حوار غير مباشر بالخطابات والتصريحات!
مازالت كرة النار التي ألقتها قيادة سلطة رام الله المحتلة في حضن المجتمع الفلسطيني والعربي والدولي من خلال فعلتها النكراء الجديدة في جنيف، تتفاعل بسرعة. وإن كانت صفة الارتباك والتلعثم قد ارتبطت بأسماء كل من تنطح لتبرير التأجيل أولاً، أو تخطئته بعد ردة الفعل المجتمعية، فإن مستجدات الأيام الأخيرة، شهدت إعادة انتاج للخطاب السياسي/ الإعلامي الصاخب الذي ارتبط بسيطرة حماس، خلال حسمها العسكري على قطاع غزة منتصف يونيو/ حزيران 2007، والذي جاء خطاب عباس بفضائية السلطة، وكلماته في الحفل الذي شهدته الجامعة الأمريكية في مدينة «جنين»، ليدشن مرحلة «رسمية» في شرعنة هذا الخطاب وفتح آفاقه نحو اللاحدود، وليكشف بالوقت ذاته عن نبرة استعلائية/ إقصائية، تعمل على تبرير الخطايا المتتالية بلغة ملتبسة في مضمونها السياسي- تأجيل تقرير غولدستون...نموذجاً، وعلى استخدام وتعميم عبارات واضحة وفاقعة عند الحديث عن حماس. عشرة أشهر تقريباً، هي عمر جولات الحوار الفلسطينية المكوكية، خفتت فيها تلك التوصيفات التي أنتجتها معارك «الإخوة الأعداء» في غزة والضفة. لكن ماأحدثته ردود الفعل الفلسطينية والعربية ومنظمات حقوق الانسان الدولية على «جريمة» جنيف، لم تدفع بـ«السيد الرئيس»- كما يعتقد البعض واهماً- إلى الاعتذار عما حصل، أو كما يتمنى قطاع واسع من الشعب والأمة استقالته وحاشيته، كما يحصل في تجارب الدول والحكومات الديمقراطية. ولهذا فإن الخطاب المتلفز وماتتالى بعده من كلام يقطر سماً، على لسان أكثر من مسؤول بالسلطة والحركة، كما جاء في تصريحات «حسين الشيخ»، عرى بعض المواقف المتخفية خلف كلمات «المصالحة والوحدة»، لكن ما أفصح عنه ياسر عبد ربه بـ(إعلان إجراء الانتخابات من جانب واحد في موعدها الدستوري في كانون الثاني المقبل في حال تعثر جهود المصالحة)، مضيفاً بعبارات لاتخلو من الابتزاز والتهديد (إما أن نتفق على موعد الانتخابات والتوقيع على الوثيقة المصرية وتكون الانتخابات في الموعد الذي حدده الأشقاء المصريون، وإما سنقوم بخطوة من طرف واحد وهي الخطوة الشرعية بإصدار مرسوم بتحديد موعد الانتخابات في كانون الثاني)، يفضح حقيقة التوجه نحو تكريس سلطتهم على «محمية الضفة» عبر الذهاب للانتخابات المنفردة.
إن الإطار العام لتلك الحملة المنهجية المركزة لطاقم المقاطعة في رام الله، تَحَدَد في لغة فئوية/ فصائلية، تدّعي امتلاك «وهج الحقيقة وأنوار الرخاء والانفتاح والتنمية»، بينما «الإنقلابيون» في غزة غارقون في ظلام شامل انطلاقاً من بعض القوانين التي تريد «تفصيل حياة البشر» على مقاس بعض الاجتهادات- حتى لانقول الفتاوى- ومحاولة تطبيقها بالممارسات الفجة والاستفزازية التي تطبقها شرطة وأجهزة سلطة حماس في غزة، التي أوجدت بعض المبررات للحديث عن ظلامية التجربة. وطالما نحن بصدد الكتابة عن السوداوية، فإن ظلام التجربة الدايتونية لايخيم فقط على أكثر من ألف مناضل فلسطيني يقبع في سجون ومعتقلات السلطة، بل يمتد إلى شوارع وجامعات ومعاهد وأراضي الضفة المحكومة بالعقلية البوليسية المتماهية مع المحتل ومشروعه، الهادفة إلى استئصال ثقافة المقاومة والتحرير، وزرع مفاهيم وغرائز تستسيغ التعامل مع العدو، الذي أصبح لدى «المستعربين الجدد» الشريك والصديق!
بعد أقل من ساعة على بث الخطاب «الرئاسي» المتلفز لفضائية السلطة، خاطب رئيس المكتب السياسي لحماس وعلى هامش ملتقى الجولان الدولي، نخبة من الفعاليات الفلسطينية/ العربية، والأممية المناصرة لقضية حرية الجولان وعودته للوطن. وقد جاءت المواقف التي تضمنها خطاب «مشعل» كرد سريع ومباشر على كلمات عباس، إذ كان واضحاً لجمهور المستمعين والمتابعين أن تأخر مشعل عن الوصول للقاعة، كان بسبب متابعته المباشرة لذلك الخطاب المتلفز. الخطاب/ الرد كان يمتاز برفع سقف الموقف الوطني المقاوم الذي يتطلب تنفيذه العودة لبرنامج المقاومة المسلحة والجماهيرية الهادفة تحرير فلسطين المنكوبة باحتلالي 1948 و1967، بعد أن ثبت وبالوقائع الميدانية بؤس الرهان على قيام دولة/ سلطة على الأراضي المحتلة عام 1967 والدخول في متاهة التهدئة/ الهدنة المفتوحة، والمغادرة النهائية لمنطق وعقلية «السلطة السياسية السيادية»، والعمل على إدارة الشؤون الحياتية/ المدنية للمواطنين عبر قوى مجتمعية وطنية مخلصة.
لم يتوقف رد حماس عند خطاب قائدها، بل تبعه كلام وتصريحات قيادييها في غزة وبيروت، انطلقت أيضاً من عقلية فئوية/ فصائلية هبطت باللغة السياسية إلى مستويات لاتليق بالرد الموضوعي على جرائم السلطة المتكررة. في هذا المناخ السائد الذي فرضته حرب التصريحات والخطابات، تتراجع امكانية انعقاد جلسات الحوار وكذلك التوقيع على الاتفاق، رغم بعض السيناريوهات المصرية الجديدة، لأن المصالحة والتوافق والتنسيق والوحدة تتطلب جميعها مجموعة شروط وعوامل، لايكون التراجع عن جريمة تأجيل التصويت على قرار غولدستون مبرراً لتحقيقها، لأن الخطيئة التي حصلت في جنيف لاترقى إلى جرائم التنسيق الأمني مع المحتل ومطاردة واعتقال واغتيال المقاومين والتخلي عن قضية اللاجئين وفلسطينيي الداخل «عرب48» وإنهاء الدور/ الإطار الذي رسمه الميثاق الوطني والقومي لمنظمة التحرير الفلسطينية. إن الهروب للأمام للتوافق على موعد الانتخابات ونظام القوائم والمحاصصة في قوات الأمن، لن يوفر أرضية حقيقية للوحدة، بل سيكون ذراً للرماد في العيون، للتعتيم على القضايا الخلافية الكبرى، والتي كان لإعلان اتفاق المبادىء في أوسلو النصيب الأكبر في فرض الانقسام واشاعة الخراب الذي نعاني نتائجه حتى الآن.
في ظل هذا الواقع، تبرز أهمية الحراك الوطني الشامل والجهود المبذولة من أجل تأطيره، الذي تشهده معظم التجمعات الفلسطينية داخل فلسطين التاريخية وخارجها بهدف إعادة الاعتبار لوحدة الشعب الفلسطيني في كل مواقع وجوده، ولنضالاته التي تشكل في مجموعها المشروع الوطني التحرري. إن دلالات التحرك الكفاحي الذي تعيشه فلسطين المحتلة عام 1948 كما تجلى في الاحتفاء بذكرى هبة أكتوبر المجيدة، وفي عملية الدفاع عن عروبة القدس وعن المقدسات، وفي المهرجان الأخير الذي شهدته مدينة «عكا» قبل أيام، تشير إلى النضوج الكبير في فكر ووعي الحركة السياسية في الداخل المحتل.
إن تأطير القوى المجتمعية حول الثوابت الوطنية التاريخية، وعملها الديمقراطي القاعدي الذاتي في صياغة الأشكال التي تتلاءم مع مهماتها حسب خصوصية كل تجمع فلسطيني، أصبحت مهمة ملحة وراهنة.