عن «قيصر» و«راند» والشمال الشرقي والحوار الكردي-الكردي

عن «قيصر» و«راند» والشمال الشرقي والحوار الكردي-الكردي

تدخل حزمة العقوبات الأمريكية الجديدة التي تقع تحت الاسم المراوغ «قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين» حيّز التنفيذ منتصف الشهر القادم. أحداث عديدة تجري بالتوازي مع ذلك، في الشمال الشرقي والغربي، وعلى الأرض السورية عموماً.

أطلق المبعوث الأمريكي للتحالف الدولي لمحاربة داعش، وليم روباك، يوم السبت 23 أيار، وخلال لقاءٍ له مع ممثلين عن الإدارة الذاتية، تصريحاً ملفتاً للانتباه، متعلقاً بقانون قيصر والشمال الشرقي. يقول روباك: «في ما يتعلق بالعقوبات، وبقانون قيصر، فإننا نؤكد أنه سيستثني مناطق الإدارة الذاتية، وسيكون هنالك عمل وتعاون مشترك في إطار برامج الدعم الأمريكية».

قبل ذلك بيومين، أي يوم الخميس 21 أيار، كانت الإدارة الذاتية قد أطلقت بياناً تطلب فيه من المجتمع الدولي والمؤسسات الأممية والتحالف الدولي «ضرورة إعادة النظر في منع تأثر مناطق مكافحة الإرهاب بهذه العقوبات». لا يغفل مطلقو البيان عن حقيقة أن «هذه العقوبات (..) دون شك سيكون لها تأثير على كافة المناطق السورية بما فيها مناطق الإدارة الذاتية والتي هي جزء من سوريا كون التعاملات مع الداخل السوري قائمة، وتتأثر بهذه العقوبات كل القطاعات؛ هذا بحد ذاته يخلق تبعات سلبية على مناطقنا ويخلق مشاكل كبيرة».

بكلام آخر، فإنّ مطلقي البيان، ورغم معرفتهم بتأثير العقوبات الضار على مجمل الشعب السوري، إلا أنهم لم يطالبوا برفع تلك العقوبات، أو على الأقل بعدم تشديدها عبر قانون قيصر، بل اكتفوا بالمطالبة باستثنائهم!

لا يمكننا أن نغفل الترابط بين هذه التصريحات وبين اقتراب تطبيق قيصر، وكذلك الحوار (الكردي-الكردي) المرعي أمريكياً، بل وأيضاً مسألة النصرة وM4، وفي الجوهر مسألة الحل السياسي والقرار 2254 وما يحاول الأمريكان فعله هذه الأيام.

لن ندخل هنا في التفاصيل الاقتصادية والاجتماعية للعقوبات الأمريكية خصوصاً والغربية عموماً، وهي تفاصيل عالجت قاسيون عدداً مهماً من جوانبها مثبتة بالأرقام أنّ العقوبات تحولت إلى مزراب ذهب للفاسدين الكبار داخل النظام وللسماسرة الغربيين، وإلى أداة إبادة جماعية بحق عموم السوريين. في النسخة الالكترونية من هذه المادة، يمكن الانتقال عبر الروابط المتاحة، إلى ثلاث مواد (من بين مواد عديدة) نشرت في قاسيون سابقاً عن النهب عبر العقوبات هي: (البنزين المستورد لسورية 3 أضعاف العالمي: و«ربح العقوبات» قد يصل 920 مليون دولار سنوياً!، العقوبات و«السلبطة»... مثال من القمح، جريمة سورية في خمس مواد غذائية: السوريون محاصرون من دائرة النفوذ والتجارة الضيقة)

ما سنحاول التركيز عليه في هذه المادة، هو بعض الأبعاد السياسية للعقوبات، ولقيصر خاصة، ضمن الإطار العام لما يحاول الأمريكي فعله اتجاه سورية وعبرها.

قبل كل شيء... فلننظر إلى التاريخ

وفقاً لموقع الخزانة الأمريكية، فإنّ برامج العقوبات الأمريكية الفعالة حالياً هي 32 برنامجاً تشمل دولاً عديدة بينها: (سورية، لبنان، الصومال، السودان، أوكرانيا، فنزويلا، كوبا، كوريا الشمالية، زمبابوي، روسيا، إيران، تركيا، جمهورية إفريقيا الوسطى، الكونغو وغيرها). وبين هذه البرامج، برامج مضى على بدء تطبيقها أكثر من نصف قرن، كما الحال مع كوبا.

هذه البرامج بمعظمهما، تطرح هدفاً معلناً هو تغيير الأنظمة القائمة في البلدان المعاقبة. إذا تركنا جانباً مناقشة التعارض المطلق بين العقوبات الأمريكية والقانون الدولي، وتركنا العقلية الأمريكية المهووسة بالسيطرة وبالتحكم بمصائر الدول، والاستعمارية في جوهرها، ونظرنا إلى النتائج، فإنّ الوقائع البيّنة تقول وضوحاً: العقوبات لم تغير نظاماً واحداً، ما فعلته هو مزيد من إفقار شعوب الدول المستهدفة، مزيد من الفوضى ومن التخريب، ولا شيء إيجابياً.

الأمر نفسه ينطبق على العقوبات على سورية؛ فالهدف الأمريكي المعلن من العقوبات، والذي تحول مع تطور الخطاب الأمريكي عبر السنوات التسع الماضية، من تغيير النظام إلى تغيير سلوك النظام، ليس أكثر من ذرٍ للرماد في العيون.

المستنقع

أشرنا في مادة سابقة إلى القول المثير لجيمس جيفري يوم الثاني عشر من الجاري ضمن ندوة في معهد هدسون، ونعيد إظهاره هنا لما لوقاحة جيفري من أهمية في كشف النوايا الحقيقية لواشنطن: «إنّ تواجدنا العسكري (في سورية)، رغم صغره، مهم لهذه العملية الحسابية الكلية. لذا نحث الكونغرس والشعب الأمريكي والرئيس على إبقاء هذه القوات قائمة. ولكن مرة أخرى، هذه ليست أفغانستان. هذه ليست فيتنام. هذه ليست مستنقعاً. وظيفتي هي جعلها مستنقعاً للروس».

من وجهة نظر المصلحة الوطنية السورية، فإنّ ما هو أهم من رغبة جيفري بتحويل سورية إلى مستنقع للروس، هو رغبته بتحويلها إلى مستنقع! مستنقع من طراز أفغانستان مثلاً؛ أي مكاناً مأهولاً بالفوضى والدمار الطويل الأمد والمخدرات بأشكالها المتعددة (أفيون في الحالة الأفغانية، وكبتاغون وحشيش في الحالة السورية). في هذا الإطار نفسه، ينبغي فهم برامج العقوبات الأمريكية عامة، وقيصر خاصة.

وللتأكيد بأنّ ما قاله جيفري ليس استثناءً، بل وأنّ التحالف الدولي لمحاربة داعش بأسره يحمل اسماً مضللاً وغايات أخرى، يمكننا على سبيل المثال لا الحصر، العودة إلى الاستراتيجية الدفاعية الأمريكية لعام 2018، والتي قالت وضوحاً: «يمثل التنافس الاستراتيجي بين الدول، وليس الإرهاب، الشاغل الأساسي للأمن القومي للولايات المتحدة».

«مناطق» راند و«مجتمعاتها المحلية»

رغم أنّ الجزء الرابع من سلسلة «سلام لأجل سورية» التي أصدرها معهد راند الأمريكي، قد مضى عليه ما يقرب من عامين ونصف العام (صدر في كانون الأول 2017)، إلا أنه ما يزال صالحاً كأحد المراجع الأساسية لفهم سياسة الولايات المتحدة في سورية.

يوضح كاتبو تقرير راند أنّ «الحل يجب أن ينطلق من فكرة أن إحداث أي تغيير حقيقي في سورية في الأجل القريب أمر مستحيل، ولذلك ينبغي إحداث تغييرات جزئية ومن (تحت إلى فوق) تفتح الطريق للتغيير الحقيقي... لاحقاً». ويشرح راند التغييرات الجزئية بالقول إنها: «تستند إلى المجالس المحلية في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، كشريك أساس؛ إذ تقوم الخطة على أساس إجراء انتخابات داخل المجتمعات المحلية تحت رقابة دولية، على أن يتم الاتفاق على مبادئ ومعايير تلتزم بها هذه المجالس، وتنال شرعية واعترافاً دولياً على أساسه، وتقوم المجالس المنتخبة بدورها بتقييم الاحتياجات الأساسيّة، ولاحقاً تصبح هذه التقييمات أساساً لعملية توزيع الأموال المخصصة لإعادة الإعمار».

بكلام آخر، فإنّ القاعدة لدى الأمريكي هي الاستثناء: «مجتمعات محلية» تنال «شرعية واعترافاً دولياً». وعليه فإنّ الاستثناء المزعوم للشمال الشرقي من العقوبات، هو التزام أمريكي بالقاعدة العامة الهادفة إلى إبقاء سورية في حالة تقسيم أمر واقع، والدفع حيث يمكن إلى تعميقها وتحويلها إلى صاعق تفجير جديد.

المؤشرات على «القاعدة» الأمريكية، لا تنحصر في ما ذكرناه هنا، بل تمتد أبعد من ذلك بكثير. لا ضير من التذكير سريعاً بتقرير معهد واشنطن الممول من آيباك الصهيونية، والذي رصد تفاعل سورية مع كورونا وعنوانه «الحكومات الثلاث في سوريا في مواجهة فيروس كورونا». "الحكومات الثلاث" وفقاً للتقرير هي حكومة الإنقاذ التابعة للنصرة (وهي حكومة تكنوقراط وفقاً للتقرير!)، حكومة الإدارة الذاتية، حكومة النظام!

ولا ضير أيضاً، بل ربما من الضروري، التذكير دائماً بلاورقتي تيلرسون وبومبيو، (كانون الثاني، وأيلول 2018)، واللتان تؤكدان على «منح سلطة واضحة للحكومات الإقليمية».

كيف يتم تفعيل «الاستثناء»؟

ضمن بيان الإدارة الذاتية الذي أشرنا إليه آنفاً، وأهم من ذلك، على أساس الوقائع الاقتصادية الاجتماعية السورية، فإنّ العقوبات أثرت وستؤثر على عموم السوريين، ولن تستثني أي منطقة من المناطق ما دام الترابط الاقتصادي بين بقاع البلاد قائماً، وما دامت الليرة السورية هي العملة التي يستخدمها 90% من السوريين، أي المنهوبون، كوسيلة دفع لشراء حاجاتهم الأساسية.

جويل ريبورن، المبعوث الأمريكي الخاص لسورية، والذي ينتمي أيضاً إلى مدرسة التبجح والوقاحة الترامبية، كان قد باهى في جنيف أثناء انعقاد الاجتماع الأول للجنة الدستورية السورية، بأنه يتابع على جواله الخاص تطبيقاً يرصد سعر صرف الليرة السورية، وعبّر عن سعادته بانهيارها.

بعض أعضاء هيئة التفاوض السورية أيضاً، وأعضاء في الائتلاف، ومعهم آخرون، لم يستحوا مؤخراً من تنظيم وحضور ورشة عمل افتراضية حول قانون قيصر كان المتكلم الأساسي فيها هو ريبورن نفسه، وكانوا مصفقين ومطبلين لعقوباته وعقوبات دولته على الشعب السوري.

بالعودة إلى مسألة العملة والترابط الاقتصادي، فإنّ «الحل» الأمريكي المطروح، والذي بدأنا نسمع مؤشراته الأولى، هو باستكمال عزل الشمال الشرقي والشمال الغربي عن سورية من البوابة «الإنسانية» و«المعيشية». وكيف ذلك؟ ببساطة شديدة: بما أنّ «مناطق النظام» تغرق، لذا ينبغي تقديم مهرب للمناطق الأخرى. في الشمال الغربي، فلتكن الليرة التركية هي عملة التبادل بدلاً من السورية. طالب ما يسمى «المجلس الثوري لمدينة حلب» وهو مثال نموذجي عن «مجالس راند المحلية»، يوم الخامس من الجاري، باستخدام الليرة التركية بدلاً عن السورية للتعاملات في «المناطق المحررة». وفي الشمال الشرقي، لن نستغرب أن تخرج دعوات لاستخدام الدينار العراقي بديلاً عن الليرة السورية، لتجنب «الغرق»!

حوار كردي-كردي

ضمن هذه الرؤية، لا يمكن للمرء التعامل دون ريبة مع الحوار الذي ترعاه الولايات المتحدة في الشمال الشرقي بين «مسد» و«المجلس الوطني الكردي». فلننظر مثلاً إلى تصريحات نيكولاس هيراس، وهو باحث ومحلل أمركي في شؤون الشرق الأوسط، والتي أطلقها خلال لقاءٍ يوم 22 من الجاري أجراه معه موقع كردستان 24. يقول هيراس: «الولايات المتحدة تسعى إلى استقرار بنية الحكم في شمال شرق سورية». ويضيف: «تتطلب حملة مكافحة داعش بنية حكم مستقرة وشاملة في شمال شرق سورية، وهو أمر مستحيل دون وجود موقف سياسي كردي موحد حول مستقبل سورية».

ورغم أنّ الحوار بين أي طرفين سوريين هو حوار مطلوب بالضرورة، إلا أنّ الرعاية الأمريكية من جهة، وتقديم الحوار بوصفه حواراً كردياً داخلياً، وبمعزل عن بقية السوريين من جهة أخرى، من شأنهما أنْ يفتحا الباب للغايات الأمريكية الواضحة من هذا الحوار؛ أي نحو تكريس عزلة الشمال الشرقي عن بقية سورية على أساس «قومي». وهو الأمر الذي من شأنه لا تقريب السوريين إلى بعضهم بعضاً، بل تكريس انقساماتهم العمودية على أسس قومية وطائفية وعشائرية وإلى ما هنالك. وهذا كله لا يعني وجود موقف رافض لهذا الحوار، ولكنّه يعني أنّ على الوطنيين من الجهات المتحاورة أن يتحلوا بقدر كبير من الحكمة وبعد النظر كي يحولوا حوارهم إلى جزء من حوار سوري عام، وعلى أساس القرار 2254 وصولاً إلى الحل السياسي وإلى إخراج سورية من أزمتها.

النصرة وM4

مع اقتراب دخول «قيصر» حيّز التنفيذ، فإنّ قدرته على تخديم الأغراض الأمريكية التخريبية لن تكون في أفضل حالاتها في حال تم استكمال تنفيذ سوتشي وتم فتح M4؛ لأنّ فتح هذا الطريق من شأنه رفع درجة المناعة الداخلية، ولو قليلاً، بالمعنى الاقتصادي، وذلك عبر تهيئة الأرضية لتوسيع التبادلات الداخلية، التي يمكن لها أن تساعد في توفير الحد الأدنى من متطلبات البقاء على قيد الحياة، وفي المقدمة من ذلك تأتي تبادلات الإنتاج الزراعي وخاصة الحبوب.

وبما أنّ التطورات الأخيرة لملف الشمال الغربي، وخاصة ملف علاقة النصرة بتركيا قد دخل منعطفاً جديداً، وبات من الثابت أنّ اتفاق سوتشي ماضٍ نحو التنفيذ الكامل، فإنّ الولايات المتحدة باتت «مضطرة» إلى رفع درجات استثمارها لملفي داعش والشمال الشرقي، بما في ذلك فتح الباب أمام احتمالات التقسيم، ليس لأنّ هذه الاحتمالات قابلة للتحقيق، فهي ليست كذلك، ولكن لإشعال فتن جديدة وصراعات جديدة على الحدود بين سورية والعراق وتركيا، يكون وقودها الأساسي هم الكرد أنفسهم، والهدف منها تأخير الوصول إلى الحل، وبالتالي تمديد عمر «المستنقع»...

خلاصة:

إنّ الأرضية الواقعية لحجم الاستشراس الأمريكي في محاولات التخريب، هي بالضبط انفتاح إمكانيات تطبيق القرار 2254 بشكل كامل وشامل، وفي آجال قريبة. وفي الوقت بدل الضائع المتبقي، تسعى واشنطن إلى تغيير النتيجة عبر «قيصر» والنصرة وداعش وغيرها من الأدوات، ولكن بشكل أساسي عبر ملف الشمال الشرقي الذي يبدو أنها تراه بوصفه آخر الأدوات التي ما يزال لها وزن عالٍ ضمنه. السمت الرئيس لعمل واشنطن هو الحفاظ على الأمور كما هي عليه، وهو أمر لم يعد ممكناً دون تفجيرات كبرى جديدة...

معلومات إضافية

العدد رقم:
967
آخر تعديل على السبت, 30 أيار 2020 12:58