زياد... حتى لولا الصوت بعيد!
ميار مهنا ميار مهنا

زياد... حتى لولا الصوت بعيد!

هي حال الدنيا... يذهب مناضل فيأتي آخر؛ مات سيد درويش وعاد سعد زغلول محمولاً على الأكتاف، عاد جورج عبدالله ومات زياد الرحباني؛ مات أو رحل أو ترجّل، في النهاية كل المفردات تحيل إلى الموت وإلى وقعه القاسي والصادم، وليس كما أي موت، موتٌ لا يشبه أي موت؛ فقد انطفأت شعلة من العبقرية، أو ربما في حالة هذا الرجل الأكثر من فنان لم تنطفئ، فهو فقط غادرنا، غادر هذا العالم ويا لحزن العالم ويا لشحوبه، فهذه الروح المدهشة الثائرة الساخرة الصادقة كانت لتملأه موسيقى، و»إيفيهات» سياسية واجتماعية عابرة للأوطان والأزمان لا تزال تتردد جيلاً فجيل، ومسرح رائد في نوعه ومضمونه وكلمات شفافة تلج أعماق الروح حتى تلمس الجوهر، إنه الطفرة، الاستثناء، صاحب النبوءة والعراف، عبقرية صرفة كان من محاسن الزمان والأقدار أننا عشنا زمنه... زمن زياد.

والكلمات قد لا تقبض على المعنى أحياناً، فتراه يتسرب من بين أصابعنا، تفلت صفات ذاك الرجل الاستثنائي، صاحب المنبت الطيب، فترانا نتساءل عن البيت الذي خرج من كنفه هذا الرجل - الطفل، وكيف كانت طفولته ونحن على الأرجح نعلم أن موسيقاه التي تراقص أرواحنا تارة، وتبث فيها الثورة تارة أخرى، ليست وليدة الحظ والمصادفة، فهو كما نعلم جميعاً وفي النهاية الابن الأكبر لعاصي وفيروز، وبينهما بزغت ملامح العبقرية وانصقلت، وبعيداً عنهما أعادت تشكيل ذاتها واستقت مفرداتها من الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي ازداد تعقيداً وتركيباً أثناء الحرب الأهلية اللبنانية.

قبل أن يغادر هذا الكوكب الموسيقي بيت أسرته، كان زياد طفلاً مفتوناً بعالم فيروز والرحابنة، كيف لا وهو امتداد بيولوجي وثقافي للأسرة التي صنعت الموسيقى اللبنانية وأعادت تشكيل وصياغة الهوية اللبنانية. كان طفلاً محظوظاً؛ يجلس إلى جانب أبيه عاصي الذي يُدني الموسيقى إلى أذنيه الصغيرتين، بينما كان يحكّم تارةً ويدندن تارةً أخرى ويبدأ الأب بالتنويط، وكان من بين ما دندنه زياد الطفل قبل أن تقع أنامله على البيانو، «حبوا بعضن تركوا بعضن» وأيضاً ما أسماه عاصي الرحباني «عيد الولاد» والنشيد الذي سمع للمرة الأولى دندنات طفل بعمر الستة أعوام سرعان ما تحول إلى أغنية جادة كالأناشيد الوطنية، تغنيها الأم العظيمة على المسرح برصانة وبقامة منتصبة وتعابير وجه مضبوطة، وهي تودع وسميت لاحقاً بـ «أغنية الوداع».

«بكرا برجع بوقف معكن» ليست سوى شرارة النضج الفني والفكري المبكر جداً، فلم تمضِ سوى أعوام قليلة جداً، أصبح الطفل يافعاً، عثر حينها عاصي على تلك المفكرة التي يدون فيها ابنه النابغة بعضاً من خواطره، كانت تلك السطور تشير إلى رحلة شائكة لزياد مع هذا العالم ومع الله، حين أُخبِر أن ذاك الخالق هو صديقه، بات يناجيه، يسأله عن الموت عن الفقر، عن المطر والثلوج والحروب، وعن أولئك الذين يفترشون الطرقات، يسأل ويطيل الأسئلة ومن ثم يجادل ويطلب الإجابات: «هل يصل صوتي إليك عبر كل هذه الأوراق المتساقطة؟» ويحول تلك الأسئلة المعلقة إلى من هو عالم بكل شيء، فقد سأل الكبار ولم يعثر على إجابات، أو ربما كل ما في الأمر أنه لم يقتنع.

ومن بعدها اعتزل الشعر الذي أعلن حين كبر أنه لم يكن شعراً وإنما كتابات أطفال، إلا أن كتابات الأطفال هذه كانت تنبئ بشاعر بليغ يسابق الوقت، وهو الذي كتب في الديوان عينه تلك العبارة المدهشة «.. مرت بي فتاة فسألتني ما بك تجلس على الوقت؟» في الحقيقة فإن لزياد قصة أخرى مع الوقت، فما قد يقال عن نضجه المبكر، يرتبط بصورةٍ أو بأخرى بالوقت، فقد كان يسابق الوقت ويسبقه بإنجازاته الأولى، في العام عينه، عام 1971 لحن أول ألحانه، كان بعمر 14 عاماً، لخالته هدى حداد وهي أغنية «ضلي حبيني يا لوزية» وسبقتها ألحان لشقيقته الراحلة ليال وابني عمه منصور، غدي وغسان.

ثم جاءت فرصته الذهبية والتي أعلنت عن نضج فني باهر قبل بلوغ سن الرشد؛ ففي عام 1973 لحن أغنية «أخدوا الحلوين قلبي وعينيي» والتي كان من المفترض أن يغنيها مروان محفوظ، الذي تعاون لاحقاً بأغنيات عدّة مع زياد، إلا أن مرض أبيه ودخوله المستشفى، حول هذه الأغنية إلى السيدة فيروز وأصبحت بعنوان «سألوني الناس»، كانت الأغنية جزءاً من مسرحية المحطة للأخوين رحباني، إذ نظمها منصور الرحباني ووزعها إلياس الرحباني لتعبر عن غياب عاصي، حينها نجح زياد في هذه المهمة نجاحاً مدهشاً؛ فقد أثار إعجاب الجمهور، والأوساط الموسيقية برصانة اللحن الذي أبدعه وهو لم يزل في السابعة عشرة من عمره، وحين استفاق عاصي من مرضه اعتبر أن هذه الأغنية استثمار في مرضه ومحاولة لاستثارة تعاطف الجمهور.

لم تصدّق الأوساط الفنية أن هذا اللحن المؤثر وضعه شاب يافع، وقورِنَ إنتاجه آنذاك بألحان والده الكلاسيكية، ومن الطريف أن عاصي نفسه تفاجأ من المرحلة التي وصلت إليها موهبة ابنه حين أدرك أن اللحن الجديد ليس إلا من صنع زياد الشاب، حينها، شكلت «سألوني الناس» انطلاقة التعاون الفني بين فيروز وابنها زياد، وأسست لعلاقة فنية أعادت رسم ملامح مسيرة فيروز على صعيد المضمون واللحن في مراحل لاحقة.

كما ظهر في عقده الثاني ظهورين خاطفين في مسرحيتي «المحطة» و»ميس الريم» وأدى دور الشرطي في كلٍّ منهما بحلول منتصف السبعينيات، كان زياد الرحباني قد انتقل من مرحلة البدايات إلى رسم معالم مدرسته الفنية الفريدة، جاءت أولى أعماله المسرحية عام 1973 عبر مسرحية «سهرية» التي كتب نصها وألحانها استجابة لطلب فرقة مسرحية كانت تعيد تقديم أعمال الأخوين رحباني. حملت «سهرية» طابعاً قريباً من مسرح الرحابنة من حيث الشكل، إذ وصفها زياد نفسه بأنها كانت بمثابة «حفلة أغانٍ» أكثر منها مسرحية متكاملة الحبكة؛ فقد استخدمها لتمرير الألحان والأغنيات دون تركيز كبير على القصة، لكن هذه كانت مجرد انطلاقة تجريبية يقول عنها زياد في الفيلم الوثائقي الذي أعده جاد غصن «من بعد هالعمر»: إنها كانت «مرحلة تقليد العائلة» وسرعان ما تلتها انعطافة جذرية في أسلوبه.

منذ طفولته المبكرة، بدأ زياد الرحباني في تشكيل رؤيته للعالم من خلال وعيه الحاد بالفوارق الطبقية، في التاسعة من عمره، صدمه مشهد لم ينسه زياد الذي رواه وهو في عقده السادس، حينها كان في طريقه إلى المدرسة في سيارة بسائق خاص، اقترب طفل من أترابه وطرق زجاج السيارة وقال: «مصاري، مصاري». كانت تلك اللحظة، من بين اللحظات التي غرست في داخله إدراكاً مبكراً بأن «في ناس فوق وناس تحت”.

وانطلاقاً من فهمه المبكر أن الناس ليسوا سواسية كأسنان المشط، وإنما هم ضمن طبقات اقتصادية واجتماعية، وجد السبيل في النضال السياسي، في سن الرابعة عشرة.

في تلك السن أيضاً، غادر زياد منزل العائلة، متأثراً بالتوترات الشخصية بين والديه، وبشعوره بالنفور من الجو الأرستقراطي الذي كان يخيّم على البيت، رغم أن والده عاصي كان يسخر من الأرستقراطية ويعبّر عن احتقاره لها.

شكّلت مغادرة المنزل نقطة تحوّل حاسمة في حياته، إذ فتحت أمامه أبواباً جديدة للاحتكاك بعوالم مغايرة لتلك التي عرفها في كنف العائلة الرحبانية.

ورغم ابتعاده الظاهري عن الإرث الرحباني، لم يكن زياد يرى نفسه في قطيعة معه، بل اعتبر تجربته امتداداً له، ولكن من موقع نقدي وتجريبي مغاير. وفي الثامنة عشرة، عبّر بوضوح أمام والده عن رفضه لـ «المشروع الرحباني» وصورة «لبنان الأخضر» وتلك الهوية المصطنعة التي صاغها الرحابنة، واصفاً إياها بأنها مشروع سلطة، معلناً انتماءه الفكري إلى الشيوعية. حينها، رد عليه عاصي بالقول: «إذا في شيوعية، نحنا الشيوعية الحقيقيين».

في كل زمن، تفرز الشعوب شخصية تختصر صيرورتها وتُجسّد انكساراتها وأحلامها. ولعلّه، في حاضرنا، لا أحد يختزل هذا الدور بكل ما فيه من توتر وتمرد ودهشة مثل زياد الرحباني.

سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، فإن زياد لم يكن مجرد فنان، بل تحوّل إلى مرآة حادة تعكس التناقضات السياسية والاجتماعية في عالمنا العربي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1236