التقسيم أهون على أمراء الحرب من تنفيذ 2254
على مدى السنوات القليلة الماضية، رأينا العديد من الأمثلة على سياسات فاعلين دوليين مختلفين، تسعى إما إلى التقسيم الفعلي لسورية، أو على الأقل تكريسه كأمر واقع طويل الأمد.
في بعض الأحيان، كان «التقسيم» يبدو كنتيجة مرغوب بها بشكل خفي، وبحيث تبدو «أثراً جانبياً لا يمكن تجنبه». في أحيان أخرى، كان الدفع باتجاهه واضحاً بشكل صارخ.
المثال الأقرب على النوع الثاني (الأشد وقاحة)، هو مشروع القانون الذي جرى تقديمه مؤخراً في الكونغرس الأمريكي تحت اسم «أوقفوا القتل في سورية»، والذي اقترح تقسيم سورية من الباب الاقتصادي، بين جزأين على الأقل: «سورية الحرة» و«سورية النظام».
ترافقت هذه الجهود المحمومة من قبل فاعلين دوليين، وخاصة الغرب والولايات المتحدة في العلن، والصهاينة في السر، بموافقة ورضا متشددين من الأطراف السورية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وسواء جاء ذلك ضمن تصورات «تكتيكية» حمقاء، أو ضمن رؤى «إستراتيجية» أكثر حماقة.
في بعض الأحيان، جاءت الموافقة على النهج التقسيمي شبه علنية، من خلال دعم إجراءات الولايات المتحدة والإشادة بها، وخاصة العقوبات والمطالبة بتشديدها في مناطق ورفعها عن مناطق، بل وأكثر من ذلك النفخ في مقولة أن الحل السياسي ليس ممكناً أو أنه بعيد جداً، بعيد ولن يأتي قبل سنوات طويلة، ولذا «ينبغي التعامل مع الأمر الواقع التقسيمي بوصفه أمراً واقعاً طويل الأمد».
في أحيان أخرى، جاءت الموافقة ضمنية عبر تجاهل الحل السياسي، وتجاهل القرار 2254، المترافق مع تصعيد الخطاب السياسي الحربجي والتخويني، الذي يوزع الاتهامات على الجميع بين من هم إرهابيون ومن هم «بعيدون عن الخط الوطني»، الذي يحتكره أصحاب هذا الخطاب مكررين بذلك شعاراتهم حول الحسم ورفض الحوار، ولكن بعبارات أخرى...
«المساهمة السورية» في الدفع نحو التقسيم، لا تقتصر على الموافقة على سياسات الآخرين التي تغذي التقسيم، بل تذهب أبعد من ذلك إلى اتخاذ خطوات فعالة لترسيخ خطوط التقسيم.
تحويل «المؤقت» إلى «دائم»
بين تلك الخطوات، استخدام البعض لواقع غياب أجهزة الدولة الإدارية في بعض المناطق، ليس لملء الفراغ (وهو أمر طبيعي ولا يمكن القفز فوقه)، ولكن لتحويل هذا الفراغ إلى ذريعة لإنشاء منظومات حكم متكاملة ومنقطعة الصلة بأجزاء سورية الأخرى... من ذلك، مثلاً: الدفع نحو استحداث أطر قانونية-سياسية من مستوى «الدستور» و«قانون الأحزاب» و«الانتخابات»... والطريف في المسألة أنّ من يدفعون بهذا الاتجاه، وخاصة في الشمال الغربي، يدّعون أنّهم يخلقون نموذجاً ديمقراطياً ينافس في «شرعيته» «شرعية النظام»، ولكن الواقع الذي يعرفه السوريون جيداً، هو أنّ قوة القمع والسلاح والفئات القليلة من نخبة تجار الحرب والفاسدين الكبار هي من تسيطر على الأرض، ليس في منطقة معينة من سورية، بل في كل مناطق سورية على السواء... وأنّ هؤلاء بالذات هم من يغطون أنفسهم بالأشكال القانونية القائمة أو المستحدثة، لشرعنة سيطرتهم، ولشرعنة الاستمرار في كتم أصوات السوريين، ودائماً وأبداً تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»؛ المعركة التي بات استمرارها شرطاً وجودياً بالنسبة لتجار الحروب من كل الأطراف.
من بين الخطوات الأخرى في الاتجاه نفسه، والتي تحمل وضوحاً فجّاً أكثر من غيرها، تلك التي تقترح إنشاء «مركز» يكون نظيراً لدمشق، مصحوباً بانتخابات موازية. انتخابات لن تسيطر عليها أجهزة الأمن هذه المرة، ولكن فصائل مسلحة ضمنها النصرة!
هذه المقترحات، تأتي من أولئك أنفسهم، الذين رحبوا باستخدام عملة مختلفة في المناطق التي يريدون تحويلها إلى «سورية الشمالية»، وإقامة نظام دستوري يناسب تطلعاتهم ليصبح نسخة ثانية لما يدّعون أنهم ضده.
هذه المقترحات، بطبيعة الحال، مصحوبة بجهود حثيثة لتقويض العملية السياسية من خلال الإعلان مراراً وتكراراً: أن اللجنة الدستورية فشلت أو لا طائل من ورائها، وهو جهد يدعمه الجانب «النقيض» بمواصلة استخدام تكتيكات المماطلة، كل ذلك على أمل توجيه ضربة قاضية من شأنها إغلاق الباب على قرار مجلس الأمن رقم 2254 وإلقاء مفتاح تطبيقه في بحر من «الانتخابات» المتنقلة التي تفصل المناطق السورية عن بعضها البعض بشكل مؤقت، أو حتى نهائي.
عن الدور الأمريكي- الصهيوني مجدداً
مرة أخرى، لا يمكن أن نعالج مسائل من النوع الذي ناقشناه سالفاً، دون أن نبقي أعيننا مفتوحة على السياسات الأمريكية-الصهيونية والبريطانية أيضاً بما يخص سورية.
ينبغي أن نتذكر دائماً أنّ ما يقوم به بعض المتشددين هذه الأيام، ليس في جوهره سوى التنفيذ الحرفي لمخططات مركز راند الأمريكي للأبحاث، والتي تحدثت منذ أكثر من أربع سنوات عن «تغيير من تحت إلى فوق» عبر «انتخابات محلية»، كل منطقة نفوذ لوحدها وبعيداً عن المناطق الأخرى (راجع «راند- النصرة»... صندوق باندورا، 6/1/2018 موقع قاسيون الإلكتروني)...
لا يمكن أن ننسى أيضاً محاور عمل جيفري الأساسية:
أولاً: السعي نحو شرعنة النصرة (راجع «المسرحية الكوميدية الكاملة للثلاثي: جيفري، مالي، جولاني!»، 24/2/2020، قاسيون العدد 954).
ثانياً: وظيفتي جعل سورية مستنقعاً للروس (راجع «عن قيصر وراند والشمال الشرقي والحوار الكردي-الكردي»، 25/5/2020، قاسيون العدد 967).
ثالثاً: الجمود/الطريق المسدود هو الاستقرار (راجع «جيفري يريد لـ«مهمة المستنقع» أن تستمر... «الجمود/ الطريق المسدود هو الاستقرار»!، 16/11/2020، قاسيون العدد 992).
رابعاً: حرب الجميع ضد الجميع (راجع «في ضوء تصريحات جيفري... هل واشنطن حليفة لتركيا أم للأكراد؟»، 18/11/2020، موقع قاسيون الإلكتروني).
خامساً: التقسيم (راجع «مشروع القانون الأمريكي الجديد... وصندوق الحاوي!»، 13/12/2020، قاسيون العدد 996).
وفوق ذلك، يقدم مشروع القرار الأمريكي الأخير مثالاً واضحاً على تنحية فكرة الحل السياسي بأكملها، وعدم التطرق إطلاقاً لا لبيان جنيف ولا للقرار 2254. وهذه هي السياسة الفعلية للأمريكي والصهيوني، ليس الآن فقط، بل طوال الوقت...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 997