فتح وصندوق الانتخابات … حصاد مرّ لممارسات تدمير الذات
تعيش الجماهير الفلسطينية في محافظات غزة والضفة حراكاً سياسياً استثنائياً. فصناديق الاقتراع للجولة الرابعة من انتخابات المجالس البلدية لم تُفرغ أوراقها فقط، بل تدفقت عبر نتائجها ملامح العمل الفلسطيني القادم. لقد أنهت حماس من خلال جهد دؤوب على الأرض "سياسي مقاوم، اجتماعي ملتزم بهموم الناس" وعبر شخصيات أكاديمية، تجارية مشهود لها بالكفاءة والنقاء المسلكي، استئثار فتح بغالبية مقاعد المدن الكبرى بالضفة (نابلس وجنين مثلاً) وجسدت على أرض الواقع الانتخابي ثنائية جديدة، تنهي بوضوح شديد تفرد حزب السلطة بالعديد من المواقع.
فمنذ كانون الأول 2004 جرت انتخابات محلية للمجالس البلدية والقروية بأربع جولات (بقيت جولة خامسة وأخيرة) في 263 سلطة محلية "مجلس" استطاعت حماس التحكم والسيطرة في 81 منها، يبلغ عدد سكانها 1,1 مليون مواطن، بينما انتصرت فتح في 121 سلطة محلية يقيم على أراضيها 700 ألف مواطن. ومدلولات هذه النتائج تتحدد بمدى الدور الذي تلعبه القوى السياسية في كسب رضا الجمهور، والأهم في تحليل أسباب انحياز الكتلة الشعبية التي صوتت في مراحل مختلفة لحركة فتح، إلى قوة سياسية أخرى.
نتائج الحدث الكبير كانت غير مفاجئة، فتعقيدات الوضع الداخلي لفتح، التي بدأت تظهر من خلال تعدد مراكز القوى، وبروز إقطاعيات داخلية ترتبط بالولاء للقائد/ الرمز الذي يغدق عليها الرواتب والامتيازات، مما أدى لانتشار الفساد نتيجة غياب المحاسبة وتوقف اجتماعات الهيئات الجماعية (آخر مؤتمر للحركة انعقد قبل 16 عاماً)، وتمركز المسؤوليات بيد القيادات الفتحاوية القادمة من الخارج، التي أمسكت على مدى السنوات التي أعقبت عودتها للداخل، بكل المفاصل المركزية التنظيمية والإدارية، التي ضاعف من دورها وتأثيرها قيام سلطة فلسطينية بامتيازات عديدة، مما أفقدها رؤية نتائج العمل الكفاحي الذي قام به مناضلو الحركة في الداخل عبر عشرات السنين وهم يواجهون المحتل، والذي كان يتطلب أن يأخذوا مكانهم في الهرم القيادي. لقد أدت تلك الأوضاع لوجود أشكال تنظيمية / داخلية فرضها واقع العمل للقيادات الميدانية "لجنة حركية عليا" أصبحت موازية في دورها ونشاطاتها لدور قيادات الصف الأول «لجنة مركزية ومجلس ثوري»، بل قد تحولت عند بعض أعضائها، وفي تحركات علنية مباشرة إلى مركز للتحدي والمواجهة مع القادة التاريخيين المؤسسين وفي مقدمتهم أبو عمار، في محاولة لتقليص دورهم الريادي، وفرض مشاركتهم في المراكز الأولى تحت دعاوي "الإصلاح" كما عبرت عنه أشكال الاحتجاج العنيفة التي شهدتها غزة في شهر تموز / يوليو في العام المنصرم، والتي كانت تصريحات محركها " محمد دحلان" في صحيفة الحياة اللندنية في 25 / 7 / 2004 أفضل تعبير عن أهدافها. إلا أن وجود أبو عمار برصيده التاريخي، ولكونه يمسك بكل مفاتيح العمل الأساسية، فوت على "التصحيحيين" أو الانقلابيين الفرصة.
لقد برزت في الأشهر الأخيرة، التي أعقبت إغتيال "الختيار" العديد من الظواهر التي أعادت للعلن قضايا الخلاف بين أعضاء الحركة، بدءاً من اللجنة المركزية مروراً بالمجلس الثوري وكافة الهيئات الوسيطة وانتهاءً بأدنى تشكيل قاعدي، لكن ماحصل خلال الأيام الأخيرة الماضية _ مازالت تفاعلاته تتفاقم على كافة مستويات العمل الداخلي الفتحاوي "أفقياً وعمودياً" _ يشير إلى دخول الأزمة في نفق مظلم. فقبل إغلاق باب الترشيح لانتخابات المجلس التشريعي بقليل، تقدمت حركة فتح بقائمتين للترشيح ، قائمة "المستقبل " التي يترأسها الأسير مروان البرغوثي وتتضمن عدة أسماء أبرزها محمد دحلان، جبريل الرجوب، قدورة فارس، أحمد غنيم، سمير مشهراوي و سفيان أبو زايدة، بينما الأخرى التي قدمتها اللجنة المركزية تحمل اسم «حركة فتح» ويترأسها الأسير محمد ابراهيم محمود "أبو علي يطا" وتتضمن عدة أسماء أبرزها أحمد قريع، انتصار الوزير «أم جهاد»، روحي فتوح، عثمان أبو غربية، حكم بلعاوي، أحمد حلس ونبيل عمرو. وقد انعكس هذا التمزق الانتخابي بعد ساعات، على أعضاء وأنصار فتح الذين استنكف بعضهم عن الادلاء بصوته لصالح مرشحي الحركة في الانتخابات المحلية، بل أن البعض الآخر صوت للقوائم الأخرى.
إن الوضع الراهن بقائمتيه الفتحاويتين يشير إلى وصول الأزمة الداخلية إلى مفترق طرق، فالكلام عن صراع بين الحرس القديم وجيل الشباب ماهو إلا ّ محاولة للالتفاف على مفاعيل الأزمة، والحديث عن صراع بين رموز النقاء الداعين للإصلاح، وأدوات إنتاج الفساد ورعايته ، ماهو إلا ّ تزوير لواقع القائمتين. فإذا استثنينا من كل قائمة بضعة أسماء لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة، فنحن أمام حالات متطابقة في الموقع والمكسب والامتياز. ناهيك عن انعدام التخوم الكبرى في تعاملها مع الوضع السياسي، فمابين صناع اتفاقية أوسلو«أحمد قريع» ونجوم كرنفال وثيقة جنيف _ التي صاغها «يوسي بيلين وياسر عبد ربه»_ جبريل الرجوب وقدورة فارس ، والحريصون على اللقاءات الدائمة (التفاوضية والتجارية) قريع ودحلان وسفيان ابو زايدة، مابين كل هؤلاء وأولئك تتلاشى الفوارق السياسية. فالصراع الانتخابي على مقاعد التشريعي، هو إعلان صارخ عن فشل كل محاولات التهدئة والترقيع للحالة الداخلية المتفجرة وهذا يعيدنا لنؤكد على فقدان الصف الأول لدوره، فرئيس الحركة أبو اللطف والمفوض العام للتعبئة والتنظيم محمد غنيم«أبو ماهر» المقيمين في تونس، لا يملكان من قدرة التأثير الفعلي على الأزمة سوى المناشدات والبيانات والتعاميم. كما أن أبا مازن وأعضاء المركزية حوله، لا يستطيعون حسم القضايا المثارة ، فهؤلاء جميعاً يحصدون مرارة الأوضاع الداخلية المأزومة منذ سنوات، خاصة لأن الحياة الداخلية بالحركة لم تكن محكومة في أي وقت بضوابط العمل الحزبي المعروفة، لأن فتح هي تشكيل وطني عام، هلامي البنية، تتحدد العضوية فيها غالباً، بالحضور للمقرات والاجتماعات الموسمية ، والأهم، وجود اسم العضو في كشوفات الذاتية والتفرغ والمالية. إن هذا التشكيل الوطني ساهم وعمل بطاقة كفاحية عالية، قدم من خلالها آلاف الشهداء والجرحى والأسرى على مدى العقود الماضية في مواجهة الاحتلال الصهيوني، فحركة فتح التي لعبت دوراً أساسياً في المعركة الوطنية للشعب الفلسطيني، لا يجب أن يرتهن حاضرها ومستقبلها لبضعة أفراد أو «رموز»، فمكتسبات شعبنا الراهنة لم تعد ملكاً لهذا التيار أو ذاك،فآثار الخلاف الداخلي ستنتقل نتائجها إلى ساحة العمل الوطني، إذ بدأت بعض الأصوات الفتحاوية تطالب بتأجيل الانتخابات، حفاظاً على وحدة الحركة، وهذا ما سيفجر أزمة داخلية بين فتح السلطة، وقوى سياسية أخرى، خاصة وأن الساحة الفلسطينية مفتوحة على تقديم استحقاقات خطيرة «مواجهة الاعتداءات الوحشية اليومية لقوات العدو، العمل الوطني الجماعي المشترك، إنهاء التهدئة المستمرة من طرف واحد..»
هل تحمل الأيام أو الأسابيع القادمة حلولاً للأزمة ؟ الإجابات لدى كتلة فتح الأساسية، التي نأمل أن يكون بمقدورها توفير الحماية لثوابت العمل الوطني الفلسطيني.
■ كاتب فلسطيني