الذكرى الثامنة والخمسون للنكبة الكبرى: شعب يقاوم الإبادة وأجيال تتمسك بالعودة

في الخامس عشر من أيار / مايو ، يحيي الشعب الفلسطيني يوم نكبته، بمزيد من الإصرار على التشبث بوطنه المحتل منذ عام 1948 عبر العديد من الأشكال التعبيرية الجماعية، بهدف استحضار تجربة الماضي وعِبَره، من أجل التعامل مع الحاضر والمستقبل، برؤية نقدية، تسعى لتفكيك مفردات الخطاب السياسي الذي ساد لفترة طويلة _ البعض مازال يستند إليه _ القائمة على تفسير حدوث نكبة الشعب الفلسطيني والأمة العربية عام 48، بمنطق "المؤامرة" البريطانية / اليهودية فقط! وباستبعاد مقصود لدور بعض الحكومات العربية بالمشاركة بها. خاصة وأن معظمها في تلك الفترة كان  يخضع في حركته السياسية / الدبلوماسية لتوجيهات الدولة المستَعمِرة أو المنتدبة. إضافة إلى البنى العشائرية / الإقطاعية التي تَسِمُ طبيعة العلاقات الإجتماعية / الإقتصادية، التي أفرزت تشكيلات تنظيمية، لم تستطع هزيمة الغزاة الجدد،  لكونها إنعكاس لتلك العلاقات والبنى المتخلفة، قياساً بالأشكال والأدوات التتنظيمية المتقدمة، التي اعتمد عليها المستعمرون اليهود، بسبب نشأتها وتطورها في المجتمعات الغربية الحديثة.

إن محاولة سريعة للتوقف على وضع فلسطين أثناء خضوعها لسلطة الانتداب البريطاني، تصبح ضرورية من أجل تسليط الضوء على تواطؤ الحكومة البريطانية من خلال سياسة حكومة الانتداب، التي سهلت قدوم المستعمرين الصهاينة، وأمدت تشكيلاتهم المسلحة بكل أشكال الدعم، وساعدت على إصدار القوانين التي تتيح للغزاة اليهود حرية التحرك والتملك، لتتوصل أخيراً لإصدار وعد بلفور المشؤوم، الذي كان التتويج الفعلي للإرتباط الوثيق بين مصالح بريطانيا والحركة الصهيونية في المنطقة من أجل إقامة كيان يهودي / استعماري قائم على طرد أصحاب الأرض التاريخيين، استناداً إلى "النظرية" الصهيونية الكاذبة _ أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض_ ليكون المخفر الأمامي لحماية المصالح الاستعمارية البريطانية في آسيا وأفريقيا. كما يحقق للحركة الصهيونية، المتخفية تحت ذرائع توراتية "مصطنعة"، بناء دولتها في _أرض الميعـاد _ التي تروج لها الأساطير الغيبية المتداولة.

أحيا الشعب العربي الفلسطيني ذكرى نكبته بتوحد كامل حول الشعار / الهدف (لاعودة عن حق العودة). ففي الأراضي المحتلة عام 1948 انطلق عشرات الآلاف من النساء والرجال في الجليل والمثلث والنقب، وفي المدن الكبرى، في مسيرات وفعاليات جماهيرية، تركزت جميعها على تنشيط الذاكرة الجمعية للمواطنين العرب، من خلال ارتباطها بالمكان ودلالالته، خاصة للأجيال الشابة، عبر الإرتباط بالأرض التي كان أهلهم في عام النكبة يمتلكون 97 بالمائة منها،  ولايمتلك اليهود سوى الثلاثة المتبقية. لكن اليوم الأسود الذي أعلن فيه قيام كيان العدو على 78 بالمائة من مساحة فلسطين التاريخية،  لم يكن سوى التاريخ المأساوي الذي بدأ فيه الفلسطينيون رحلة عذاب مستمرة منذ ستة عقود تقريباً. جاء التحرك الشعبي في ذكرى النكبة ليؤكد أن أصحاب الأرض الحقيقيين مازالوا قادرين على التشبث بها رغم كل العسف والإضطهاد . فقد حققت زيارات البلدات والمناطق المهجرة  داخل أراضي 48 غايتها في تأكيد العلاقة التاريخية بين الأرض والإنسان، فبالرغم من عمليات التدميرالشامل، والاقتلاع النهائي لأكثر من أربعمائة وعشرين قرية وبلدة، مضافاً لذلك التغيير الكبير لمعالم المدن الفلسطينية الأخرى مثل حيفا، صفد، عكا وغيرها، المترافق مع طرد وتهجير حوالي تسعمائة ألف فلسطيني ـ أكثر من خمسين مجزرة جماعية استهدفت السكان العرب ـ يمثلون حينها، حوالي خمسة وخمسين بالمائة من مجموع الشعب. فقد استمر السكان العرب في مواجهة خطط التهميش والحصار والإقصاء .

جاءت تحركات يوم النكبة في الأراضي المحتلة عام 1948 لتضيف إلى سفر النضال الوطني صفحات مجيدة، فشهداء يوم الأرض الخالد، وانتفاضة سكان الجليل والنقب، المترافقة مع شرارة انتفاضة الأقصى، أرسوا مداميك العمل السياسي / الكفاحي لعرب الداخل، وأسسوا لعمل وطني مستمر. مسيرة العودة إلى بلدة "أم الزينات" على جبل الكرمل المدمرة والمهجرة ـ تتوالى منذ تسع سنوات في ذكرى النكبة ـ افتتحت التحركات والفعاليات بهذه الذكرى. في مسيرة "يوم العودة الأول" التي استمرت يومي 12 و13 أيار، شاركت أكثر من أربعة آلاف سيدة وفتاة إلى القرى والبلدات المهجرة، لتتوج تحركها بمهرجان حاشد في موقع بلدة "لوبية" المدمرة، قرب مفرق "مسكنة" شمال فلسطين المحتلة عام 1948، أكد فيه المشاركون على حق عودة اللاجئين إلى بلداتهم وممتلكاتهم. كما تحركت عشرات الباصات إلى مدينة "اللد" وعند مسجدها الأبيض "جامع دهمش" الذي شهدت ساحته المذبحة التي سقط فيها مائة وست وسبعون شهيداً حاولوا الاحتماء بالمسجد. كان اللقاء الوطني الكبير الذي أكد فيه المجتمعون على مواجهة مشاريع التهويد، والنضال من أجل عودة اللاجئين ، تعبيراً جديداً عن الإرتباط بالقضايا الوطنية والقومية . كما شهدت بلدة "البص" قضاء مدينة "عكا" و "الناصرة" مهرجانات وفعاليات متنوعة، تمحورت جميعها حول النكبة ونتائجها الكارثية  . لقد راهن قادة الفكر الصهيوني الإستعماري على مقولة "كبارهم سيموتون وصغارهم سينسون". لكن الوجوه الشابة التي قادت_ ومازالت _ التحركات الواسعة بكل المناسبات الوطنية  تؤكد سقوط تلك المقولة. وقد جاءت هذه الفعاليات مترافقة مع تحركات واسعة شهدتها عدة مدن وبلدات ومخيمات في الضفة الفلسطينية وغزة ، كان أبرزها "المؤتمر الفكري والسياسي للدفاع عن حق العودة" الذي انعقد في مدينة غزة. كما شهدت العديد من المخيمات الفلسطينية في الأقطار العربية نشاطات جماهيرية متنوعة، بالإضافة للإجتماعات والندوات التي انعقدت في أكثر من مدينة أوروبية .

إن الحراك السياسي / الجماهيري الذي واكب ذكرى النكبة هذا العام، توحدت رؤيته وأهدافه حول القضية المركزية في النضال الفلسطيني الراهن، وهي عودة اللاجئين إلى مدنهم وبلداتهم وأراضيهم التي طردوا منها، ولهذا تحول شعار "لاعـودة عن حق العـودة" إلى برنامج عمل لكل الهيئات واللجان والقوى السياسية الفلسطينية. إن إحياء ذكرى النكبة الكبرى لدى الشعب الفلسطيني، تأتي هذه السنة، كما في سنوات سابقة لتؤكد على أن هذا الشعب مازال يعيش نكباته الدائمة. فالفلسطينيون في العراق، يتعرضون إلى نكبة متجددة على يد عصابات الغدر المجرمة، دفعتهم مجدداً إلى التهجير والخيام، كما أن العقبات التي تعترض حرية التنقل والحصول على العمل اللائق في أكثر من مكان ـ في بعض الأقطار العربية ـ هي نوع آخر من نكبات الفلسطينيين. أما فلسطينيو الداخل الذين تشبثوا بأرضهم، فإنهم يقدمون في كل يوم بعذاباتهم ودمائهم  ضريبة البقاء في مواجهة المشروع الصهيوني / التهويدي. فمنذ اللحظات الأولى للنكبة، وفي مواجهة خطط "الحكم العسكري" الذي فرضته عليهم "الحكومات الديمقراطية!!" على مدى عقدين من الزمن، حيث تمت مصادرة ممتلكات أهلهم المهجرين في ظل قانون "أملاك الغائبين"، بالإضافة للجوء قادة الكيان الإستيطاني لسياسة عنصرية بغيضة أدت لحرمان العرب من الخدمات الإنسانية الأساسية. وفي هذا السياق  جاء القرار الذي صادقت عليه المحكمة العليا قبل أسبوعين، والقاضي بمنع لم شمل العائلات ليضيف عقبة جديدة في طريق التواصل الإنساني/ الإجتماعي بين أفراد الشعب الواحد.

في الخامس عشر من أيار هذا العام، والفلسطينيون يعيشون يوم نكبتهم، أصرت حكومة العدو على أن تجعل كل أيام هذا الشعب نكبات! فقد سقط في هذا اليوم ستة شهداء برصاص قوات الاحتلال، في مذبحة متجددة كل ساعة. فالبشر والحجر والهواء والماء كلها أهداف للتدمير. كما أن شعبنا يخضع  منذ عدة أسابيع،  لحصار لاإنساني، تمارسه حكومات "ديمقراطية " تتغنى كل صباح بأهمية "حرية الفكر والاختيار"، ولأن الاختيار لم يتواءم مع "ديمقراطيتهم ونهجهم" تتم عمليات عقاب الفلسطينيين على اختيارهم لنوابهم في البرلمان، ولهذا فإن شعباً بكامله يعيش داخل سجن كبير، محروم من الدواء والغذاء، إنه الشكل الآخر لنكبة الفلسطيني. وعلى الرغم من المقدرة الهائلة لهذا الشعب على مواجهة نتائج نكبته الكبرى، والإنتصار عليها وهزيمتها في أكثر من موقع (عرب الداخل نموذجاً)، فإن خوفاً حقيقياً ومشروعاً، يلف الوجود الشعبي كله، فحالة الاحتقان التي تخيم على قطبي الأزمة الداخلية "تنظيمياً و مؤسساتياً" أدت إلى سيل الدماء الفلسطينية التي لم تعد "خطاً أحمراً". إن عمليات تجييش " الغرائز" وتضخيم دور " الذات " لدى كل طرف ستعمل على انطلاق شرارة التفجير، التي ستدمر كل المنجزات الوطنية للنضال التحرري للشعب الفلسطيني. ولهذا فالشعب الذي يطلب من قيادته، أو بشكل أدق "قيادتيه!" أن تؤمن له الغذاء والدواء ومقومات صموده الأخرى، مدعو عبر نشطائه ومناضليه ولجانه الأهلية لأن يصون وحدة المجتمع من خلال تشكيل مجالس شعبية تمارس ضغطها على فريقي الصراع، للوصول إلى حماية الأمن الإجتماعي للشعب، بعيداً عن المكاسب الذاتية التي  يسعى لتحقيقها هذا الفصيل أو ذاك. إن الشعب الفلسطيني يعرف أن أعداءه هم من صنع نكبته الكبرى وملحقاتها، وهو بكل تأكيد يرفض وسيقاوم أن تأتي نكبته الجديدة، المفجعة على يد بعض أبنائه.

إن تحركاً شعبياً واسعاً، يعمل على سحب فتيل الأزمة، من أجل الوصول إلى حلول وطنية توافقية، تستهدف مواجهة الإحتلال وخططه، وتؤمن للمواطنين الخبز والكرامة والأمن، أصبح ضرورة وطنية عاجلة.