الافتتاحية: المواجهة على جبهتين..
الوضع المتوتر في المنطقة الممتدة من باكستان إلى اليمن مروراً بإيران وصولاً إلى سورية ولبنان، والذي لم تشهد الحقبة الماضية مثيلاً له باتساعه وعمقه، هو في نهاية المطاف انعكاس للأزمة الاقتصادية العميقة التي يعانيها النظام الرأسمالي العالمي، وخاصةً طليعته الإمبريالية الأمريكية.. أي أن هناك علاقة خطية مباشرة بين الأزمة العالمية ومستوى التصعيد في التوتر في منطقتنا الواسعة..
والسؤال هو: إلى أين؟ كل المؤشرات تشير إلى أن الأمور تسير نحو التصعيد التدريجي المستمر في كل هذه المنطقة.. وهذا الأمر طبيعي إذا عرفنا أن الأزمة نفسها لا تسير نحو الحل على المستوى العالمي، بل هي تسير نحو مزيد من التعقيد على كل المستويات الاقتصادية، المالية، والأهم الاجتماعية..
لذلك كان رد الفعل السوري على السلوك الإسرائيلي والتصريحات العنترية للمسؤولين الإسرائيليين طبيعياً، وفي مكانه، ولقي تجاوباً شعبياً واسعاً.. وخاصةً حول الإشارة إلى أن الحرب ستكون هذه المرة شاملةً إذا تم الاعتداء على أي طرف. وهذا الارتياح رافقه بآن واحد سؤال مشروع: هل كل الإمكانات الداخلية معبأة فعلياً بالاتجاه الذي يخدّم الموقف السياسي السوري؟ وخاصةً إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المواجهة إذا حدثت هذه المرة فلن تكون كسابقاتها، أي أنها ستكون أقسى وأصعب وأكثر تدميراً..
وبالتتابع، يفترض السؤال الأول، سؤالاً ثانياً: هل السياسات الاقتصادية الجارية وآثارها الاجتماعية تخدم منطق المواجهة، أم تضعفه موضوعياً؟!.
إن جميع الوطنيين المخلصين يريدون ألاّ تكون هنالك أية ثغرة في الوضع الداخلي السوري، تسمح للعدو بالاستفادة منها في المعركة الكبرى التي تدق الأبواب، فهل الوضع كذلك؟ وهل الثغرات الموجودة هي قدر لا رادّ له؟ أم أن الإمكانية والوقت مازالا متاحين لسد هذه الثغرات وتجاوزها؟..
إن السياسات الاقتصادية المتبعة لا تلاقي ارتياحاً لدى الأكثرية الساحقة من السوريين، وهي تلاقي حين صياغتها وتنفيذها ممانعةً من المجتمع، ولكن هذه السياسات تتقدم بالتدرّج البطيء نحو إضعاف قطاع الدولة ودور الدولة في الحياة الاقتصادية- الاجتماعية، وتبين أن لديها ما يكفي في جعبتها من أساليب التفافية للوصول إلى أهدافها تحت مسميات مختلفة..
فإذا كان من غير الممكن الخصخصة المباشرة، فليكن الأمر بشكل غير مباشر عبر تراجع دور الدولة الاستثماري وعبر الدخول إلى ساحاتها السابقة الاستراتيجية، وخاصةً في البنى التحتية، تحت أسماء الاستثمار والاستئجار، وحتى التطوير.
ومع أن الوقائع لم تثبت حتى الآن فائدة هذه السياسات بانعكاسها على الأرقام الإجمالية المتعلقة بالنمو والفقر والبطالة، بل العكس هو الصحيح، إلاّ أنها مستمرة، والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه الآن: هل وصلت هذه السياسات إلى نقطة اللاعودة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي نتائجها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؟
ـ اقتصادياً: قولاً واحداً، لم تقوّ هذه السياسات منعة البلاد والدولة حتى الآن، ولن تقوّيها، في ظل المخاطر الكبرى التي تهدد المنطقة والبلاد.. فهل ننتظر المواجهة كي نكتشف ذلك، مع كل ما يحمله هذا الأمر من مخاطر على صمود البلاد ومقاومتها؟ أم يجب مراجعة هذه السياسات فوراً بحزم وجرأة؟
إن هذا الأمر إذا لم يتم الآن، فهو سيفتح المستقبل أمام احتمالين لا ثالث لهما: الأول: ضرورة مواجهة هذه السياسات خلال المواجهة نفسها، لأنها لا تتفق عضوياً معها، وستكون عائقاً أمامها، وفي ذلك وقت ضائع.. والثاني: أن تستطيع هذه السياسات موضوعياً إضعاف قدرة البلاد على المواجهة، وبالتالي تكون قد خلقت المناخ والظروف الضرورية لتغيير موقع سورية على خارطة المواجهة، وهو ما يريده العدو عملياً.
ـ اجتماعياً: نتائج هذه السياسات الضاغطة على المستوى المعيشي للجماهير الشعبية، والتراجع المستمر له والمترافق مع أزمات نوعية في كل المجالات، يضعف موضوعياً لحمة المجتمع، ويضر الوحدة الوطنية السلاح الأهم في المواجهة.. إن الشعب السوري الذي يدعم سياسات بلاده الوطنية لا يستحق أن يُعامَل على المستوى الاجتماعي بالشكل الذي يجري في السنوات الأخيرة.. والأكيد كما تثبت تجربة البلاد التاريخية، أن موقف الشعب الوطني غير مشروط، ولكن النتائج الاجتماعية للسياسات الاقتصادية تنهك وترهق قطاعات واسعة من الناس.. ويزداد الاستياء بينهم في وقت نحن بأمس الحاجة فيه إلى تعبئة كل القوى باتجاه المعركة الوطنية الكبرى..
سياسياً: السؤال الأخطر والأهم هو: كم تستطيع البنية السياسية القائمة، التي صُمّمت لا لتخدّم سياسات اقتصادية كالتي يجري تطبيقها، كم تستطيع الصمود في ظل التغييرات البنيوية الجارية في الاقتصاد السوري وانتقال مركز الثقل بالتدريج إلى أيدي قلة قليلة من رجال الأعمال الكبار ومن لف لفهم من الفاسدين الكبار؟!.
ويمكن أن نطرح السؤال بشكل آخر: إلى أي مدى سيتعايش رجال الأعمال هؤلاء وحلفاؤهم مع هذه البيئة السياسية التي لا تروق لهم من حيث منطقها وجذورها وتربيتها؟!
وإذا انتقل مركز ثقل الثروة إليهم، ماذا هم فاعلون؟ وهل يمكن الركون إليهم، هؤلاء الذين أوطانهم في جيوبهم وحيث حساباتهم البنكية التي يتكدّس معظمها في البنوك الأجنبية؟.. كم هي صحيحة اليوم الحقيقة القديمة التي تقول إن الرأسمال لا وطن له؟.. فكيف بالرأسمال الكبير في ظل السوق الواحدة التي تسيطر عليها الإمبريالية العالمية وخاصةً الولايات المتحدة والصهيونية؟.. أين هي مصالح هذا الرأسمال الكبير الذي يراعي البعض مشاعره ورغباته ضارباً عرض الحائط بمصالح الناس البسطاء الذين يكوّنون العمود الفقري للصمود والتصدي؟!..
إن التطور الواقعي والموضوعي للأوضاع يدفعنا إلى أن نقول: إن المواجهة يريدها العدو المحكوم بأزمته، والانتصار عليه شرطه الضروري الوحيد الاعتماد الحقيقي على أوسع الجماهير الشعبية، بتنفيذ سياسات تضمن مصالحها الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، وفي ذلك ضمان لكرامة الوطن والمواطن..