إنـجاز وعد بلفور وسراب وعود أوباما
مرت في الثاني من هذا الشهر، الذكرى الثانية والتسعون لوعد «بلفور». في ذلك اليوم من عام 1917 أصدر وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور تصريحاً مكتوبا وجهه باسم الحكومة البريطانية إلى اللورد ليونيل روتشيلد، يتعهد فيه بإنشاء «وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين». وبموجب هذا الوعد، الذي منحه وزير الخارجية البريطاني لليهود، أعطى من لايملك إلى من لايستحق. ومنذ ذلك التاريخ توضحت بشكل صارخ، طبيعة العلاقة بين الامبراطورية البريطانية، والحركة الصهيونية. كما بدأت مع ذلك الوعد، الخطوات المتسارعة لتتحقق من خلال الترتيبات المباشرة، الهجرة اليهودية المتعاظمة، والدعم اللوجستي الكامل للعصابات اليهودية الصهيونية. والتي مهدت لها العديد من القرارات الصادرة عن السلطة العليا لإدارة الانتداب البريطاني فوق أرض فلسطين. وإذا كانت المذابح وعمليات الطرد والتهجير، التي استهدفت أصحاب الأرض الأصليين، قد ازدات وتيرتها في ظل الدعم اللامحدود من بريطانيا للحركة الصهيونية، فإن مايعانيه الشعب العربي الفلسطيني بعد العقود التسعة المنصرمة من عمر الوعد المشؤوم، يؤكد أن الجريمة والمذبحة مازالت مستمرة، بأسماء جديدة، تعيد انتاج الوعد البريطاني، بوعد أمريكي- وعد بوش للمجرم شارون- في شهر ابريل/ نيسان عام 2004، يتماهى بنتائجه الكارثية على الشعب الفلسطيني والأمة العربية، بالوعد البريطاني، من حيث ترسيخ كيان العدو الصهيوني بالأرض العربية، بحماية امبريالية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار، الدور الذي يضطلع بها هذا الكيان/ الثكنة/ المخفر، الاحتلالي والاستعماري، كرأس حربة لسياسة الهيمنة والتوسع الامبريالية.
وعلى الرغم من السقوط المريع للحقبة «البوشية»، لكن ثلاثمائة يوم من عمر قيادة «أوباما» كانت كفيلة، بتقييم ماتحقق من «حلم التغيير»، الذي حمله الرئيس الأسود لداخل البيت الأبيض! فالرهان على المباشرة في تحقيق أجزاء من ذلك الحلم في الداخل الأمريكي قد ثبت فشله. فالأزمات المالية والاجتماعية مازالت تتفاقم، وتصطدم كل محاولات احتوائها، في بؤس الحلول المستندة إلى عقلية رأسمالية/ ريعية/ ربحية. كما أن السياسة الأمريكية في أكثر من مكان في العالم، تعاني من استعصاءات حادة، ناهيك عن الدماء الغزيرة التي تسيل من قوات الغزو والاحتلال في افغانستان والعراق، بفعل تنامي واتساع المقاومة الوطنية فيهما. على الجانب الفلسطيني، فإن السقوط الأخلاقي والقيمي قد لحق بالرؤية الأمريكية التي حملها «أوباما» لحل الأزمات في المنطقة، وخاصة الصراع العربي/ الصهيوني. فالستة آلاف كلمة التي تضمنها خطابه الشهير في جامعة القاهرة قبل بضعة أشهر، والآيات القرآنية، التي دعّم بها مواقفه عن «العدالة والسلام والحوار والتلاقي والتسامح»، لم تصمد أمام سياسة الهيمنة، والمصالح الامبريالية في منطقتنا العربية، والساحة الاقليمية المجاورة «إيران». وتأتي المناورات العسكرية المشتركة بين الجيش الأمريكي وجيش العدو الصهيوني، لمواجهة «الأخطار» المحيطة بالكيان الصهيوني، ورفع درجة الاستعداد والجاهزية لدى جيش الاحتلال، للقيام بضربات جوية متوقعة للمفاعل الإيراني، لترسم الصورة الحقيقية للمهام المستقبلية المنوطة به. إن نصب شبكات الصواريخ الأمريكية الحديثة والمتطورة فوق أرض الوطن المحتل، وعلى البوارج والسفن، داخل مياهه الاقليمية، والحديث الأمريكي من أن (الدفاع عن حيفا كالدفاع عن سان دييغو) يعكس نوعية التحالف الجديد وأهدافه.
انطلاقاً من هذه المصالح، انتقل الموقف الأمريكي خلال الأسابيع الأخيرة، من ضرورة تجميد الاستيطان والنمو الطبيعي، إلى تقليصه، ثم إلى كبحه، وأخيراً، ماصرحت به «هيلاري كلينتون» أثناء زيارتها لدولة الامارات، وكيان العدو، والمغرب. ففي مدينة مراكش، وعلى هامش انعقاد جلسات «منتدى المستقبل» أشادت رئيسة الدبلوماسية الأمريكية بـ(المبادرات الإيجابية التي قدمتها حكومة العدو في هذا الإطار. إن الإسرائيليين استجابوا لمطالب الأمريكيين والفلسطينيين والعالم العربي بوقف الأنشطة الاستيطانية، عبر إبداء استعدادهم لتقييد النشاط الاستيطاني)، لكنها حاولت الاستدراك والتخفيف من نتائج ذلك التقييد قائلة (إن هذا العرض هو أقل بكثير عما كنا نريده، ولكن إذا تم العمل على تنفيذه فسيكون تقييداً غير مسبوق على المستوطنات، وسيكون له أثر كبير وملموس على تقييد نموها). في هذه اللغة الملتبسة حيناً، والواضحة أحياناً كثيرة، تحاول الإدارة الأمريكية التخفيف من التأثيرات التي أحدثتها مواقفها قبل ساعات، في كل من أبو ظبي- أثناء لقائها بوفد سلطة رام الله، وتصريحاتها في القدس المحتلة، والتي تتركز جميعها بالتأكيد- كما تقول- على (أن تجميد الاستيطان ليس شرطاً لاستئناف المفاوضات)، معتبرة بالوقت ذاته (أن مطلب الفلسطينيين تجميد الاستيطان هو مطلب حديث العهد ولم يطرح من قبل). ويبدو ان كلينتون قد فاتها، بأن وقف الاستيطان قد ورد في نصوص جميع «الاتفاقات الفلسـطينية» مع كل حكومات العدو المتعاقبة منذ اتفاق اوسلو وحتى اليوم. لكن الذي لم يغب عن ذهنها، كان الإشادة بدور ووظيفة السلطة ورئيسها في رام الله المحتلة بسبب (الخطوات الإيجابية، خاصة تحسين الوضع الأمني في الضفة الغربية).
اللافت لنظر المراقبين، كان رد فعل السلطة على الموقف الأمريكي الجديد. ناصر القدوة استغرب الحملة على الموقف الأمريكي، لأن ذهاب الوفد الفلسطيني للمفاوضات المتكررة في ظل حقبة بوش، وحكومة أولمرت، كان في ظل تنامي بناء «المستوطنات»، متسائلاًً عن السبب المباشر لهذا «التصلب» المفاجئ! نبيل أبو ردينة أصر بحديث للصحافة بعد تصريحات كلينتون في مراكش، على أن الذهاب للمفاوضات لن يتم قبل أن تتوقف الأنشطة الاستيطانية في الضفة والقدس. لكن وزير خارجية السلطة «رياض المالكي» كان له رأي آخر بعد ان استمع لكلام كلينتون وهو يشارك بمنتدى المستقبل (لقد فوجئنا بتصريحات كلينتون في القدس)، مضيفاً (اعتقد أن هذه التصريحات قد صُحِّحت لاحقاً. لذلك نحن راضون لأن الموقف الأمريكي عاد إلى ما كان عليه). لكن الوزير «المتفائل» لم يلاحظ الفرق بين الموقف السابق للإدارة الأمريكية تجاه النشاط الاستعماري الاستيطاني، وضرورة توقفه للبدء بالمفاوضات، والموقف الجديد، الذي «لحس» الشروط المسبقة لبدء المفاوضات!
إن التطور الأخير في الموقف الأمريكي، يعكس طبيعة الحلف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وكيان العدو. ويشير إلى أن وظيفة هذا الكيان في سياسة الهيمنة الأمريكية على أقطار الوطن العربي ودول الجوار الاقليمية، يحتل الأهمية القصوى عند رسم السياسة الأمريكية الخارجية. ولهذا فإن الخلاف الفلسطيني/ العربي، ليس مع حكومة العدو الصهيوني وممارساتها فقط، بل هو في الأساس مع الإدارة الأمريكية ومصالحها. فهل يتوقع المواطن العربي خطوة عربية باتجاه تصحيح مسار الخطاب الرسمي العربي في مواجهة أعداء الأمة؟ أم ان هذه التوقعات لاتعدو أن تكون أحلام يقظة؟