الورقة المصرية الجديدة اتفاقية للوفاق أم لشرعنة التنازلات؟

جاءت نتائج إعادة طرح تقرير غولدستون في الجلسة الخاصة لمجلس حقوق الإنسان العالمي في جنيف، لتهدئ قليلاً من حالة الغضب الشعبية الواسعة التي استهدفت كل مكونات سلطة رام الله المحتلة، أفراداً ومؤسسات، لكنها لم توقف الحملات الإعلامية المتبادلة بين رموز وهيئات السلطة، وقوى المعارضة الفلسطينية- فصائل وهيئات أهلية وشخصيات سياسية وفكرية وإعلامية مستقلة- المتصاعدة على خلفية الصيغة المصرية الجديدة لـ«المصالحة»، التي تضمنتها «اتفاقية الوفاق الوطني الفلسطيني- القاهرة 2009»، خاصة وأن الموقف الرسمي المصري، كان حاسماً في الطلب من الفصيلين المتنازعين «فتح وحماس» التوقيع على الاتفاقية، لأنها «غير قابلة للتعديل أو التطوير أو المناقشة»!

مابين الورقة السابقة «الرؤية المصرية لإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني» التي استلمتها الفصائل في العاشر من شهر أيلول/سبتمبر الفائت، والورقة الجديدة «اتفاقية الوفاق...» التي استلمتها «فتح وحماس» في العاشر من هذا الشهر، جرت مياه كثيرة في نهر الخلاف، مما أدى لارتفاع منسوب التجاذبات على أكثر من صعيد. وإذا كان مفهوماً مبررات السرعة الخاطفة التي جعلت «فتح» تضع توقيعها على الاتفاقية، نظراً لما تضمنته من ترسيم وشرعنة للسلطة، ومركزة لـ«السلطات» بيد رئيسها المنتهية ولايته منذ شهر كانون الثاني/ يناير المنصرم، الذي أصبح «المرجعية» للعديد من اللجان والهيئات (لجنة الانتخابات، لجنة تنفيذ المصالحة، لجنة تفعيل منظمة التحرير، الهيئات الأمنية) فإن رفض حماس التوقيع الفوري على الاتفاقية، يجد له مسوغاته الكثيرة نظراً لخطورة هذه القضايا، التي حاول وفد قيادي رفيع المستوى اجتمع مع مدير المخابرات العامة بالقاهرة، توضيح أسباب ذلك، لأن الحركة فوجئت بإضافة صلاحيات ومهمات جديدة لرئيس سلطة الحكم الذاتي المحدود، لم تكن مدرجة في الورقة السابقة «الرؤية المصرية...» مما يتطلب ذلك مناقشة تلك المستجدات. لكن ماتسرب عن ذلك اللقاء العاصف بين عمر سليمان ووفد الحركة يشير إلى استعصاء جدي في حوار الطرفين، انعكس بعد ذلك في عدم سفر الوفد مجدداً للقاهرة تحت تبريرات بروتوكولية، لاتصمد أمام حقيقة رفض القاهرة استقبال الوفد قبل وضع توقيعه على الوثيقة.

وقد جاء الموقف العلني للقوى الفلسطينية والشخصيات الوطنية المستقلة قبل عشرة أيام، بعد سلسلة حوارات ومداولات، الرافض لبعض الإضافات الجديدة، ليعبر عن الموقف الوطني الصحيح تجاه الاتفاقية. خاصة وأن هذه الاتفاقية قد غيبت بشكل مقصود الثوابت الوطنية لشعبنا، فالوطن المنكوب باحتلالي عام 1948 و1967 أصبح «الضفة والقطاع». وشعبنا الذي يخوض معركة صموده في مناطق وجوده على امتداد أرض فلسطين التاريخية، أو من أجل عودته لأرضه من المنافي القسرية، والمغتربات، يصبح فقط «ابن الضفة والقطاع». والقدس التي تلتهمها المستعمرات، والرؤى الصهيونية بأن- القدس العاصمة الموحدة للكيان الاحتلالي- لم تجد لها مكاناً في الأوراق المصرية المتداولة. وفي هذا الجانب، فإن كلمات الكاتب الكبير «فهمي هويدي» في مقاله الأخير «مغالبة لامصالحة» قد لخصت بشكل دقيق مخاوف الوطنيين من الاتفاقية (الوثيقة تعاملت بغموض مع عناوين مثل الاحتلال والمقاومة والحصار والتحرير. وكأنها تجنبت التذكير بواقع الاحتلال الذي هو أصل المشكلة، والمقاومة التي هي السبيل الذي لا بديل عنه لمواجهة الاحتلال والحصار الذي هو قضية الساعة، والتحرير الذي هو الهدف الذي يرنو إليه الجميع، وحين تخلو وثيقة الوفاق الوطني من موقف واضح إزاء هذه العناصر الأربعة فإننا نصبح إزاء نص محير، يحتاج المرء إلى بذل جهد كبير كي يحسن الظن به، وتتحول الحيرة إلى دهشة حين يلاحظ المرء أن معدي الوثيقة هونوا من شأن الاحتلال والمقاومة والحصار والتحرير، وإن ذكرت الكلمة الأخيرة فقط حين تمت الإشارة إلى منظمة التحرير، التي تحولت إلى مجرد اسم لا مدلول سياسياً له، تماما مثل ميدان التحرير أو مقهى التحرير في قلب القاهرة).

في ظل الحملة الإعلامية التي تقودها رموز فتح/ السلطة في رام الله، عبر البيانات والتصريحات والمؤتمرات الصحفية، واللقاءات التنظيمية الداخلية المنقولة على الهواء- اجتماع المجلس الثوري واللقاء بكوادر فتح- تتضح مع كل عبارة، حقيقة الموقف من الحوار. فالحديث عن «الإمارة الظلامية» و«تحرير شعب غزة وليس أعضاء فتح فقط من اعتقال حماس لهم، ستكون المهمة الأولى على أجندة قيادات الحركة»، يكشف الخداع اللفظي حين الحديث عن «المصالحة"، لأن الموافقة على اتفاقية الوفاق الآن، وعلى الرؤية المصرية قبلها، هو خطة طريق فتحاوية لإنهاء «الانقلاب الأسود» في غزة، رغم مايكرره أصحاب خطة الطريق تلك، من حرص على «الاستحقاق الدستوري» المستند إلى بنود القانون الأساسي للسلطة. والاستحقاق هنا من أجل مَنْ ولمصلحة مَنِْ(؟)، خاصة وأن سلطة الحكم الذاتي ليس لديها دستور، مما يؤكد أنها لم تمتلك الاستقلال، بمقدار ماأصبحت «كياناً» يموه الاحتلال ويشيع الوهم بأننا أصبحنا أحراراً. أما الحديث عن أهمية الوفاق الوطني لتحقيق المصالحة التي ستترتب في ظلها الانتخابات، فلا يعدو كونه محاولة أخرى لتشويه الوعي ومصادرة الذاكرة الوطنية للشعب. فالوفاق والائتلاف الوطني تجسده القوى السياسية والمجتمعية على قاعدة البرنامج الوطني. وفي وضعنا الفلسطيني، فأي برنامج لاتكون المقاومة والتحرير عناوينه ومضامينه، سيكون برنامجاً للتنازل والإذعان للمحتل. كما أن الانتخابات المعقودة في ظل الاحتلال المباشر أو المستتر، ستكون محكومة وخاضعة لقوانين واشتراطات المحتل، كما تضمنها اتفاق أوسلو المذل، مما يفقدها ديمقراطيتها. فالذهاب لصندوق الاقتراع في المناطق والدول المستَعَمَرة، ليس هو معيار الديمقراطية، بمقدار ماتعني مواجهة المحتل بالسلاح والاعتصام والإضراب، الديمقراطية الصحيحة، لكونها التعبير الحقيقي عن قناعات الشعب. وبالرغم من مشاركة القوى السياسية الفلسطينية بالانتخابات الأخيرة، باستثناء حركة الجهاد الإسلامي التي تميزت بموقف وطني مبدئي ينسجم مع موقفها الرافض لاتفاق أوسلو واستحقاقاته، أكدت من خلاله على القطيعة الكاملة مع المشاركة بالانتخابات أو الحكومات، فإن 24% من المواطنين الذين يحق لهم الانتخاب قاطعوا صناديق الاقتراع، وهذا ما يوحي بتكرار المقاطعة وتوسيعها، كما بدأ يظهر من خلال التحرك الواضح داخل مناطق «السلطتين» والداعي لمقاطعة الانتخابات القادمة.

إن الدعوة لـ«المصالحة» في ظل الاشتراطات الأمريكية والأوروبية، التي تحدث عنها جورج ميتشل، والناطق الرسمي للخارجية، وكما كررها رئيس سلطة المقاطعة في أكثر من مناسبة، ستكون على قاعدة الالتزام بشروط اللجنة الرباعية: وقف العنف- أي المقاومة، والاعتراف بالكيان الصهيوني، والالتزام بالاتفاقيات الموقعة. وهذا يعني أن تمارس قوى المقاومة الانتحار الذاتي، معلنة شهادة وفاتها.

في ظل هذا المشهد الشديد القتامة، تبدو هناك إمكانية للتوقيع «الإلزامي» على اتفاقية الوفاق، بفعل مجموعة التفاهمات/ الضغوط المحلية والإقليمية والدولية، لكن التوقيع في حال حصوله، هل يعني صفاء القلوب، والقناعة بالتوحد حول برنامج العمل للمرحلة القادمة(؟)، ليبرز تلقائياً السؤال الأهم حول طبيعة ومضمون البرنامج. وهذا يدفع للتساؤل عن مصير الاتفاق الجديد، مقارنة بـ«اتفاق مكة» الذي لم يصمد أمام طبيعة الواقع. فهل الاتفاقية الجديدة فيما لو تم التوقيع عليها ستصمد أكثر مما صمد الاتفاق السابق؟ سؤال ستجيب عنه الأيام القادمة.