من المستفيد من تسوية علاقات سورية مع تركيا ومع الدول العربية؟
يتفق للمرة الألف، وربما أكثر، إعلام المتشددين السوريين على طرفي المتراس في تقييم معنى ما يجري من اتجاهٍ لتسوية علاقات سورية مع كل من تركيا والدول العربية.
الجزء المشترك من السردية التي يقولها الطرفان: هي أنّ هذا الأمر إذا ما تم فهو انتصار للنظام السوري، والجزء الثاني يأتي على شكلين: هو هزيمة للمعارضة (هكذا تقول الأطراف المتشددة في النظام)، وهو هزيمة للشعب السوري (هكذا تقول الأطراف المتشددة في المعارضة).
والحق، أنّ نقاش هذه المسألة يحتاج إلى مستويين؛ الأول: هو محاولة تقييم معنى ما يجري موضوعياً، ومن وجهة نظر التحولات الدولية والعلاقات الدولية، وليس فقط من وجهة نظر الأطراف السورية ومصالحها ورغباتها. والثاني: هو محاولة فهم معنى الخطاب الذي تقدمه الأطراف السورية المتشددة كتفسيرٍ لما يجري.
موضوعياً...
ينبغي التذكر دائماً، أنّ سياسة عزل سورية دبلوماسياً، وحصارها اقتصادياً، كانت منذ البداية سياسة غربية، وأمريكية بريطانية خصوصاً. وقد حدثت بالفعل تحت تأثير الضغط المباشر الأمريكي.
دخول الجامعة العربية على خط الأزمة في البدايات، كان خطوةً أولى على طريق تدويل الأزمة. ومنذ تلك اللحظة، لو كانت الإرادة السياسية في سورية موجودة وناضجة لقطع طريق الخراب والتدويل لكان ذلك ممكناً، لكن المتشددين من الطرفين أبوا إلا أن يغرقوا البلاد بالدماء والخراب.
دفْعُ الأمريكان لتجميد عضوية سورية في الجامعة العربية، كان الخطوة الثانية على طريق تدويل الأزمة. الغرض الغربي في حينه، وحتى الآن، لم يكن حلّ الأزمة، بل على العكس تماماً؛ تعقيدها والإمساك بخيوطها بغرض إدارتها والاستفادة منها في الصراع مع الخصوم الدوليين، وفي دوزنة الصراعات الإقليمية لتصب جميعها في الصالح الأمريكي.
إذا وسّعنا دائرة البيكار قليلاً، فمن الممكن رؤية الرسمة نفسها على المستوى الإقليمي؛ أي دفعٌ مستمر لكل الدول الأساسية للاصطدام ببعضها البعض، وبما يخدم مصالح المركز الغربي. فلننظر في جملة الصراعات بين السعودية وإيران وتركيا ومصر... ألم تصبُّ هذه الصراعات طوال عقودٍ في الخزائن الأمريكية؟
وتالياً، فإنّ تسوية العلاقات مع سورية في هذا التوقيت، تعني على الأقل شيئين أساسيين:
أولاً: هي جزء من جو عامٍ في كل المنطقة يميل نحو تسوية الصراعات البينية، ونحو الاستقرار بمساعدة كل من روسيا والصين وبالضد من الإرادة والمصلحة الأمريكية-الصهيونية.
ثانياً: تسوية العلاقات مع سورية، وخاصة بالدفع الذي تقوم به أستانا، وبالتعاون الواضح بين روسيا والدول العربية وخاصة السعودية، يصب في العودة عن طريق التخريب الذي دخلته البلاد عبر التدويل. ويصب تالياً في مصلحة سورية والشعب السوري عبر فتح باب الاستقرار.
ثالثاً: إنّ استمرار كلٍ من النظام والمعارضة على حالهما القائم غير ممكن، إلا ضمن وصفة واحدةٍ، هي وصفة استمرار الأزمة. بداية حل الأزمة يعني بداية التغيير الجذري في كل من النظام والمعارضة؛ لأنّ كلاً منهما فقد مع الوقت كل وظائفه الطبيعية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبقيت له وظيفة واحدة يحافظ عليها، هي وظيفة الصراع مع ضده باسم الدفاع عن مصلحة البلاد... وعدا ذلك، فإنّ المناطق التي تسيطر عليها الأطراف السورية جميعها تنتقل كل يومٍ من سيئٍ إلى أسوأ، ودون أي أمل في أي تحسن ودون أية نية أو إرادة في أي تحسين، أو على الأقل دون وجود نية في إيقاف التدهور.
ولذا، وبعيداً عن أي آراء تعلنها الأطراف المتشددة، فإنها في العمق تقف ضد عودة سورية للجامعة العربية، وضد تسوية العلاقات مع الدول العربية وضد تسوية سورية- تركية، لأنها تعلم جيداً أنّ هذا الطريق يقود إلى مصيرٍ واحد: إلى تنحية «المعركة التي لا صوت يعلو فوق صوتها»، ووضع معركة التنمية والاستقرار السياسي والاجتماعي على طاولة التنفيذ... ما يعني تطبيق الحل السياسي عبر 2254 وصولاً لبدء عملية تغيير جذري شاملٍ تدريجية، يغربل خلالها الشعب السوري النخب الموجودة، فيبقي منها من يبقي ويلقي من يلقي، ويضيف إليها من نخبه التي لم تظهر إلى الساحة بعد.
النصر والهزيمة
في المستوى الثاني، مستوى محاولة تفسير طريقة تعامل المتشددين في كل من النظام والمعارضة مع عمليات التقارب الجارية مع سورية، فإنّ المحدد الأساسي هو ما انتهينا إليه في المستوى الأول؛ أي يقين هذه الأطراف، أو على الأقل القسم منها الذي يتمتع بقدر من البصيرة، بأنّ هذه التسويات تجري بالضد من الأمريكان، وتصب في الاستقرار عبر تغييرٍ، حتى ولو كان تدريجياً، ولكنه جذري وليس تقاسم أمراء حرب على طريقة اتفاق الطائف وما شابهه من اتفاقات رعتها السطوة الأمريكية.
يسترعي الانتباه حقاً، إضافة لما سبق، حجم الاحتفال وحجم النواح الذي يصاحب عمليات التقارب مع سورية؛ فعلى إحدى الضفتين يبدو الأمر وكأنما هو اعترافٌ بانتصار طرفٍ على طرف ضمن معركة داخلية من قبل الخارج! ويحتفى به بهذا المعنى بالذات، وكأنّ شرعية النصر أو الخسارة تأتي من اعتراف الخارج.
على الطرف المقابل، فإنّ المنطق هو هو؛ أي هو نواحٌ يعبر عن قناعة النائحين بأنّ «عدالة قضيتهم» إنْ كانوا حملة قضية حقاً، تتحدد بمدى اعتراف الخارج بتلك القضية وبمدى عدالتها.
المنطق الواحد على ضفتي التشدد يتقاطع في أنه ينظر للخارج باعتباره الأساس، وأما الشعب السوري فليس لرأيه أيّ اعتبار... وتقام الأفراح والأتراح على الجانبين والشعب السوري في وادٍ عميقٍ من التأزم والفقر والجوع والمرض، وعمليات نهبه لا تكف تشتد، وتدهور جهاز دولته وفقده لوظائفه الاجتماعية، لا يكف عن التعمق.
الشعب السوري هو المستفيد
بعيداً عن أفراح وأتراح المتشددين على الطرفين، فإنّ المستفيد الحقيقي من عمليات التقارب الجارية إقليمياً هو الشعب السوري في نهاية المطاف. الفوائد لن تظهر مباشرة لأنّ العملية لم تكتمل بعد، ولكنها ماضية بسرعة معقولة، وستصل إلى محطتها النهائية بفتح باب التغيير السياسي عبر تطبيق 2254 برعاية أستانا وبالتعاون مع الدول العربية الأساسية ممثلة بالسعودية بشكل أساسي، وبدعم من الصين.
وإلى حين الوصول إلى تلك العتبة، سيواصل المتشددون في كل من النظام والمعارضة، وبكل الوسائل، عملهم على عرقلة وتعطيل وتأخير عمليات التقارب الجارية سواء بين سورية وتركيا، أو بين سورية والدول العربية، وخاصة السعودية، لأنّ كلاً من التقارب بين سورية وتركيا وبين سورية والسعودية يصب في مصب الحل السياسي، الذي لا يريده المتشددون لا في النظام ولا في المعارضة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1119