الافتتاحية ... لقد أصبح شراً مطلقاً...
تميزت سورية كأي بلد من بلدان الجنوب، وخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، بدور كبير للدولة في السياسة والاقتصاد، تجاوز بكثير دور المجتمع، وكان ذلك أحد إشكالياته ونقاط ضعفه التي تبينت لاحقاً بوضوح. ولو رافق هذا الدورَ دورٌ فعال للمجتمع، لما كنا نعاني الآن ما نعانيه من النتائج السلبية لهذا الدور الذي كان له إيجابيات واضحة لا يجوز القفز فوقها، وأهمها الدور الحمائي للشرائح الأفقر، ولو أنه وصل أحياناً إلى حد الوصاية عليها، الأمر الذي حد كثيراً من الحريات السياسية التي أصبح ضعفها عاملاً معيقاً للتقدم اللاحق..
وبسبب الظروف التاريخية التي تكوّن فيها دور الدولة هذا، والتي ارتبطت بظروفنا بشرطين، أولهما: حجم المشاكل الاقتصادية- الاجتماعية المطلوب حلها في حينه بسرعة زمنية قياسية، والتي جرى حولها عملياً توافق بين الأكثرية الساحقة للمجتمع.. وثانيهما: الخطر الخارجي المستمر الذي يتطلب الدفاع عن الكيان الوطني؛ اكتسب هذا الدور استقلالية نسبية عن القوى الطبقية الأساسية المتصارعة في المجتمع وتجلى ذلك من حيث الشكل بصفتين:
• البعد المتساوي شكلياً لجهاز الدولة عن المصالح الأساسية المتصارعة في المجتمع، ومحاولة التوفيق بينها، وكان هو في كل لحظة تاريخية هامة محصلة إجمالية لتناسب هذه القوى نفسها، بما تمثله داخلياً وخارجياً..
ـ قدرته على أن يحل ولو بالحدود الدنيا، المهام العامة الأساسية المنتصبة أمام البلاد، من نمو ومستوى معيشة وتأمين الخدمات الاجتماعية المختلفة، وصولاً إلى الدفاع الوطني..
كل هذه المقدمة كي نقول إن تجاوز هاتين الصفتين أو إحداهما، يخل حسب طبيعة الأمور بالميزة التاريخية لدور جهاز الدولة المستقل نسبياً في سورية، مما سيؤدي إلى تغيير جذري في بنيته ووظائفه، بما يحمله ذلك من نتائج سياسية على المستوى الكلي..
وبالملموس فإن ميزان القوى العالمي والإقليمي قد أعطى السياسات الاقتصادية الليبرالية وزناً أكثر بكثير مما تمثله في المجتمع، وإذا كان هذا الأمر- حسب رأي البعض- ونحن نختلف معهم في هذا- شراً لا بد منه، ففي الواقع أصبحت لدى من يمثل هذه السياسات، ونقصد الفريق الاقتصادي وما يمثله اجتماعياً حتى ولو كانت قاعدته ضيقةً جداً، القدرة إذا ما سُمح له بالاستمرار، على أن يخضع جهاز الدولة لما يمثله من مصالح طبقية، محدثاً كسراً تاريخياً يمكن أن يؤدي إلى انهيار مشروع الدولة الوطنية، كونه مؤهلاً للالتحاق السريع بمشروع الدولة المعولمة إمبريالياً وصهيونياً.
إن قضية استمرار أو عدم استمرار الفريق الاقتصادي وسياساته في الظرف الذي يتكون إقليمياً وعالمياً، وضمن ميزان القوى الذي يعاد تشكيله بسب نضالات الشعوب، لم تعد قضية خيار اقتصادي يصح أو لا يصح فيه التجريب، بل أصبحت قضية سياسية كبرى يمكن بتداعياتها أن تعيدنا إلى ما قبل مشروع الدولة الوطنية، منهية تلك التجربة التاريخية الهامة التي تميزت كما قلنا أعلاه بالدور المستقل نسبياً لجهاز الدولة، الذي سيصبح حينذاك جهازاً ملحقاً بمصالح الرأسمال المعولم الخاضع للإمبريالية والصهيونية، مع كل ما يحمله ذلك من تغييرات في البنية السياسية لجهاز الدولة، أي أن هذا الفريق وسياساته، قد تحول إلى شر مطلق..
لذلك يجب الإسراع للسير إلى الأمام، وليس العودة إلى الخلف، أي السير نحو سياسة اجتماعية قوية تلبي مصالح الناس، وتستند إلى مشروع تنموي يعتمد على الداخل اقتصادياً واجتماعياً، ضارباً حلقة الفساد الكبير الذي ما هو إلا حلقة وصل بين الفئات المتفسخة في جهاز الدولة والمشروع الإمبريالي بكل إحداثياته التي تستهدف الكيان الوطني والمجتمع بتماسكه..
إن السير إلى الأمام نحو الحفاظ على مشروع الدولة الوطنية، ونحو تطوير دور الدولة الحامي والمتفاعل مع المجتمع دون وصاية، يتطلب إزاحة الفريق الاقتصادي مع كل محفظة سياساته التي لعبت دوراً تدميرياً كبيراً حتى اليوم، وفي ذلك ضمانة لتعزيز كرامة الوطن والمواطن..