حـوارات غـزة إلى أين ... إتفـاق أم توافـق ؟
ثلاثة أسابيع ونيف، وجلسات الحوار الوطني الفلسطيني الذي انطلق من مدينة "رام الله" مستكملاً مداولاته في مدينة "غزة " بناءً على رغبة العديد من المشاركين فيه، لم تكن كافية لظهور "الدخان الأبيض" من غرفة الحوار. ومابين تلك الجلسة الكرنفالية التي شهدت خطاب الإنذار الرئاسي _ إما الاتفاق على وثيقة أسرى سجن "هداريم" خلال عشرة أيام أو ما تبعها من تمديد للفترة إلى أربعين يوماً إضافية وإلا الاستفتاء، والجلسة الخامسة أو السادسة التي ستنتهي فيها الحوارات، لتظهر للعلن حصيلة تلك الاجتماعات، في المؤتمر الصحفي أو "العرس الوطني" حسب تعبير أحد المشاركين، وثيقة أو برنامج "الإجماع الوطني". طوال تلك الأسابيع، لم تتحرك عقارب الزمن لوحدها، بل ارتبطت فيها وبها، عقول وقلوب الملايين من الصابرين الصامدين، وهي تراقب عبر الفضائيات والتصريحات "التعارضات والتناقضات" بين ماأطلق عليه البعض تجاوزاً "صراع الأخوة الأعداء". في المشهد الفلسطيني المألوف منذ عقود سالت الدماء الفلسطينية، لكن هذه المرة لم تكن فقط بصواريخ وفرق موت "أولمرت _ بيرتس _ بيريس" بل بأيد فلسطينية، نشرت الموت والدمار، وأباحت سفك الدم الفلسطيني على مذبح المشاريع الفئوية المشبوهة.
مارشح عن جلسات الحوار الوطني الجماعية، أو لقاءات القوى الأساسية _ التي يرغب البعض بتسميتها الخمس الكبار "تيمناً بالثماني الكبار الدولية" ! _ أن احتمالات الاتفاق على ما اصطلح على تسميته "وثيقة الأسرى أو الوفاق الوطني" أصبح قاب قوسين أو أدنى، خاصة بعد التعديلات التي تحرص بعض القوى على توصيفها بإعادة صياغة لبعض البنود، وهو ما أشار إليه "جميل مجدلاوي" النائب عن كتلة الشهيد "أبو علي مصطفى" بقوله "إن التباين في الصياغات وليس في جوهر المواضيع" مشدداً بتفاؤل _ في غير محله _ "يمكننا إنهاء هذا التباين خلال الساعات الثمانية والأربعين المقبلة". إن متابعة تصريحات بعض المتحاورين، تدفع بالمراقبين للتفاؤل بقرب التوصل إلى الاتفاق الشامل، بينما نلمح في كلام البعض الآخر، الحذر الشديد في التعامل مع البنود الأهم في الوثيقة، والتي تشكل أبرز نقاط الخلاف بين قطبي الحوار، أو لنقل بين مضمون البرنامجين المتقابلين، إن لم نقل المتصارعين. إن المفاجأة الأبرز في تتابع الجلسات، كان التوافق على أن تكون وثيقة أسرى سجن هداريم _ الفاقدة لإجماع أسرى المعتقلات الصهيونية _ هي الورقة الوحيدة للحوار والنقاش، بينما كانت بعض القوى تصر على أن تكون الورقة الأساس، بالإضافة لمبادرات القوى "الشعبية، الديمقراطية ...." والاقتصاديين والأكاديميين. وعند التوقف أمام النقاط الخلافية الأبرز في الحوارات، تبرز خطورة "التوافقات" المستندة على تقديم التنازلات الجوهرية عن الأسس التي يستند عليها النضال التحرري لشعبنا. خاصة وأن حركة "فتح" قد ساهمت خلال الحوارات بتقديم "ملاحظات" شكلية على صياغة بعض البنود، لأن الوثيقة تعبر بشكل واضح عن برنامج رئاسة السلطة وتوابعها. بينما توقفت القوى الأخرى وفي المقدمة منها "حركة الجهاد الإسلامي" عند القضايا الأهم وهي "مقاومة العدو على كامل أراضي فلسطين التاريخية، قرارات الشرعية الدولية وطبيعة مضامينها العادلة أو المنحازة للعدو ومقدار موافقة والتزام حكومات العدو بتطبيقها، ومرجعية المفاوضات في حال بدئها!"، منظمة التحرير الفلسطينية كإطار جامع، وكيان فاعل للعمل الوطني الفلسطيني يعتمد على مضمون وروح الميثاق الوطني، من خلال مشاركة جميع القوى فيها، وإعطائها دوراً مركزياً في تشكيل مؤسساتها ولجانها".
لقد اندفع البعض من المشاركين في استباق نتائج الحوار بإعلانهم عن إعادة تشكيل الحكومة.
وإذا كان من المؤكد أن وصول المجتمعين للاتفاق سينتج عنه بالضرورة، تشكيل حكومة جديدة، فإن من غير المفهوم (بل المفهوم !) أن يندفع "ياسر عبد ربه" عضو اللجنة التنفيذية للقول " نريد حكومة جديدة برئاسة شخصية مستقلة تلقى ترحيباً من الجميع" لكن ما لفت نظر المراقبين أن "عبد ربه" فضح رؤية وفهم فريق من المتحاورين للمهام الحكومية والرئاسية، وبالتالي لحقيقة موقفهم من الوثيقة والحوار و... الاستفتاء! بقوله "ينحصر عمل الوزارة في الشأن الداخلي، أما الشأن السياسي فيكون من اختصاص الرئيس "عباس" ورئاسة المنظمة". باختصار حكومة، تتحول إلى _مجلس بلدي _ تقوم بإدارة شؤون المواطنين الحياتية، وتسهيل تقديم الخدمات لهم. ورئاسة السلطة وقيادة المنظمة (وجهان لعملة واحدة) تقوم بإدارة العلاقات السياسية الإقليمية والدولية، وتُقدم ذاتها لطاولة المفاوضات "السرابية" مع العدو. إن أية حكومة ائتلافية موسعة، يجب أن تكون مستندة إلى قيادة "حماس" لها، بسبب فوزها الكبير في صندوق الانتخاب. ولهذا فإن الحلول الواقعية تتطلب أن يقوم "هنية " بتشكيل حكومة جديدة تستند على مشاركة القوى السياسية وعدة شخصيات وطنية وأكاديمية متخصصة مشهود لها بالكفاءة والنزاهة.
إن الهروب للأمام من ابتزاز "سيف الاستفتاء" لن يكون بتقديم تنازلات أساسية عن ثوابت النضال الوطني، بمقدار مايكون بتشديد النضال، وتحسين شروط المواجهة الوطنية الجماعية من خلال مغادرة البعض لوهم الرهان على انتقال فريق أوسلو / جنيف إلى أرضية التوافقات الأساسية. إن إدارة الصراع مع العدو، والعمل على تحييد القوى الإقليمية والدولية من خلال فضح وحشية المجازر الصهيونية العدوانية (أكثر من ثلاثين شهيداً ومائة جريح ومئات المعتقلين خلال عشرة أيام من هذا الشهر) وخطط حكومة العدو بترسيم الحدود من جانب واحد، بالاعتماد على ما رسمه جدار الفصل والضم العنصري، وشرعنة كتل المستعمرات الكبرى وضمها لكيان العدو. إن مواجهة كل ذلك بالإضافة إلى توفير الخبز والدواء والراتب للمواطن سيعتمد على حكومة وحدة وطنية حقيقية، يشارك فيها الجميع بدافع الحرص على الشعب وعلى النضال الوطني، وعلى توفير الحياة الكريمة للمواطن، من خلال فتح الخزائن والصناديق المالية لكل حركة وتنظيم من أجل تغطية الاحتياجات الأساسية له، فكل قرش دَخَلَ " مالية " كل فصيل هو ملك للشعب الذي قدم الشهداء والجرحى والأسرى.
إن العمل من أجل إنقاذ المواطن من معاناته، يتطلب من الجميع التسامي على المواقع والامتيازات الفئوية الضيقة. فهل تحمل لنا الساعات القادمة تباشير الفرح العام؟.