الافتتاحية الانتظار.. لمصلحة من؟!
تتفاقم الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية بسرعة مذهلة لم يتوقعها الكثيرون، ومسار الأحداث أثبت حتى الآن جملة من الحقائق الواضحة أهمها:
ـ أن هذه الأزمة هي أزمة شاملة وكونية وغير محدودة بمساحة محددة، أمريكية كانت أم أوروبية.
ـ أن هذه الأزمة هي أزمة اقتصادية عميقة، وليست أزمة مالية سطحية سببها آليات إدارة المؤسسات المالية كما يدّعي البعض.
ـ أن هذه الأزمة ليست عابرة وطارئة، بل هي طويلة وعميقة، ولن تمر دون آثار على مجمل النظام الرأسمالي العالمي ومصيره.
ـ أن هذه الأزمة عضوية، ويكمن سببها في النظام الرأسمالي نفسه وطريقة توزيع الثروة فيه التي تدفع تناقضاته إلى حدها الأقصى التي تضع حداً له نفسه.
هذه الحقائق تجعلنا نفكر بالآثار القريبة والبعيدة المدى لهذه الأزمة على بلادنا واقتصادنا..
فإذا كان صحيحاً أن الآثار القريبة المدى علينا لن تكون كبيرة بحجم الآثار التي أصابت وتصيب اقتصادات البلدان المرتبطة بشكل وثيق بالسوق العالمية عبر آليات البورصة والمصارف، إلاّ أن هذه الآثار لن تكون معدومة، وهذا يؤكد صحة موقف القوى الوطنية داخل النظام وخارجه التي مانعت السياسات الليبرالية، ووقفت بوجه المحاولات الهوجاء للتسريع في إدماجنا بقطار العولمة الذي كان البعض يهدد أنه سيفوتنا، واليوم، يحمد الكثيرون الله أنه فاتنا، فبذلك خفت الأضرار التي كانت يمكن أن تصيبنا، فتصوروا لو كانت سوق الأوراق المالية تعمل في بلادنا بكامل حجمها، فهل كان حالها سيختلف عن حال نظيراتها في الأسواق الأخرى، والتي تحولت إلى ثقب أسود يدفع ثمن الانهيار الرأسمالي والأمريكي منه بالدرجة الأولى؟..
أما الآثار المتوسطة والبعيدة المدى، فيجب التفكير بها بشكل جدي، والبحث عن حلول جدية لمواجهتها، فاستمرار هذه الأزمة إنما سيعني في نهاية المطاف خلال الأشهر القادمة (من ستة أشهر إلى سنة) وصول العطب إلى عصب الاقتصاد، أي القطاعات الإنتاجية فيه، الأمر الذي سيؤدي ـ إذا كنا لا نريد الآن الإشارة إلى الحلول السياسية والعسكرية التي يمكن أن تلجأ إليها الإمبريالية الأمريكية لتخفيف آثار الأزمة، بل بالاكتفاء بالجانب الاقتصادي ـ سيؤدي على المستوى العالمي إلى انخفاض حاد في أسعار المواد الخام المصدرة، وارتفاع مريع في أسعار المواد المصنعة المستوردة، وهو ما سيؤمن الأرضية الكافية للانخفاض الكارثي القادم حتماً لأسعار صرف العملات الأساسية في السوق العالمية..
أي أن ذلك سيعني على المستوى العملي الداخلي:
ـ انخفاضاً كبيراً في القيمة الفعلية للدخل الوطني.
ـ انخفاضاً حاداً في الموارد الفعلية للموازنة.
ـ ارتفاعاً هائلاً في أسعار المواد الأساسية، بل صعوبة في توفير المستورد منها..
وهذه الأمور في محصلتها، ستعني ظهور خطر توقف الآلة الإنتاجية، وخاصةً في الزراعة والصناعة..
إن التفكير منذ الآن في هذا الاحتمال، ورسم سيناريوهات مواجهته، يجب أن يكون الهم الرئيسي لكل المهتمين باستمرار صمود سورية والحفاظ على وحدتها الوطنية..
والأكيد أن السياسات الاقتصادية ـ الاجتماعية خلال السنوات الماضية لم تبرر نفسها بنتائجها في فترة كانت تعدّ مريحة نسبياً، فكيف الأمر بالمقارنة مع الفترة القادمة التي يمكن أن تكون أصعب بكثير؟.. لقد تكوّن في العالم شبه إجماع على دور قوي للدولة، ولكن السؤال الهام لمصلحة من؟ فالغرب الرأسمالي إن كان يقوّي دور الدولة تحت ضغط الأزمة الحالية، فإنما يقويه لمصلحة النظام الرأسمالي والطغمة المستفيدة منه، وإن كانوا قد لجؤوا إلى التأميم، فهذا التأميم في جوهره هو توجيه الموارد العامة لإنقاذ المصالح الخاصة الضيقة، بينما التأميم تاريخياً كان يعني توجيه الموارد الخاصة المتمركزة بأيد قليلة لمصلحة المجتمع، أي للمصلحة العامة، وذلك عندما ينشأ تناقض مستعص بينهما.
أما دور الدولة الذي نطالب به، فهو دور لمصلحة المجتمع والشرائح الأكثر تضرراً فيه جراء الأزمة المستمرة في التصاعد عالمياً، لذلك فالمطلوب ليس فقط دور للدولة، وإنما دور قوي اجتماعياً ومؤثر على إعادة توزيع الثروة، ويتحكم باتجاهات التطور الاقتصادي.
فلنتصور الأزمة الغذائية لدينا في العام القادم في ظل الأزمة العالمية الحالية في حال استمرار الجفاف... هل يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي في انتظارها؟!..
والسؤال الأخير.. إلى متى الانتظار؟ إلى متى انتظار بحث الاحتمالات القادمة وإيجاد الحلول لها؟
إذا كانت السياسة الصحيحة تعني التنبؤ الصحيح، فإن السياسة غير الصحيحة لا تعني عدم التنبؤ الصحيح وحسب، بل عدم التنبؤ بتاتاً.. إن الانتظار في هذا الوضع يعادل الهلاك تماماً، ومصلحة كرامة الوطن والمواطن تقتضي عكس ذلك..