لماذا يحرص المعاقِبون على  مصلحة «المعاقَبين» إلى هذا الحد؟

لماذا يحرص المعاقِبون على مصلحة «المعاقَبين» إلى هذا الحد؟

يكاد يستحيل الحديث عن مسألة العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على سورية دون الانطلاق من مغالطة أساسية غالباً ما يجري العمل على حشرنا بها، وهي الثنائية المغلوطة التي تقول: إن كنتَ معارضاً للنظام بحق فعليك أن تؤيد العقوبات المفروضة «عليه»، أما إن جاهرت بموقفك الرافض لها، فهذا يعني أنك مؤيدٌ له. وبهذا الشكل، مطلوب منك أن تتعامى عن كل الأهداف بعيدة المدى التي يتوخاها المعاقِبون، وعن الأرباح الخيالية التي يجنيها «المعاقَبون» بالاستفادة من العقوبات ذاتها.

جاءت العقوبات الأمريكية الجديدة التي تمّ فرضها في العاشر من الشهر الجاري- وهي العقوبات الثانية خلال ولاية الرئيس الحالي، جو بايدن- لتعيد التأكيد على أن العقوبات هي سياسة الدولة الأمريكية، أي سياسة النخبة الحاكمة فعلياً في الولايات المتحدة، بغض النظر عن هوية الرئيس الموجود في البيت الأبيض، فالعقوبات- كما تبرهن التجربة- وهي واحدة من الأدوات التي تستخدمها النخبة لأهدافٍ استراتيجية بعيدة لا تقتصر على حدود المنفعة المباشرة المؤقتة.

هل غيّرت العقوبات نظاماً أو غيّرت سلوكه؟

تدرجت الأهداف المعلنة من عملية فرض العقوبات الغربية على سورية من «تغيير النظام»، كما كان يصرّح العديد من المسؤولين الغربيين قبل بضعة أعوام، وصولاً إلى «تغيير سلوكه» كما يجري التذرع خلال السنوات الأخيرة. وعلى طول الخط، كان ولا يزال هنالك من بين القوى السياسية في سورية من اقتنع بصدق هذين الهدفين وروّج لهما، متجاهلاً الوقوف أمام سؤالٍ بديهي: هل غيّرت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا نظاماً ما؟ أو هل استطاعت تغيير سلوكه فحسب؟
إلقاء نظرة على الدول التي جرى استهدافها بالعقوبات سابقاً كفيل لوحده بتقديم الإجابة: من كوبا إلى العراق وفنزويلا وروسيا وإيران وكوريا الشمالية... إلخ، لم تنجح أيّ من العقوبات التي جرى فرضها على مدار سنوات عديدة في تغيير أي نظام أو تغيير سلوكه، ومن دفع ثمن ذلك بالدرجة الأولى هم شعوب هذه الدول التي حاصرتها العقوبات بطرقٍ شتى وبنسبٍ متفاوتة. وهذا العامل كافٍ لوحده كي يتخذ المرء موقفاً رافضاً للعقوبات.

متى ترفع العقوبات؟

الإجابة الأمثل على هذا السؤال تحيل القارئ للاطلاع على التجربة العراقية، حيث أن العقوبات الغربية المفروضة على العراق منذ حرب الخليج لا تزال سارية حتى الآن، وذلك رغم ما قيل إنه «سقوط نظام صدام حسين» عام 2003، أي مع احتلال العراق، وإسقاط جهاز الدولة العراقي، واستلام حلفاء الولايات المتحدة الحكم في البلاد، ثم تغيُّر الحكم شكلياً لأكثر من مرة على مدار السنوات الـ 18 الماضية، ولا تزال العقوبات نفسها سارية المفعول!
ومثل العراق هذا ينطبق على الحالات الأخرى، حيث فُرضت العقوبات تبعاً لذرائع محددة جرى تجاوزها على مدار السنوات، ورغم ذلك بقيت العقوبات قائمة ولم تُرفع، وللتأكد من ذلك يمكن العودة إلى موقع الخزانة الأمريكية للاطلاع على العقوبات التي لا تزال سارية المفعول.
بهذا المعنى، يبرز السؤال استناداً إلى التجارب أمام أعيننا: من يضمن رفع العقوبات في حال تغيير النظام في سورية؟ ببساطة لا أحد، وبالتالي، فهذا العامل كافٍ أيضاً لوحده حتى بالنسبة لأولئك الصادقين في رغبتهم بتغيير النظام في سورية كي يكونوا ضد العقوبات التي لا يستطيع أحد أن يحدد متى تُرفع.

هل للعقوبات أساس قانوني؟

حسب الباحثة ريبيكا باربر، تشمل عقوبات قيصر المفروضة على سورية جميع المداولات التي تتم مع الحكومة السورية وقطاعات اقتصادية سورية محددة في أية بقعة من العالم، حتى وإن لم تكن هذه المداولات مرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذه العقوبات التي تمتد على المداولات التي لا علاقة لها بالدولة المُطبقة لها، أو لها علاقة محدودة معها، تُعرف باسم «العقوبات الثانوية» أو «العقوبات خارج الحدود الإقليمية»، والقانون الدولي يحدّ من إمكانية الدول ممارسة سلطتها القضائية على غيرها؛ فكقاعدة عامة، بإمكان الدولة أن تمارس سلطتها القضائية على الأفراد والكيانات داخل حدودها، وعلى مواطنيها أينما كانوا، وهنالك بضعة شروط أخرى محددة لكيفية ممارسة الدولة لسلطتها القضائية. على سبيل المثال: بإمكان دولة ما أن تمارس سلطتها القضائية خارج حدودها فيما يتعلق بسلوك له تأثير مباشر على أراضيها، أو مواطنيها، ويجادل البعض بأن الدولة بإمكانها أن تمارس سلطتها على الكيانات التابعة لمواطنيها، لكن هذه القواعد بشكل عام لا تسمح بفرض «عقوبات ثانوية».
رغم ذلك، تمتلك الولايات المتحدة تاريخاً طويلاً في تطبيق «العقوبات الثانوية»، وتباينت المبررات القانونية المقدمة لتطبيقها تبعاً لطبيعة التدابير المتخذة. في بعض الحالات، أكدت الولايات المتحدة بأن الكيانات المشمولة بالعقوبات تخضع لسيطرة مواطني الولايات المتحدة، وفي مناسبات أخرى اعتمدت حججاً تتعلق بالولاية القضائية العالمية، التي تنص على أن بعض الجرائم شنيعة للغاية بحيث يمكن معاقبة مرتكبيها من أية دولة أينما وجدوا. لكن معظم الخبراء لا يقبلون بهذه الحجج باعتبارها أساساً قانونياً لتقوم الولايات المتحدة بسنّ قانون داخلي لينظم النشاط الاقتصادي للأجانب في دول أخرى. (راجع ترجمة مقال باربر المنشور على موقع قاسيون، بعنوان: عقوبات «قيصر» من وجهة نظر القانون الدولي).

1031-6

آليات التضليل عبر العقوبات

من حيث المبدأ، تفرض العقوبات عموماً على أ- الأشخاص، ب- الكيانات (مؤسسات، مجموعات... إلخ)، ج- الإجراءات (حظر أو قيود على الاستيراد أو التصدير أو كلاهما... إلخ). والبحث في الأنواع الثلاثة للعقوبات تكشف عن العديد من آليات التضليل التي يمارسها فارضو العقوبات بهدف التغطية على الأهداف الحقيقية من العملية.
«العقوبات على الأشخاص»، ومن اسمها فقط، تعطي انطباعاً كاذباً بأن المستهدف من هذه العملية هم مجرد أفراد وليس عموم الشعب، ويتوجه التركيز الإعلامي على هذا النوع من العقوبات للتغطية على الآثار الكارثية المترتبة على الأنواع الأخرى منها.
وإذا نظرنا عن كثب إلى طبيعة «العقوبات على الأشخاص» سيتضح مقدار حجمها، فهذا النوع من العقوبات يشمل إجراءات مثل: (تجميد أرصدة هؤلاء الأفراد الموجودة في دول معينة، ومنعهم من زيارة هذه الدول، وملاحقة عملياتهم المالية والتجارية ومحاصرتها). والسؤال المنطقي هنا هو: هل يؤثر هذا النوع من الإجراء على الشخصيات التي يتم استهدافها بالعقوبات؟ من يريد تجميد أرصدة هؤلاء الأفراد يعرف جيداً أن الأموال الموضوعة بأسمائهم الصريحة لا تتعدى الفتات و«مصروف الجيب» أي، بضعة ملايين يستخدمونها من أجل عمليات الإنفاق المباشر، لكن ملياراتهم وثرواتهم الفعلية يجري التستر عليها بطرق احتيالية بعضها معروف، كالأقنعة المتتالية والأوفشور والملاذات الآمنة، وبعضها غير معروف حتى اليوم. ما يعني أن الضرر الواقع على هؤلاء الأفراد نتيجة العقوبات هو ضرر حتى لا يكاد يكون جديراً بالذكر. أما منعهم من زيارة دول بعينها فلدى هؤلاء من الأماكن والوجهات حول العالم ما يعوض عليهم «خسارتهم» السياحية هذه وأكثر! وأخيراً، كما أسلفنا، فإن ملاحقة عملياتهم المالية والتجارية بهدف محاصرتها لن يثمر عن أية نتيجة لأن الجانب الأساسي والأكبر من هذه العمليات لا يتم باسمهم بطبيعة الأحوال وإنما عبر أقنعة عدّة.
لهذا، يتضح أن العقوبات على الأشخاص ليست هي الأساسية في أجندة الدول التي تفرضها، بل العقوبات على الكيانات وعلى العمليات، وهي العقوبات التي تعني الحصار فعلياً لا للنظام والفاسدين الكبار فيه الذين يجنون المليارات في مقابل خسائر شحيحة جداً، إن لم تكن أرباحاً كما سنبين لاحقاً، بل للشعب السوري الذي يجد نفسه محاصراً في شتى مجالات معيشته.

العقوبات والغذاء وتحويلات المغتربين

شكلياً، لا تمنع العقوبات المفروضة على سورية استيراد الأغذية، وتسمح بتحرير جزء من الأموال السورية المجمّدة في الخارج من أجل استيراد الغذاء، لكن عملية الاستيراد هذه مشروطة بـ «تأكد» فارضي العقوبات من أن وجهتها هي الغذاء. ولذلك، تشترط هذه الدول أن تجري هذه الصفقات «تحت عينها»، ما يعني أن لها سلطة فعلية في تحديد مصدر الشراء والسعر، وتحصل نتيجة موقعها هذا على العمولة التي تريدها. وواحدة من نتائج هذه العمولة المتفق عليها بين «المعاقِبين» و«المعاقَبين» أن سورية باتت تستورد مواداً عدّة بأضعاف السعر العالمي. (راجع مواد قاسيون: البنزين المستورد لسورية 3 أضعاف العالمي، والعقوبات والسلبطة... مثال من القمح).
وواحدة من مزاريب الذهب التي تصب في مصلحة الفساد الكبير في سورية هي: أن الإجراءات العقابية التي تم فرضها على البلاد من خلال الرقابة المشدّدة على التحويلات المالية سمحت لهؤلاء بأن يمرروا حوالات المغتربين من خلال قنوات محددة تفرض سعراً أقل للدولار من سعره الحقيقي الذي تُسعر على أساسه جميع السلع فعلياً في السوق السورية، بحيث يذهب هذا الفارق في السعر ليزيد من أرباح الفاسدين الكبار أنفسهم.
يضاف إلى ذلك، أنّ العقوبات ذاتها تسمح للفاسدين الكبار أنفسهم، ونتيجة تقليص قنوات التعامل مع الخارج إلى الحدود الدنيا، إلى تكريس حالات من الاحتكار الرهيبة بحيث بات في البلد عدد من المستوردين على أصابع اليدين أو اليد الواحدة، هم المتحكمون فعلياُ بكل ما يدخل إلى السوق...

العقوبات وضمان طواعية المنظمات الإنسانية

إذا أخذنا قانون قيصر مثالاً في حالة العقوبات، فإنه يتعامل مع المنظمات الإنسانية العاملة في سورية وفق منطق أنها مدانة حتى تثبت براءتها (وذلك على العكس من كل الفقه القانوني حول العالم). ما يعني: أنّ على المنظمات الإنسانية أن تأخذ الموافقة المسبقة من الأمريكي على نشاطها قبل القيام به. الغرض الفعلي من هذه العملية هو أن المنظمة كي تعمل في سورية عليها أن تكون حائزة فعلياً على رضا الولايات المتحدة تحديداً، وتعمل ضمن الغايات السياسية لها.
وجانب من هذه المسألة يثير سخط حتى حلفاء واشنطن الأوروبيين، الذي يسربون في الأقنية الدبلوماسية أنهم يرفضون هذا السلوك الأمريكي الهادف إلى إدارة وفلترة عمل هذه المنظمات بما يضمن المصالح الأمريكية بشكلٍ خاص، بحيث تتعرض أية منظمة لا تتوافق والمصلحة الأمريكية إلى العقوبات حتى لو كانت منظمة أوروبية.

1031-36

ما هي الأهداف الفعلية من العقوبات؟

عملياً، وكما ذكرنا سابقاً، تتغيّر الأهداف الفعلية من العقوبات الغربية المفروضة على سورية حسب المرحلة. ولفترة طويلة في البلاد، كان الهدف الأساس من العقوبات (تشديدها في مكان وتخفيفها في آخر حسب المنطقة) هو تكريس تقسيم الأمر الواقع عبر مسألة أساسية، هي خلق بيئات اقتصادية مختلفة عن بعضها البعض، ودفع كل منطقة في سورية للتشبيك مع جوارها بشكل مستقل عن بقية البلاد (مثلاً: الشمال الشرقي مع شمال العراق، والشمال الغربي مع تركيا...) بما يجعل هذه الاقتصادات معزولة عن الطبيعة الاقتصادية لسورية. وظل هذا العزل قائماً ويجري ترسيخه على الأرض بالأدوات الأمنية العسكرية، وكذلك نتيجة العقوبات التي ساهمت في تكريس هذه العزلة التي ظلت قائمة إلى ما قبل قرار مجلس الأمن الدولي 2585 حول المعابر بوصفه أول قرار يضع الدول المتدخلة في سورية جميعها، والمجتمع الدولي ككل، أمام مسؤولية تمرير المساعدات عبر ما سمّاه «خطوط النزاع»، أي، الخطوط التي تفصل بين مناطق السيطرة المختلفة ضمن الأراضي السورية نفسها (راجع افتتاحية قاسيون: لماذا انزعج البعض من 2585؟)
وجانب أساسي من الأهداف التي ترجوها الدول المُعاقِبة من عملية فرض العقوبات، هو: أن هذه الأخيرة تساهم في تعقيد وتصعيب الطريق على الدول التي تريد أن تساعد سورية في مجالات شتى، بما فيها المحروقات على سبيل المثال، ما يؤثر بدوره على الجهود التي تبذلها هذه الدول من أجل التعافي المبكر للبلاد.
فوق ذلك، تغيّر العقوبات الطبيعة الاقتصادية للبلد المستهدف الذي يتمتع بالحالات الطبيعة بأنشطة اقتصادية متنوعة (صناعة، تجارة، عقارات، استيراد، تصدير... إلخ)، وهو البلد ذاته الذي يتحوّل فيه الاقتصاد على المدى الطويل بفعل العقوبات التي يتعرض لها؛ فتجار الحرب الذين غنموا المليارات من نهب الإنتاج الوطني، يذهبون بفعل تلاشي هذا الإنتاج إلى حدود كارثية نحو إنتاج آخر أسود، مثل: الكبتاغون والدعارة والأنشطة الأخرى الإجرامية، وبالتالي، فإن عملية تحويل أفغانستان إلى المصدر الأول للأفيون في العالم عبر التدخل المباشر، جرى تكرار ما يشبهها في سورية بشكلٍ غير مباشر، وبالاستفادة من العقوبات.
يدرك جيداً من يفرض هذه العقوبات أن الأمور ستتجه نحو هذا النوع من الإنتاج في ظل بنية سياسية كالموجودة في البلاد، وهذا ما يؤكد أن الأضرار الناجمة عن العقوبات المفروضة غربياً ليست «أضراراً جانبية» كما يسميها البعض، بل أضراراً مقصودة ومستهدفة. ما يسمح بالقول: إنه قد يكون أحد الأهداف بعيدة المدى من العقوبات هو تحويل طبيعة الاقتصاد السوري إلى اقتصاد إجرامي، بكل ما يعنيه ذلك من تحول البلاد لتصبح دولة فاشلة منتجة للفوضى، وهو ما يناسب مصالح القوى المعادية للبلاد وعلى رأسها كيان الاحتلال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1031
آخر تعديل على الإثنين, 16 آب/أغسطس 2021 23:41