية التي تَسِمُ طبيعة العلاقات الإجتماعية / الإقتصادية، التي أفرزت تشكيلات تنظيمية، لم تستطع هزيمة الغزاة الجدد، لكونها إنعكاس لتلك العلاقات والبنى المتخلفة، قياساً بالأشكال والأدوات التتنظيمية المتقدمة، التي اعتمد عليها المستعمرون اليهود، بسبب نشأتها وتطورها في المجتمعات الغربية الحديثة.
نالت حكومة أولمرت_ الحادية والثلاثون في تسلسل حكومات العدو منذ قيام كيانه عام 1948_ الثقة في جلسة الكنيست التي انعقدت يوم الخميس الفائت. فقد حازت على أغلبية بسيطة من أصوات الأعضاء المائة والعشرين، بالرغم من الائتلاف الواسع الذي ضم تكتل أحزاب (كاديما، العمل، شاس، المتقاعدون) المستند إلى أصوات 67 نائباً للتحالف الوليد. لكن المصادقة النهائية على الوزارة لم تحظ إلا ّ بموافقة 65 نائباً، إذ امتنع اثنان من نواب "كاديما" من الإدلاء بصوتيهما، كاحتجاج على عدم مشاركتهما بالوزارة، وهو مايشير إلى بداية التصدع في جدار "كاديما". النائب "مجلي وهبة" الضابط السابق في استخبارات جيش العدو، الذي كان يطمح لتمثيل ما يطلق عليه داخل الكيان "الأقليات"، استبعده "أولمرت" من التشكيلة الحكومية بعد أن أوهمه بوجود اسمه داخل قوائم حزبه، مما دفع بـ "وهبة" للاحتجاج قائلاً " لقد ألقى بي أولمرت بالشارع كعبد انتهت مهمته". النائب "مارينا سولدكين" الناشطة في تجمعات المهاجرين الروس، والموعودة من "أولمرت" بتمثيلهم بالوزارة، أستبعدت هي الأخرى، فوصفت تصرف زعيم الحزب هذا بأنه "سلوك زعران".
لم تكن ارتدادات نتائج مؤتمر بيت لحم قد استقرت، حتى جاءت الارتجاجات القوية التي أحدثتها الدعوة لعقد جلسة طارئة للمجلس الوطني الفلسطيني والنتائج التي تمخضت عنه، لتعيد إنتاج خطاب «الرفض والقبول» داخل الحركة السياسية الفلسطينية، انطلاقاً من قانونية الاجتماع، الذي سيبحث ملء الفراغات التي أحدثتها وفاة ستة من أعضاء اللجنة التنفيذية، مما أفقدها «نصابها القانوني» نتيجة رحيل ثلث أعضائها. وبعيداً عن مناقشة شرعية الاجتماع من حيث الاستحقاق الدستوري، أو من مقتضيات ضرورته الوطنية، كمؤسسة مركزية في بنية المنظمة، فإن المقال المنشور تحت عنوان «الشرعية الفلسطينية في خطر» للدكتور «أنيس مصطفى القاسم» أحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية، رئيس لجنة الميثاق ورئيس اللجنة القانونية في المجلس الوطني الفلسطيني سابقاً، قد عرّت الدعوة من كل مستنداتها القانونية، ودحضت منطق الداعين لعقد الجلسة.
مازالت كرة النار التي ألقتها قيادة سلطة رام الله المحتلة في حضن المجتمع الفلسطيني والعربي والدولي من خلال فعلتها النكراء الجديدة في جنيف، تتفاعل بسرعة. وإن كانت صفة الارتباك والتلعثم قد ارتبطت بأسماء كل من تنطح لتبرير التأجيل أولاً، أو تخطئته بعد ردة الفعل المجتمعية، فإن مستجدات الأيام الأخيرة، شهدت إعادة انتاج للخطاب السياسي/ الإعلامي الصاخب الذي ارتبط بسيطرة حماس، خلال حسمها العسكري على قطاع غزة منتصف يونيو/ حزيران 2007، والذي جاء خطاب عباس بفضائية السلطة، وكلماته في الحفل الذي شهدته الجامعة الأمريكية في مدينة «جنين»، ليدشن مرحلة «رسمية» في شرعنة هذا الخطاب وفتح آفاقه نحو اللاحدود، وليكشف بالوقت ذاته عن نبرة استعلائية/ إقصائية، تعمل على تبرير الخطايا المتتالية بلغة ملتبسة في مضمونها السياسي- تأجيل تقرير غولدستون...نموذجاً، وعلى استخدام وتعميم عبارات واضحة وفاقعة عند الحديث عن حماس. عشرة أشهر تقريباً، هي عمر جولات الحوار الفلسطينية المكوكية، خفتت فيها تلك التوصيفات التي أنتجتها معارك «الإخوة الأعداء» في غزة والضفة. لكن ماأحدثته ردود الفعل الفلسطينية والعربية ومنظمات حقوق الانسان الدولية على «جريمة» جنيف، لم تدفع بـ«السيد الرئيس»- كما يعتقد البعض واهماً- إلى الاعتذار عما حصل، أو كما يتمنى قطاع واسع من الشعب والأمة استقالته وحاشيته، كما يحصل في تجارب الدول والحكومات الديمقراطية. ولهذا فإن الخطاب المتلفز وماتتالى بعده من كلام يقطر سماً، على لسان أكثر من مسؤول بالسلطة والحركة، كما جاء في تصريحات «حسين الشيخ»، عرى بعض المواقف المتخفية خلف كلمات «المصالحة والوحدة»، لكن ما أفصح عنه ياسر عبد ربه بـ(إعلان إجراء الانتخابات من جانب واحد في موعدها الدستوري في كانون الثاني المقبل في حال تعثر جهود المصالحة)، مضيفاً بعبارات لاتخلو من الابتزاز والتهديد (إما أن نتفق على موعد الانتخابات والتوقيع على الوثيقة المصرية وتكون الانتخابات في الموعد الذي حدده الأشقاء المصريون، وإما سنقوم بخطوة من طرف واحد وهي الخطوة الشرعية بإصدار مرسوم بتحديد موعد الانتخابات في كانون الثاني)، يفضح حقيقة التوجه نحو تكريس سلطتهم على «محمية الضفة» عبر الذهاب للانتخابات المنفردة.
في مؤتمر صحفي داخل مقر حكومة تصريف الأعمال في مدينة رام الله المحتلة، أعلن رئيسها سلام فياض عن برنامج عمل الحكومة التي تحمل الرقم «13» في مسيرة الحكومات الفلسطينية، المشكّلة تحت حراب الاحتلال، وداخل مظلة اتفاق أوسلو. البرنامج المطبوع في خمس وستين صفحة، قدمه فياض قبل بضعة أيام لرئيس السلطة محمود عباس، في خطوة فسرها العديد من المراقبين على أنها خطة عمل الفريق القادم لتولي مسؤولية إدارة الأوضاع في الضفة الغربية، على الرغم من حرص جهابذة واضعي التقرير على التذكير بين فقرة وأخرى، على أن قطاع غزة له نصيب كبير في خطة الحكومة القادمة.
لم يكن موقف سلطة الحكم الذاتي في اجتماعات مجلس حقوق الإنسان الدولي (يوم الجمعة 2/10/ 2009)، الذي ناقش وعلى مدى عدة أيام التقرير الذي أعده القاضي «ريتشارد غولدستون» مفاجئاً للعديد من أبناء الشعب الفلسطيني والأمة العربية «المكتوين» بنيران الإذعان والتفريط لتلك السلطة تجاه القضايا الوطنية للشعب الفلسطيني. لكن اللافت لنظر المراقبين المتابعين للعديد من المحطات الهامة التي أدارت فيها السلطة ظهرها للمبادرات العربية والدولية المساندة لنضال الشعب الفلسطيني ودورها في تبديد كل المحاولات التي تدين وتفضح عدوانية الممارسات الوحشية لجيش الاحتلال وحكومته، يؤكد تجاوز وظيفة قيادة مقاطعة رام الله المحتلة لدورها البوليسي المحلي الذي يحافظ على «سلامة واستقرار» كيان العدو، وتمدد مستعمراته، وحرية حركة قطعانه السائبة، وانتقال مهماتها للصعيد الدبلوماسي في المحافل الدولية، من أجل تبييض صفحة العدو، وغسل يديه من دماء أبناء شعبنا وأمتنا.