لماذا لا يعلنون برامجهم..؟

سيكون من المضحك لو أعلن كل حزب أو تحالف سياسي عن برنامجه الحقيقي بالتفصيل، أي كما سيطبق على أرض الواقع، لأنه لو كان الأمر كذلك لما عاد هناك من حاجة إلى العمل السياسي، ولما تنافست أطراف سياسية مختلفة على السلطة، لأن غالبية الناس ستختار برنامجاً واحداً سيمثلها إن وجد، وإذا لم يوجد ستصنعه بنفسها وبسهولة كونها ستدرك الضرورات المطلوبة من خلال مقدار الوعود الكاذبة والجوفاء التي كانت تملأ أدبيات وإعلانات وصحف القوى السياسية المختلفة...

وهذا ينطبق إلى حد كبير على واقع الأزمة وأطرافها السياسية المتصارعة في سورية اليوم، ذلك أن غالبية القوى السياسية في المعارضة والنظام جعلت من العنف والقتل، الذي رافق الأزمة منذ أيامها الأولى، المادة الوحيدة للسجال فيما بينها عبر تبادل الإتهامات وتراشق المسؤوليات عن كل تفصيل ميداني من تفجيرات وقتل وخطف وسلب وتعذيب ...ألخ، في حين أنها لم تعلن للناس من هي، أي ما هي برامجها الاقتصادية والاجتماعية ومن تمثل من الشعب السوري، لا بل يدعي كل منها تمثيل كامل الشعب، وهذا يتناقض مع وعود كل منها عن الديمقراطية والحريات السياسية والتغيير والعدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية...ألخ، فما المشكلة إذا؟
المشكلة تنحصر في أن تلك الأطراف تتفق على جوهر ممارسة السلطة، وتختلف حول من يمارس السلطة، وهذا ما سنحاول تبيانه من خلال أمثلة من بعض قوى المعارضة والنظام سنضطر إلى عرض حقيقة برامجها في ظل إمتناع كل منها عن ذلك...
يسيطر الإخوان المسلمون على مجلس اسطنبول من خلف واجهات «علمانية»، على حد تعبيرهم كما ظهر في أحد الفيديوهات المسربة عن قيادات الإخوان- والمقصود برهان غليون طبعاً- وهم القوة السياسية الضاربة في هذا المجلس، والتي حاولت في الثمانينيات من القرن الماضي الإنقلاب على الحكم في سورية، ويعرف الجميع الطبيعة الطائفية للإخوان، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون، أنهم كانوا يتبنون الليبرالية الاقتصادية، بما تعنيه من إنفتاح على بلدان الغرب الرأسمالي، ونتائج هذا الانفتاح السياسية في ما يتعلق بقضية الصراع العربي-الإسرائيلي، وحسب الدراسة التي أجراها الرفيق الراحل سمير عباس لمشروع الإخوان«سورية المستقبل» في العام2004، فإنهم لجؤوا إلى التعبئة الطائفية كي يغطوا الضعف في شعبية برنامجهم الاقتصادي- الاجتماعي، أمام شعبية برنامج خصومهم في جبهة الحكم في سورية آنذاك...
اليوم يتكرر السيناريو نفسه مع صدور وثيقة «العهد والميثاق» التي قدموها كبرنامج للحكم في سورية، يشارك فيه الإخوان و(يؤسّس لعلاقة وطنية معاصرة وآمنة، بين مكوّنات المجتمع السوريّ، بكلّ أطيافه الدينية والمذهبية والعرقية، وتياراته الفكرية والسياسية) بحسب ما تذكر الوثيقة، ولا تحوي هذه الوثيقة على أي وصف لهوية الدولة السورية واقتصادها، سوى وعود بالمدنية والمساواة والعدل...إلخ، أي كل ما هو غير مجسد وملموس بخطوات عملية، والسؤال: لو ذهب الإخوان إلى إعلان الخطوات الملموسة للسياسة التي يزمعون تحقيقها ألن يعني ذلك نهايتهم سياسياً؟؟
تحمل الدراسة المذكورة آنفاً عنوان «دولة الإخوان موجودة منذ الآن في الوطن» ويقصد بها الباحث أن الفريق الاقتصادي للحكومة السابقة يقوم بتنفيذ مشروع الليبرالية الاقتصادية ذاته، من خلال السعي إلى تصفية القطاع العام، ورفع الدعم عن المواد الأساسية وعن الزراعة، فتح باب الاستيراد بدون حدود لتدمير الصناعة الوطنية...ألخ.
أتوماتيكياً أطيح بالفريق الاقتصادي مع حكومته بعد أسابيع من بداية الاحتجاجات المشروعة في سورية، وبعد شهور يعلق عبد الله الدردري، في مكتبه الجديد في الأمم المتحدة في بيروت، على الأزمة في سورية: (لا يمكن لجزمة ابن الريف العسكرية أن تستمر في حكم ابن المدينة..) مستخدماً لهجة الإخوان ذاتها، بعد أن ضاع بريق وعوده مع ازدياد معدلات الفقر والبطالة بما أوصل إلى الانفجار، لكن السؤال الأهم: هل ما يزال تيار الدردري موجوداً في جهاز الدولة؟
الجواب طبعاً هو نعم، في ظل بقاء الفاسدين الكبار في جهاز الدولة وخارجه بدون محاسبة، فهم اليوم لا يتجرؤون على بعث نموذج بديل عن الدردري، وعوضاً عن ذلك يختبئون وراء شعارات التصدي للمؤامرة، ويلعبون في الوقت بدل الضائع لتوجيه الإصلاحات إلى طريق الليبرالية التي شرعوا بتنفيذها في سورية منذ سنوات..
وتسعى بعض القوى إلى إدخال الليبرالية الاقتصادية من الشباك، وذلك عن طريق طرحها ضمن منظومة الليبرالية السياسية بما يفترض أن تتضمنه من حريات ديمقراطية واجتماعية، مستفيدة في ذلك من تعطش الجماهير للحريات السياسية..
إن أهم وظيفة يقوم بها جهاز الدولة هي الحفاظ على نمط توزيع الثروة من خلال أدوات القمع التي يمتلكها، فإذا تم تشريع الأبواب أمام النهب، بما يزيد الاستقطاب الطبقي والفوارق الاجتماعية، فأي ديمقراطية سيجلبها لنا جهاز دولة متضخم في بلد ينتمي إلى العالم الثالث كسورية؟ هل بلغت مصر التي عاشت الليبرالية على مدى ثلاثة عقود إلا القمع والاستبداد؟
وفي سورية نفسها خبرت الجماهير من تجربة السنوات السابقة أن مستوى القمع يتناسب طرداً مع مستوى النهب الليبرالي الذي نظّر له الفريق الاقتصادي الراحل...
إن ما وصلت إليه سورية من تصاعد في النشاط والعمل السياسيين سيؤدي في سيرورة تطوره إلى مقدرة الشرائح واسعة من الجماهير على تجاوز الشعاراتية المجردة عن الواقع الحقيقي وعلى قراءة البرامج كلها حتى لو لم تعلن.