قدري جميل: شكل الاقتصاد سيكون محصلة للحوار
يجري موقع SYRIAPAGE» «the سلسة من الحوارات مع اقتصاديين سوريين، في بحثه حول المحور الاقتصادي في مشروع الحوار السوري، فبعد لقاء «عبد الله الدردري» النائب الاقتصادي السابق، ولقاء مع الأستاذ «عمر عبد العزيز الحلاج» (مدير تنفيذي سابق للأمانة السورية للتنمية)، يجري الموقع لقاءاً مع الدكتور قدري جميل. وتتشابه الأسئلة في محاور محددة تبدأ من شكل الاقتصاد، مروراً بالموقف والرؤية حول قضايا إشكالية كالخصخصة، الضرائب، الاستثمار الأجنبي، وقروض «إعادة الإعمار».
ربما كان التحول الأكبر في مسألة الاقتصاد السوري حدث خلال الأزمة، فوجود الدكتور قدري جميل نائباً اقتصادياً لرئيس مجلس الوزراء لا يعبر فقط عن دخول معارض لكل السياسات الاقتصادية السابقة في سورية، بل وجود شخصية اقتصادية شيوعية، ولأول مرة في تاريخ سورية، في عملية التخطيط الاقتصادي، فرغم الهوية الاشتراكية لسورية على امتداد خمسة عقود لكن الحذر من إقحام الشيوعيين في «شأن سيادي» سيطر على القرار السياسي، وسط حديث عن مزاج سوري عام يفضل واقع أقرب لليبرالية.
في الحديث مع الدكتور قدري جميل يمكن تلمس مساحات مختلفة في الحديث الاقتصادي، فالمسألة لم تعد مجرد بحث عن حلول بل تغيير في الرؤية العامة للممكنات السورية، وإعادة لقراءة التجربة الاقتصادية منذ الاستقلال وحتى اليوم، فالاقتصاد القادم حسب الدكتور قدري جميل سيكون محصلة للحوار السياسي، وبغض النظر عن العناوين العامة التي ربما يتفق فيها مع باقي الاقتصاديين. والتي تحدث عنها في المقابلة التي أجرتها معه نضال الخضري ضمن سلسلة المقابلات والدراسات في مشروع الحوار السوري «الملف الاقتصادي»
كيف ترى شكل الاقتصاد في سورية في المرحلة المقبلة اقتصاداً اشتراكياً أم ليبرالياً؟
هناك فرق بين ما أراه وما سيكون، لأن شكله هو تصور افتراضي لنموذج مبني على مبادئ وقيم يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الواقع الملموس، فشكل الاقتصاد سيكون محصلة الحوار بالصراع وحصيلة مكثفة لتوازن القوى وصيرورتها ماقبل الحوار وخلال أكثر من عشر سنوات الماضية كما أن هذا الشكل سيتمثل كل التجارب التي عاشتها سورية خلال العشر السنوات.
وعودة إلى سؤال ما هوشكل الاقتصاد: اشتراكي أم ليبرالي؟ فبغض النظر عن المنطلقات الإيديولوجية والتي تعتمدها هذه المدرسة أوتلك، هناك واقع موضوعي لا بد من التعامل معه، فأولاً سورية بحاجة إلى نسبة نمواقتصادي عالٍ للتخلص من الفقر والبطالة، ثانياً إن التفاوت الحاد بتوزيع الثروة أدى إلى استقطاب طبقي هائل، ومانراه الآن من تفاوت بين الريف والمدينة هوصورة عن ذلك، ولدينا نموذجا حلب ودمشق يعبران عن ذلك بشكل فاقع، فهذا التفاوت يرتبط بمسألة الحرية الاقتصادية بقدر ارتباطه بالأمن بمعناه العام، لأن التفاوتات الكبيرة تؤدي لعدم استقرار اجتماعي، وحتى أصحاب الثروة يعانون في مثل هذه الحالة، وكما نشاهد اليوم فإن بعض أصحاب الرساميل من مدينة حلب على سبيل المثال يعيشون في مصر ينتظرون عودة الأمن، وعندما يشتكون من الفوضى ومن سيطرة المسلحين على مدينتهم، أقول لهم أنتم خلقتم هذا الوضع، فجشع أصحاب الثروات هوالذي أوجد الشرائح الاجتماعية المهمشة التي تمردت دون أن تمتلك مستوى الوعي بسبب عدم وجود خبرة سياسية، فوصلنا إلى حالة من الانفلات لطاقة سلبية تراكمت خلال عقود بسب سياسات الدولة القصيرة النظر، ومن جهة أخرى بسبب ممارسات النخب الاقتصادية التي اعتقدت أنه إذا كان المال بأيديها يمكن أن تصنع كل شيء.
من هنا يمكن القول إن النموذج الذي يجري عليه توافق، وفي إطار نظام سياسي يتم فيه تبادل السلطة، سيجعل برنامج هذا أوذاك هوالذي سيطبق، وأنا بهذه الحالة مضطر أن ألتقي مع نقيضي، وأجد قواسم مشتركة وأؤسس لصياغة دستور جديد، ومن خلاله سيسعى كل طرف إلى إقناع الناس عبر العمل السياسي والتعبئة والبرامج لنصل إلى نقطة توافقية، وما أقترحه هوبرامج عامة بعيدة عن الأدلجة، فأنا الشيوعي بلجنة الدستور الحالي أصريت على إلغاء كلمة الاشتراكية، ليس لأني «لا اشتراكي»، بل لأن ما حدث في العقود الماضية هو«إعلان الاشتراكية» وإنتاج رأسمالية مشوهة، فـ»الكلمة» أوالمصطلح لا يضمن طبيعة النظام الاقتصادي، فما يضمنه هوالتطور وطبيعة القوى، لذلك تم في الدستور الحالي تثبيت أن «الحكومة يجب أن تعمل على تحقيق عدالة اجتماعية ونمواقتصادي» وهي عبارة عامة، وكل جهة تستطيع التعامل معها بطريقتها من خلال برامج تنفيذية، وبعد ذلك يمكن أن نتحاسب انتخابيا وبالصراع السياسي.
شكل الاقتصاد مرهون بتوازن القوى
لنبدأ من سؤال ما هوهدف الاقتصاد؟ فهل من المعقول أن تكون الإجابة على هذا السؤال من خلال تضمين الدستور بأن هدف الاقتصاد تأمين الربح الأعلى لأصحاب الاستثمارات! طبعاً لا، بل سيكون تعريف الاقتصاد هوتحقيق حاجات المجتمع والأفراد، لذلك ليس من الممكن الحديث بالدستور عن شكل توزيع الثروة التفصيلي والنهائي، وهذا الأمر يحدده مسار التطور الطبيعي، بالتأكيد فإن كل ما أطرحه يستند إلى إيديولوجيا أؤمن بها، لكنني لا أريد لـ»الأدلجة» أن تكون فاقعة في الدستور، فإذا عدنا إلى تعريف الاشتراكية اقتصادياً نجد أنها النظام الذي يحقق الحاجات المتنامية للمجتمع، فهل هناك من سيقف ضد هذا الطرح! لكن إذا قلت اشتراكية فربما سيقف الكثيرون ضدك؛ لأنهم شهدوا تجربة سيئة، لكن عندما تقول أن هدف الاقتصاد تلبية الحاجات المتنامية للمجتمع، فإن مثل هذا الكلام سيكون مقبولاً حتى بالنسبة للرأسمالي، في المقابل لا يمكن أن أكتب بالدستور «حرية السوق» لأنه كذبة كبيرة، فليس هناك حرية سوق حتى بالعالم الرأسمالي المتقدم، هناك احتكارات للسوق، ويبقى دور الدولة التدخلي لضبط الأسواق والمؤشرات العامة والقضايا الكبرى والبنية العامة والاستراتيجية قضية لا نقاش فيها.
في ظل التمركز الكبير للاقتصاد الجاري في عالمنا فإن ما تحدثت عنه هوحقائق، وأقول أنا اشتراكي وسأبقى اشتراكياً ويسارياً، وسأبقى أناضل وأطرح برنامجي، لكن إعلان البرنامج لا يعني أنه تحقق، فشكل الاقتصاد سيحدده توازن القوى الاجتماعية في الانتخابات القادمة، بينما يتكون التيار الجماهيري الشعبي القوي الذي يعرف تماماً ماذا يريد، ويقف بمكان محدد ويعطي صوته، فالطريق طويل لتحديد الهوية الاقتصادية لسورية، وما نريده هوالإحداثيات العامة التي يجب أن نتوافق عليها، وضمن هذه الإحداثيات يمكن أن نختلف سلمياً، وكل اتجاه يستعرض ممكناته في إقناع الناس.
في ظل ما تعرض له الاقتصاد السوري، كيف ترى إمكانية القيام بعمليات خصخصة بعد الأزمة؟
الاقتصاد في العالم يسير نحوالتمركز حتى ولوكان خاصاً، وهذا يعني أن هناك اتجاهين: إما رأسمال دولة ضخم، أورأسمال خاص كبير، في العالم الثالث يتبين أن الرأسماليات «متوحشة» فهي لا تملك تجربة أوخبرة ودرجة ضبطها من المجتمع ضعيفة، وبالتالي تفلت من عقالها، وتولد نتيجة سلوكها حالة رفض وطاقة سلبية هائلة، وتؤدي في العالم الثالث، وبدولة مثل سورية، إلى توليد التكفيريين الذين يمثلون بكتلتهم الأساسية المهمشين في المجتمع نتيجة ارتفاع نسب الفقر والبطالة والجهل، فيصبحون لقمة سائغة لتيارات ظلامية، فالليبرالية الاقتصادية التي أنجبت في الغرب ليبرالية سياسية فإنها في دول العالم الثالث، وبالتجربة الحسية، لا تنجب إلا التطرف السياسي، من هنا فالليبرالية الاقتصادية في العالم الثالث هي «تفتيتية» وخطيرة على المجتمعات، وتفكك جهاز الدولة الذي عليه أن يلعب دوراً في توحيد «الكيان» ويحافظ على علاقة طبيعية مع المجتمع، وإذا أردت أن أتكلم بالملموس فإن آلية تفتيت سورية هي «الطائفية» على المستوى الاجتماعي والليبرالية على المستوى الاقتصادي، ولتوضيح هذه النقطة يمكن النظر إلى تجارب الآخرين، فعلى سبيل المثال لماذا لم تتفتت روسيا؟ عملياً فإن الاتحاد السوفياتي تفكك على «الخريطة» لكن روسيا استمرت رغم أن عملية الخصخصة حدثت في مراحل ما بعد الاتحاد السوفياتي، فما حدث هوأن هناك ثلاث قطاعات لم يكن بالإمكان خصخصتها: سكك الحديد، الغاز والكهرباء، رغم الجهود التي بذلتها بعض الأطراف الأمريكية لخصخصة هذه القطاعات لكنها فشلت لأن الدولة تنتهي إذا تم هذا الأمر، فروسيا بلد شاسع الأطراف تمتد على 12 عقدة زمنية وبالتالي لم يكن بالإمكان خصخصة سكك الحديد لأنه سينهي بنية البلد، وأصبح الخيار محصوراً باتجاهين إما الحفاظ على البلد أو«الخصخصة»، ونجح التيار الأول، والملاحظ أنهم في هذا الخيار لم ينطلقوا من معيار أيديولوجي بل براغماتي هوالمصلحة الوطنية، وينطبق هذا الأمر على شبكتي الغاز والكهرباء، فهما تلعبان الدور نفسه، فشبكة الغاز هي شبكة الحياة نتيجة الظروف البيئية القاسية، أما الكهرباء فهي شبكة الاقتصاد نتيجة تقسيم العمل العالي في روسيا، فالواقع الموضوعي لا يتيح عمليات الخصخصة لهذه القطاعات، وبعد ذلك استندت القوى الوطنية على هذه الأمور وأوقفت الانهيار وتعمل على إعادة بناء الدولة الروسية.
الخصخصة أداة التقسيم
في سورية ربما لا نجد شكلاً مباشراً للمقارنة مع التجربة الروسية، ولكن الواقع السوري بتعقيداته «الإثنوجرافية» يوضح أن الخصخصة ستساهم في عملية التقسيم، فهي ليست عقلانية اقتصادية، حسب ادعاء البعض، نظراً لعدم قدرة قطاع الدولة على تحمل أعباء الاقتصاد واعتباره قطاعاً خاسراً، لكن إذا حاولنا دراسة تأثير عملية الخصخصة بغض النظر عما يعانيه قطاع الدولة فإنها ستؤدي لتفتيت جهاز الدولة بينما تفتت الطائفية المجتمع، وإذا كان هناك عامل حافظ على وحدة سورية في هذا الظرف فهووجود جهاز دولة بمؤسساته المختلفة ولوكان ضعيفاً، وذلك بغض النظر عن مسألة الحريات السياسية أوالفساد أوغيرها من الأمور، فهوجهاز لديه سلسلة إنتاج من القمح وصولاً إلى الخبز، وهويملك نفطاً مع وجود مؤسسات تتعامل مع هذه المادة مع وجود فساد وعمليات سرقة، وهوجهاز لديه جيش، فحتى لوتراجع دور هذه المؤسسات وأصابها النخر نتيجة الفساد لكنها موجودة، لنفترض أن جهاز الدولة الذي كان موجوداً في خمسينيات القرن الماضي يواجه أزمة تشابه ما نعانيه اليوم، لوحدث مثل هذا الأمر لتفكك البلد سريعاً، لذلك فالخصخصة والليبرالية بأعبائها الاقتصادية أمر خطير بالنسبة للأمن الوطني.
القطاع العام ومقياس الكفاءة
إذا نظرنا للموضوع من جانب آخر متعلق بمسألة «الكفاءة» للقطاع العام، فليس بالضرورة أن تكون كفاءة القطاع العام بكفاءة القطاع الخاص نفسها، وعلينا هنا أن نضع مقياس للكفاءة، وأنا برأييي أن هذا المقياس هوالقيمة المضافة الفعلية أي كمية العمل المنتجة التي تضاف مجدداً إلى كميات العمل السابقة، وفي القطاع الخاص هذا الأمر منخفض لأنه يعمل على هامش العملية الإنتاجية، وهويعمل بالخدمات أكثر من الإنتاج وذلك على عكس قطاع الدولة الذي يعمل بفروع استراتيجية، وهويظهر على الورق أنه خاسر أوأرباحه منخفضة لكن إذا نظرنا بعمق نجد أن هناك أقنية يتم عبرها نقل الثروة من هذا القطاع إلى قطاعات خارجية منها بعض أجزاء القطاع الخاص، ومن الأمثلة عن هذا الموضوع قطاع النسيج وهوخاسر، ولكن أي قطاع خاص يعمل مع قطاع النسيج السوري رابح، لأن كل المداخل والمخارج للقطاع الخاص من يعمل في التوريد عبر الوكالات والسمسرة وحتى الفاسدين في الدولة ويعمل بالتسويق فيتحكم بالأسعار و»التسعير الإداري»، ويتحكم بالسوق فيخرج بأرباح هائلة، فالقيمة المضافة للقطاع العام تظهر في مكان آخر من خلال أرباح القطاع الخاص، بالتالي فعلينا إعادة دراسة فرضية أن القطاع العام لا يربح، وعلى من يتحدثون عن أن القطاع العام خاسر أن يثبتوا ذلك بطريقة علمية وموضوعية ودقيقة، وأنا برأييي أن القطاع الخاص المنتج تم قمعه من الطفيليين الذين تعاملوا مع قطاع الدولة فلم يهتموا بظهور منتجين حقيقيين على أطراف الإنتاج الذي يقوم به قطاع الدولة.
من يطرحون الخصخصة لا يريدون من هذا الأمر ظهور إنتاج مواز، وبالنظر لتجربة أوروبا الشرقية فإن هذه العملية كانت من أجل السيطرة على الأسواق وإغراقها بالمستوردات، فألمانيا على سبيل المثال اشترت شركة انتاج أجبان هنغارية وقامت بإغلاقها، واستولت على سوقها العالمية، وليس هناك ضمانة فيما لوقمنا بالخصخصة أن لا تحدث أمور مشابهة، وعملياً إذا بدأنا بهذا الأمر فيجب أن نصل به إلى نهايته المنطقية أي خصخصة الأمن والدفاع، وهذا أقصر طريق لإضعاف الدولة كجهاز وكيان، ودعيني أقل شيئاً إذا كان هناك من سبب يدعوبعض المختصين والعلماء للحديث عن «تفكك» الولايات المتحدة فهووصول تمركز الثروة والخصخصة إلى حدهما الأقصى وبالتالي تفكك البلد بالكامل.
إذا كنا في سورية لدينا أولويات في مسائل التحرير والمقاومة وهناك أطماع استعمارية فليس مسموح لنا «ترف» التعامل مع الليبرالية، لأنها تتناقض مع المصالح الوطنية العميقة، وأنا برأيي أنها لم تولد في العالم الثالث سوى «التوحش»، والبعض يعتقد أن القطاع العام هوالذي أنتج الدكتاتوريات، وأن الخصخصة ستؤدي للديمقراطية، ولكن هل هذا الاستنتاج حقيقي؟ باعتقادي أن الليبرالية الاقتصادية في العالم الثالث ستؤدي لمزيد من القمع، لأنه في تقسيم العمل العالمي فإن القيمة المضافة حتى تذهب إلى «الخارج» فهي لا تحتاج لديمقراطية بل لدكتاتوريات بأشكال مختلفة، بالتأكيد فإن المنطق المطروح هنا بجوهره ماركسي، لكن مخرجاته إلى أرض الواقع عملية وواقعية ووطنية.
الناس برأيي موضوعياً هم ضد الرأسمالية، واذا قلنا لهم بأننا سنعمل لجعل مستوى البطالة صفراً، والفقر صفر، وسنؤمن لكم الكهرباء والماء والطبابة، وسنمنع التفاوت في توزيع الثروة فسيقبل المواطن مهما كان انتماؤه السياسي، فإعادة توزيع الثروة تعني كل ما سبق، ودون الحاجة لاصطفافات إيديولوجية، والذي سينتصر هومن يمتلك حلاً لمشاكل الناس، فأي مواطن مهما كانت ايديولوجيته سيقبل عملية إعادة توزيع الثروة إذا قلت له سأعطيك الكهرباء مجانية إذا كان استهلاكك أقل من 800كيلوواط، وأن من يستهلك من 3000 إلى 4000 كيلوواط، وهم لا يتعدون 2%، سيتحملون الدفع، وهي شريحة لن تتأثر إذا تم تحميلها هذه القيمة، وفي المقابل أكون خفضت الاستهلاك وغيرت من العادات الاستهلاكية.
هذا يقودنا إلى مسألة الدعم الحكومي لعدد من السلع الأساسية، كيف تنظرون إلى هذا الأمر؟
السؤال هولماذا وجد الدعم؟ لأن الأجر غير كافٍ، لكن الدعم أصبح آلية للفساد ولم يعد يذهب لمن يحتاجه بل يستهلكه الفساد، وخرج عن قاعدة إعادة توزيع الثروة لمصلحة الفقراء، لذلك يجب الخلاص منه بسرعة، ليس لأننا لا نريد دعماً لكن نريد أن يكون الأجر حقيقياً، فحد الأجر أقل من ضرورات المعيشة بثلاث مرات حسب الشريحة الدنيا، وهذا غير منطقي، وذلك إضافة إلى تمركز هائل للثروة ضمن شريحة لا تتجاوز الـ 200 شخص، وهم أساس الفساد وجزء من جهاز الدولة.
وماذا عن مسألتي التعليم والصحة؟
هذه حقوق.. هي من حقوق الإنسان الطبيعية، عمليا فإن اقتصاد السوق سلّع كل شيء، فحتى الأخلاق صارت سلعة، الماء كذلك، الهواء أيضاً فهناك فرق أسعار بين المناطق المكتظة والمناطق النظيفة، علماً أن حل الكثير من المسائل في بلدنا لا يحتاج إلى تحويل الحياة لمجموعة من «السلع»، يمكن أن يتم بأشكال أبسط مما نتوقع، فبمعدل الأجور في بلادنا كيف يمكن للمواطن أن يحصل على مسكن؟! يمكن حل هذا الأمر عندما نجعل سعر الأرض صفراً، فيبقى سعر المسكن مرتبط بسعر مواد البناء، ونوقف البيع والشراء لفترة مع قروض لفترات طويلة على أن يتم حسم 5% كقسط القرض من قيمة الراتب الحقيقي لصاحب القرض.
وبالأمر نفسه يمكننا الحديث عن التعليم فهوحق طبيعي، وممنوع أن يكون مأجوراً، فبالتعليم نؤمن قوة منتجة هائلة، وفاعليتها الاقتصادية لا تقدر بثمن، في المقابل فإننا عندما نجعل التعليم مأجوراً فإننا نقوم بخلق نخبوية بالتعليم ونحطم الأساس الذي يقوم عليه المجتمع، فعائدات التعليم بعد 25 سنة كبيرة جداً، وباعتقادي أن السبب الذي جعل سورية متقدمة هوالتعليم المجاني في مرحلة الستينيات والسبيعينيات؛ صحيح أنه ليس مثل التعليم في «هارفورد» أو«ييل»، لكن نحن إذا قمنا بتعليم الجميع فإن نسبة المتفوقين ستكون 10%، وعندما يكون التعليم نخبوياً فإن نسبة المتفوقين لن تتغير أي 10%، والنتيجة فإن التعليم المجاني في الجامعات سيعطينا نسبة متفوقين أكبر لأن عدد المتعلمين أكبر، وبالتالي نرفع أعداد النخب الفكرية والعلمية، وسورية استطاعت أن تنافس كل محيطها الذي يمتلك تعليماً خاصاً مثل لبنان والأردن بسبب مجانية التعليم الجامعي، وطبعاً الصحة حق أيضاً وينطبق عليها الكلام السابق.
كيف تنظرون إلى موضوع الضريبة؟
يجب أن تخف الضريبة المباشرة على الدخل المحدود وتزيد الضرائب المباشرة حسب شرائح الثروة، ونحن نمارس العكس فالضرائب على الدخل المحدود عالية وهي لا تميز بين الغني والفقير، وبالتالي هي غير عادلة، فالضريبة أداة اجتماعية لها محتوى سياسي اجتماعي، من هنا نرى أن ضرائبنا لا تحفز الصناعي بحيث يستطيع أن يعيد العملية الإنتاجية بشكل موسع، في الوقت الذي تحفز التاجر لأنها لا تأخذ منه شيئاً فعلياً وتسهل عليه الأمور.
بالنسبة لموضوع الاستثمار، كيف ترونه وفق التجربة السورية؟
لماذا يطرح الاستثمار الأجنبي؟ سأحاول أن أناقش هذا الأمر داخل «العقل السوري» فهولديه عقدة من الاستثمارات الخارجية ويسرع باتجاهها، وسبب هذا الأمر هوالموقع الجغرافي – السياسي لسورية الذي أنتج ريعاً هائلاً تاريخياً، فعندما كان هناك اتحاد سوفيتي ودول عربية تدعم سورية من خلال التضامن العربي ظهر مثل هذا الريع، لكن هذا الظرف انتهى وبقيت «العقدة» تجاه الاستثمارات الخارجية، فغيرنا القوانين والتشريعات وخفضنا من دور الدولة، ودخلت بعض الدول مثل تركيا وقطر في هذه اللعبة تحت وعود الاستثمار، ولكن كل الترتيبات لم تجذب الاستثمارات بل أتى «المسلحون» وأموالهم، فالحديث عن الاستشمارات الخارجية هووهم و«قبض للريح» وليس له معنى، فالاستثمار الخارجي لا يأتي إلا إذا حصل على عائدية أعلى من التي يحصل عليها في بلده، فلنسترجع حديث روكفلر مع الرئيس المصري السابق أنور السادات بعد حرب تشرين، حيث قال له الرئيس المصري وعدتمونا قبل اتفاق كامب ديفيد أن ترسلوا لنا رساميل كبيرة، فقال له روكفلر لكن الدولار ليخرج من أميركا هناك مخاطر ونحن بحاجة إلى 50 سنتاً عن كل دولار، أي يحتاج إلى إلغاء الاستقلال السياسي والاقتصادي المصري، وقروض الاستثمار تحتاج إلى ضمانات، وهي تؤدي في كثير من الأحيان إلى استياء اجتماعي لذلك بحاجة إلى دولة ضامنة وبالتالي إلى أجهزة قمع قوية، لذلك فإن «أجهزة القمع» أحياناً هي أداة ليس فقط من أجل تخديم الداخل بل من أجل تحقيق مصالح الخارج واستثماراته.
إذا استوفينا 25% من الثروة المنتجة عبر العملية الإنتاجية فإنها ستكون كافية لأية عملية تمويل استثمارية لاحقة، وسورية تاريخيا كانت قادرة على تحصيل 15% من الثروة لتجديد العملية الإنتاجية مرة ثانية، لذلك نسبة 25% منطقية بينما 10% لا تعيد إلا دورة الإنتاج البسيط، ومن تاريخ الاقتصاد العالمي فإن لحظات التوتر كانت تستدعي استيفاء نسب عالية فالصين وروسيا وصلتا إلى 40% وهي خط أحمر لأنها تؤثر على الاستهلاك المباشر وتشكل خطراً على إعادة إنتاج قوة العمل نفسها، فهذه النسبة أي 40% يمكن تحقيقها في دولة قوية تعرف ما تريد مثل الاتحاد السوفيتي الذي قام بهذا الأمر لفترة مؤقتة في الخطة الخمسية قبل الحرب عندما كان هناك خيار حدي بين الموت والحياة، أما في سورية فهي دولة «رخوة» بالمعنى الاقتصادي وليس بالمعنى الأمني وإنما بمعنى الإدارة وما تعنيه الرخوة هي عدم القدرة على تأمين المتطلبات المتنامية للمجتمع.
النموبالمزايا المطلقة
إذاً نحن بحاجة إلى 25% علماً أن حجم النهب بالحد الأدنى 30% من الدخل القومي، أي أن هذه النسبة مؤمنة إذا قضينا على الفساد، ومن هنا فإن القضاء على الفساد قضية حياة أوموت، فالبلد سيموت وينتهي اذا استمر النهب، فنحن بحاجة للاستثمار من أجل النمووهوبتعريفه جداء طرفين: التراكم والعائدية، فإذا حققنا تراكم 25% فنحن بحاجة إلى عائدية 50% لكي نحقق نمواً بين 10 إلى12%، فهل يمكن تحقيق هذه المعادلة؟ فإذا ضربنا 25% ×50%=12.5% نموفهل يمكن تحقيق عائدية 50% بسورية؟
بالتأكيد يمكننا ذلك وأكثر، لأن التجربة تقول إنه بعد حرب تشرين عندما حصلنا على أموال كثيرة وقمنا بتوظيفها بالإنتاج ارتفعت العائدية إلى 42%، بينما كانت قبل الأزمة الحالية بحدود 10% أي أن الليرة تعطي عشرة قروش، أي أننا في النهاية قادرون على تحقيق عائدية عالية. وهنا لابد من البحث أيضاً في الممكنات لسورية، فاتجاه التطورالعام فيها منذ الاستقلال اعتمد على المزايا النسبية، أي نفط فوسفات قطن الخ..، وهذه المزايا موجودة وريعية وتتحكم فيها الأسواق العالمية والبورصات، ولنفهم مسألة «المزايا النسبية» فإن أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي هواعتماده على المزايا النسبية من خلال النفط الذي ارتفع كثيراً بعد حرب تشرين، وذلك وفق خطة وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر، لكنها انخفضت لمستويات كبيرة في أواسط الثمانينيات خلال ما سمي «بحرب الأسعار، وكان الاتحاد السوفياتي يمر في مرحلة البروستريكا، وبالتالي فإن النفط كمزية نسبية ساهمت بشكل مباشر في الانهيار الاقتصادي للسوفيات.
إذا انتقلنا من المزايا النسبية لأننا استنفذناها وذهبنا إلى المزايا المطلقة التي تعني ميزة موجودة عندك وغير موجودة عند غيرك، وبامكانك التحكم بسعرها دون تدخل أحد، في سورية تشكل الأعشاب البرية الطبية مثلا ثروة وميزة مطلقة وعائدتها عالية كبيرة، فاذا تم زرعها بشكل مخطط فان العائدية تصل إلى أكثر من 200 مرة أي 20 ألف بالمائة، وسورية حسب التقديرات الاولية في كل محافظة فيها حوالي 20 ميزة مطلقة نظراً لتنوعها، وتعتبر من أغنى البلدان، وثروتها ليست بالنفط أوالقطن أوالفوسفات، سورية ثرواتها بمكان أخر، وأنا الآن أتحدث عن المستقبل وربما الأهداف المستقبلية حتى نعرف كيف نسير في هذه اللحظة، أي أننا أمام ثلاثة أمور: الأول هوالتعامل الاقتصادي خلال الأزمة، الثاني هي ما سنفعله في اليوم الأول بعد الأزمة، ونحن لا نستطيع أن نحقق هذين الأمرين إلا إذا استطعنا قراءة المستقبل أوإلى أين نتجه، وهذا هوالأمر الثالث.
ماذا بشأن القروض بعد الأزمة؟
بداية هناك تعويضات لا بد من السعي للحصول عليها من الدول التي أضرت بسورية، مثل تركيا وقطر، وبحال لم نحصل على هذه التعويضات هناك دول صديقة قادرة على منحنا قروضاً إذا غدت البنية السياسية مقبولة، وأصبح عند تلك الدول ثقة بأن الاقتصاد السوري يستطيع تحمل هذه الديون، لكن يجب أن توظف هذه القروض لإنتاج قيمة مضافة حقيقة، وبالتأكيد علينا دراسة شروط تلك القروض بحيث لا تحملنا تبعية أوتؤثر على موضوع السيادة، من الممكن أن تكون القروض من الصين التي تملك أكبر احتياطي نقدي أومن الروس أوالإيرانيين وذلك بدلاً من البنك الدولي.