قباحة العار الجديد في جنيف

لم يكن موقف سلطة الحكم الذاتي في اجتماعات مجلس حقوق الإنسان الدولي (يوم الجمعة 2/10/ 2009)، الذي ناقش وعلى مدى عدة أيام التقرير الذي أعده القاضي «ريتشارد غولدستون» مفاجئاً للعديد من أبناء الشعب الفلسطيني والأمة العربية «المكتوين» بنيران الإذعان والتفريط لتلك السلطة تجاه القضايا الوطنية للشعب الفلسطيني. لكن اللافت لنظر المراقبين المتابعين للعديد من المحطات الهامة التي أدارت فيها السلطة ظهرها للمبادرات العربية والدولية المساندة لنضال الشعب الفلسطيني ودورها في تبديد كل المحاولات التي تدين وتفضح عدوانية الممارسات الوحشية لجيش الاحتلال وحكومته، يؤكد تجاوز وظيفة قيادة مقاطعة رام الله المحتلة لدورها البوليسي المحلي الذي يحافظ على «سلامة واستقرار» كيان العدو، وتمدد مستعمراته، وحرية حركة قطعانه السائبة، وانتقال مهماتها للصعيد الدبلوماسي في المحافل الدولية، من أجل تبييض صفحة العدو، وغسل يديه من دماء أبناء شعبنا وأمتنا.

مئات الصفحات التي تضمنها التقرير، سلطت الضوء على المجازر الدموية التي قامت بها قوات جيش الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة خلال عدوانها الوحشي المستمر لأكثر من ثلاثة أسابيع في كانون الأول 2008 وكانون الثاني 2009، والذي استخدمت فيه أصناف عديدة من الأسلحة المحرمة دولياً. كل المعطيات والدلائل كانت تشير إلى تبني القرار من 33-35 دولة من بين الدول الـ47 الأعضاء. المفاجأة التي أذهلت معظم الدول الموجودة في القاعة، كان قرار ممثل السلطة الذي قدمه المندوب الباكستاني والقاضي بتأجيل بحث القرار والتصويت عليه للدورة القادمة في آذار من العام القادم.

ردة الفعل الغاضبة الصادرة من الدول الشقيقة سورية، مصر، قطر، وتصريحات عمرو موسى وأكمل الدين اوغلو، والمئات من منظمات حقوق الإنسان العربية والدولية، دفعت بأركان سلطة الحكم الذاتي المحدود للدفاع عن قرار التأجيل تحت حجج واهية لم تصمد أمام حقائق الواقع. ولتبرير موقفهم، تناوب على الفضائيات حفنة من الوجوه الصفراء التي اجترت كلاماً لزجاً عن أهمية التأجيل. لكن صدى موقف السلطة المخزي، انعكس بحالة رفض وإدانة شعبية واسعة فاجأت أركان سلطة المقاطعة، مما فرض على وجوه أخرى تناوبت على الكلام، إدانة قرار ممثلها في جنيف، وإلقاء المسؤولية على أكثر من جهة، كما يقول الدكتور عزمي بشارة في قراءته لما حصل بمقال نشره قبل أيام (مكتب رئيس السلطة يسرب معلومات بأن الضغط للتراجع عن دعم التقرير جاء من مكتب رئيس الحكومة، والأخير يؤكد العكس. وطرف ممن كان يساراً فلسطينياً يدين «الموقف المخجل» للمندوب الفلسطيني في جنيف، وكأن الأخير هو صاحب قرار. في حين أن ممثل الفصيل اليساري يجلس في الحكومة صاحبة القرار، ويؤيد الرئيس صاحب القرار). إن محاولة حفظ ماء الوجه من خلال تشكيل لجنة للتحقيق في ملابسات ماحصل يدفعنا للسخرية من صيغة الهروب تلك، لأن اللجان تتشكل من أجل البحث عن الفاعل المجهول في القضية، لكن الذي حصل في جنيف مكشوف للجميع. كما أن ممثل السلطة «ابراهيم خريشة» أكد التزامه بتنفيذ القرار الذي جاء من رأس السلطة، وكان مفاجئاًً له كما يقول بعض المقربين منه، مما دفعه- كما تقول مصادر إعلامية متعددة- لطلب إرساله بالفاكس ليكون مُستنداً بين يديه أمام أية مساءلة قادمة.

لقد عرّت واقعة جنيف مجدداً نهج التفريط الذي سارت عليه «القيادة الفلسطينية المتنفذة»، وماحصل مؤخراً كان حلقة في سلسلة التنازلات التي مارستها تلك القيادة. وإذا جاز لنا أن نتحدث عن بعض الحلقات في سنواتها الأخيرة، من باب إنعاش ذاكرة شعبنا وأمتنا تجاه ما بدر من مواقف مخزية لتلك المجموعة التي اختطفت «الحركة والمنظمة»، خاصة بعد أن وقعت تلك القيادة على اتفاق المبادئ الكارثي في أوسلو. فقد تم الاعتراف للعدو بعد احتلاله الثاني لما تبقى من الأرض الفلسطينية عام 1967 بأن المساحات الجديدة الخاضعة لحكومة المستعمر هي «مناطق متنازع عليها». كما أن ذات «القيادة» أهملت القرار الأممي الهام الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي حول لاشرعية بناء وامتداد جدار التقسيم والضم الاحتلالي الجديد. وهي ذاتها التي عاشت على وهم «المفاوضات حياة» ومارست هذه «الثقافة التفاوضية» بعشرات اللقاءات، التي فرطت وتنازلت ليس عن عودة اللاجئين إلى بيوتهم وأراضيهم التي أجبروا على مغادرتها نتيجة الاحتلال الأول 1948، بل والتنازل مجدداً عند الحديث عن صفقات «تبادل الأراضي والسكان» المستقبلية. كما أن تلك «القيادة» كانت قد أسقطت عبر مندوبها في نيويورك «رياض منصور» قراراً كان يمكن أن تتخذه الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بناء على ماتقدمت به قطر واندونيسيا، باعتبار قطاع غزة منطقة منكوبة.

لقد خضعت سلطة الحكم الذاتي المحدود لرغبات وأوامر «السيد» الأمريكي. فصحف العدو، ومصادر إعلامية متنوعة، أكدت دوراً واضحاً للقنصل الأمريكي «جاك والاس» في القدس المحتلة، في الطلب من محمود عباس تأجيل التصويت على التقرير تحت دعاوي «الحفاظ على مبادرة أوباما في عملية السلام». بالإضافة إلى ماتردد عن صفقة اقتصادية/ استثمارية تتيح للقطط السمان في قمة هرم السلطة الاستفادة من رخصة تشغيل خط اتصالات جديد. والحجز على أموال الضرائب التي تجنيها حكومة العدو وتقوم لاحقاً بدفعها للسلطة. لكن الأخطر من كل ذلك، ماتحدث به علناً أكثر من مسؤول في حكومة العدو عن امتلاك تلك الحكومة لتسجيلات صوتية لبعض قادة سلطة المقاطعة، تشجعهم على استكمال مذبحتهم الوحشية في عدوانهم الواسع على غزة لإنهاء سلطة حماس، وتهديدهم بنشرها للعلن إذا لم توافق السلطة على التأجيل.

أمام هذا الواقع تبدو الدعوة لحل السلطة وإنهاء وجودها، ضرورة وطنية راهنة، بعد تماهيها مع المحتل في كل مجالات التنسيق الأمني والسياسي والاقتصادي. وهذا يتطلب من جميع القوى السياسية والشخصيات الوطنية المستقلة، والقوى المجتمعية الرافضة لدور ووظيفة سلطة رام الله ومرتكزاتها، العمل على تنشيط الحراك السياسي وتأطيره بهدف الحفاظ على الثوابت الوطنية وفي مقدمتها استمرار المقاومة المسلحة والجماهيرية، وتحصين المجتمع الفلسطيني بوجه دعاة التفريط، وأنصاف الحلول.