الافتتاحية: بين خيارين لا ثالث لهما..

يدعي المدافعون عن السياسات الاقتصادية الليبرالية الحالية أنها تأتي في سياق تغيير النموذج السابق للاقتصاد السوري الذي لم يعد فعالاً، وأنها الخيار الوحيد الممكن في الظروف الحالية الخارجية والداخلية..

- وهم يؤكدون أن نموذجهم لم يأتِ بعد بكل نتائجه المطلوبة والموعودة، وأن علينا الانتظار سنوات عديدة كي نرى ونشعر بخيره وبأنهار الحليب والعسل التي سيجعلها تتدفق علينا..

- لأنه سيجذب الاستثمارات المطلوبة للاقتصاد الوطني، وخاصةً من الخارج بإغرائها بالتسهيلات والأرباح المأمولة..

- وأنه سيدفع فعالية الاقتصاد الوطني عبر تخفيض الأعباء الاجتماعية التي كان يتحملها وكانت تمنعه من السير إلى الأمام..

- وأخيراً، صدّقوا أو لا تصدقوا.. إنه سيخفف هامش الفساد، لأنه سيعطي السلطة الكافية لرجال الأعمال كي لا يتحكم بهم موظفو الدولة الفاسدون.. إذ بانتقال مركز ثقل الاقتصاد الوطني إليهم فإنهم قادرون على حماية مؤسساتهم من الفساد الذي لا يمكن محاربته في جهاز الدولة.. ما سيحد من ظاهرة الفساد بشكل عام..

• نعم، إن النموذج السابق للحالي لم يعد قادراً على العمل في الظروف الحالية، لأنه بني ورسم لعصر آخر كانت فيه منظومة اشتراكية، وكان فيه حد معقول من التضامن العربي، وبانتهاء ذلك العصر، انتهت صلاحية النموذج السابق.. إذاً، المشكلة ليست في النموذج نفسه- رغم الثغرات والسلبيات الموجودة فيه عضوياً- وإنما هي في الظروف الخارجة عنه التي منعت استمراره موضوعياً..

والسؤال الذي يجب الإجابة عنه هو: لو لم تتغير الظروف الخارجية ألم يكن للنموذج الاقتصادي السابق حظوظ كبيرة في الاستمرار؟ نعم.. كان يمكن أن يستمر، لأنه استطاع أن يؤمن الحد الضروري والمعقول من النمو، والحد الأدنى والمعقول من العدالة الاجتماعية، التي لم تسمح للفقر أن يصل إلى الأرقام التي وصل إليها اليوم، وكان يمكن أن يتطور متخلصاً من سلبياته وثغراته، الأمر الذي كانت ستفرضه الحياة نفسها..

إن النموذج الحالي المستند إلى رؤية نظرية محددة، اعترف بذلك القائمون عليه أو لم يعترفوا، لم يستطع أن يبرر نفسه أمام النموذج السابق، ولذلك يصح هنا أن يقال: (الذي بيته من زجاج لا حق له برمي الحجارة على الآخرين).

• ومتى سيأتي النموذج الحالي بنتائجه المطلوبة؟ بعد خمس سنوات من تطبيق صريح ومباشر له رأينا النتائج على أرض الواقع، واللافت للنظر أن هذه الحجة نفسها قد استخدمت في بداية الإصلاحات التدميرية في كل أوروبا الشرقية، طالبةً من الناس الصبر وانتظار المستقبل الزاهر، لأن ما يجري آنياً هو آلام انتقال مؤقتة سيتم تجاوزها، ولكن الذي تؤكده التجربة بعد مرور 20 عاماً عليها، هو أن الآلام استوطنت نهائياً، ولم ينفع الصبر إلاّ في تمرير هذه السياسات التدميرية بأقل المقاومات..

• وهل جذب وسيجذب النموذج الحالي الاستثمارات؟ إذا كان قد جذب في الفترة الماضية استثمارات ما، فإنه قد جذب الاستثمارات الخطأ التي عمقت التشوهات الهيكلية في بنية الاقتصاد السوري، وإذا نظرنا إلى المستقبل القريب فمن الصعب التوقع في ظل الأزمة الاقتصادية الرأسمالية العالمية قدوم رساميل مع أصحابها بالشكل والحجم السابق، اللهم باستثناء قدوم استثمارات بشكل قروض تحت أسماء مختلفة، تربط الاقتصاد السوري وتثقل حركته، وتمنعه من التطور اللاحق، وتضعه تحت رحمة الرأسمال المالي الدولي، بشكل يؤدي إلى استنزاف احتياطي سورية من العملات الصعبة الذي كان أحد إنجازات النموذج السابق.

• وهل سترتفع فعالية الاقتصاد الوطني؟ هل هي ارتفعت أصلاً؟.

والجدير بالذكر أن الفعالية العامة للاقتصاد الوطني كانت أصلاً منخفضة، وقد ساهم الاعتماد على  الدعم الخارجي في الفترة السابقة على عدم تحريض هذه الفعالية على  التطور.. ولكن هل يتجرأ أحد اليوم أن يقول لنا ما هي فعالية الاقتصاد الوطني التي أحد مؤشراتها الأساسية هو عائدية الاستثمارات التي كانت في بداية الخطة 14%، وكان المخطط رفعها إلى ما تحت 20%، في حين كانت في السبعينيات من القرن الماضي فوق الـ40%؟.

إن كل المؤشرات تدل على أن عائدية الاستثمارات ما زالت منخفضة، ولم يؤدّ النموذج الحالي إلى رفعها..

• وأخيراً حول الفساد، والذي يجب أن يقال في هذه النقطة، إن ما يُقترح علينا هو تغيير شكل الفساد وليس الحد منه أو القضاء عليه، تغيير شكله من فساد يحصّل على الجزء الأكبر من فاقده الجزء الفاسد من جهاز الدولة، إلى تحصيل هذا الفاقد من جانب رجال الأعمال، وخاصةً الكبار منهم.. وإذا شُرّع هذا الفساد تحت اسم أرباح، فهذا لن يغير من واقع الأمر شيئاً في الخلل ببنية الأجور والأرباح، وإنما يكون كل الذي جرى هو انتقال جزء من الأرباح من مكان إلى مكان آخر، وإن كان اسمها في الحالة الأولى غير مشروعة وفي الحالة الثانية مشروعة، لأن المتضرر الأكبر وهو الأجور، سيبقى المتضرر الأكبر في هذه الحال..

وعلى كل ذلك نستطيع الاستنتاج أن المطلوب اليوم هو بناء ذلك النموذج الاقتصادي الفعّال والعادل الذي يستجيب لمصالح الشعب العامل.. إن الخيار هو بين نموذجين، وليس صحيحاً أن النموذج الحالي لا بديل له.. بين نموذج يعمل لمصلحة رجال الأعمال (أي الرأسمالية)، وبين نموذج يعمل لمصلحة الشعب العامل (أي الاشتراكية)، فأيهما نختار؟ إن هذا الخيار ستفرضه في النهاية مصالح الحفاظ على كرامة الوطن والمواطن..