الطائفية أيديولوجيا للفساد
إنّ الطائفية بمعنى التمييز بين الناس على أساس الانتماء الديني والمذهبي، اعتباراً من التمييز بالحقوق والواجبات المدنية، وصولاً إلى أقصى درجات التعصّب التي قد تصل حدّ الدعوة إلى التصفية، والسعي لتطبيقها، تعتبر وباء له خصوصيته في بلدان العالم الثالث، وذلك لكونها تعزز حالة ما قبل المواطنة في الدولة الواحدة، وتهدد وجودها ومستقبلها، علماً أن المواطنة بالمعنى المعاصر قد وضعت أسسها عملياً مع الدول الرأسمالية الناشئة في أوروبا، بعد الثورات البرجوازية الصناعية فيها.
إنّ وجود العصبيات الطائفية والقومية في المجتمعات الثالثية، ليس علّة ذاتية متأصلة في شعوبها، بقدر ما هي ناجمة عن أسباب وظروف موضوعية، عززتها تاريخياً عوامل خارجية من لدن المستعمرين، الذين حاولوا استخدامها كوسيلة لتحقيق مصالحهم عبر نوعين من الوسائل، الأولى وسائل مادية، عبر تعزيز الأساس الموضوعي لتفكك وضعف ترابط المناطق المحلية في إطار الدولة الواحدة، يعني كبح أية محاولة للتنمية الاقتصادية، وتدوير عجلة الإنتاج الرأسمالي الحقيقي، أي عبر صناعات ومنشآت كبرى، تشغل أعداداً كبيرة من اليد العاملة بشكل جماعي.
والثانية على المستوى الثقافي والتعليمي عبر تعزيز التفرقة، بجعل الاختلافات الثانوية أساسية، وطرح مفاهيم ملغومة، من قبيل «حوار الثقافات»، أو«حوار الأديان»، وما إلى ذلك... وفي الواقع فإنّ البرجوازية الثالثية التابعة للمركز الإمبريالي، سواء كانت ضمن جهاز الدولة، ما يعرف تاريخياً بالبرجوازية البيروقراطية، أوخارجه، والمعروفة بالبرجوازية الطفيلية، كلاهما تتحقق مصلحته بإخضاع الطبقات الفقيرة لهيمنتها السياسية والاقتصادية، ولتحقيق ذلك لا بدّ من فرض هيمنتها الفكرية والإيديولوجية بالتوازي، وبما أنّ الطائفية باتت أحد الأشكال الخاصة للإيديولوجية البرجوازية في العالم الثالث، فإنّ هذه الطبقة تفرض أيديولوجيتها على الطبقات المستَغلّة والفقيرة، والتي تعاكس مصلحتها ولا تعود بالفائدة إلا على أبناء الطبقة البرجوازية، لتفيدهم في تكريس سلطتهم، وضمان التصويت للسياسيين الذين يقدمونهم على أساس الانتماء الطائفي، على مبدأ أمراء الطوائف.
وتكمن المشكلة في الدور الرجعي لهذه البرجوازيات الثالثية، على عكس البرجوازيات الكبرى الصاعدة بعد تشكل الدول الرأسمالية الأوروبية والغربية، التي كانت تجري فيها عملية موضوعية، يقتضيها سير عملية الإنتاج، وهي إدماج القوميات والطوائف والأديان المختلفة في إطار عملية الإنتاج، فالمنشآت الصناعية الكبرى، والتي تضم عدداً كبيراً من العمال والموظّفين، والتشابك الكبير بين المناطق عبر وسائل المواصلات والاتصالات، ينحوباستمرار نحوإضعاف الانتماءات الضيقة والمحلية، من قومية وطائفية وغيرها، لمصلحة تقوية الانتماء الوطني والطبقي، وما يعكسه بالتالي من وعي وحدة الحال الطبقية لأبناء الطبقة الواحدة، هذا الوعي الذي يشكل بالوقت نفسه خطراً على تلك المنظومة الرأسمالية من علاقات الإنتاج التي أنتجته بالذات.
المشروع الوحيد للبرجوازية السورية
فيما يخصّ الأزمة السورية، تنطبق الحالة العامة لدول العالم الثالث من حيث كون الطائفية إيديولوجيا أساسية للبرجوازية السورية، وخاصة البرجوازية الكبرى، التي تشكل الحامل الطبقي الحقيقي للفساد الكبير، وممارساته المعادية للشعب. وما يجعل المشروع الطائفي المشروع الوحيد للبرجوازية السورية، هوأنّه أيضاً المشروع الوحيد لقوى الرأسمال الإمبريالي العالمي، أي للولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوروبي والصهيونية، لأنّ مصالحهم الاستراتيجية الجيوسياسية لا يمكن أن تتحقق في هذه المرحلة التاريخية من طور تراجعهم وتفاقم أزمتهم الاقتصادية الداخلية إلا عبر كبح وضرب المنافسين العالميين لهم، وأهمهم دول «البريكس» الصاعدة رأسمالياً، التي ليس من مصلحتها بالمقابل أن تخرج سورية من أزمتها مقسّمة.
إنّ للمشروع الطائفي في سورية أشكالاً وتفاصيل عدة، وسنجد من يطرحه ويحاول الضغط باتجاهه على طاولة الحوار، تحت مسميات عدة، من بينها شعار «الديمقراطية»، وتعايش «مكونات» المجتمع، وما إلى ذلك.. ويجب التنبّه إلى أنّ للمشروع تفاصيل يكون موجوداً في مضمونها بشكل غير صريح، فمثلاً أي شكل لقانون الانتخابات، لا تكون فيه البلاد دائرة واحدة، مع اعتماد النسبية، إنما هوقانونٌ يميل إلى الطائفية، في خصوصية الوضع السوري. ومن الأشكال الضمنية للمشروع الطائفي اقتصادياً، نهج اقتصاد السوق الحرّ، أو«اقتصاد السوق الاجتماعي»، الذي تمّ تطبيقه في سورية قبل الأزمة، وما زالت القوى الطبقية الحاملة له مصرّة على طرحه رغم استنفاده صلاحيته التاريخية، وهومشروع طائفي لأنّه يخلق على أرض الواقع تلك النتائج الاقتصادية الاجتماعية المدمّرة للقوى المنتجة، والمولّدة للفقر والبطالة، وبالتالي للتخلّف، أي لتلك العوامل الاجتماعية الخصبة تماماً لاستشراء الإيديولوجيا الطائفية بين أبناء الطبقات الفقيرة والمهمشة. لذلك تنتصب أمام القوى الوطنية والطبقية المنحازة لمصلحة الأغلبية الشعبية الفقيرة في سورية اليوم، ونحن على أبواب قاعة الحوار، مسؤولية كبرى، وهي إعداد العدّة، ليس لمقاومة المشروع الطائفي فقط، بل ولمهاجمته وتعريته أمام أبناء الشعب، وطرح المشروع الوطني البديل، الذي يضمن وحدة سورية جغرافياً واجتماعياً، عبر تحقيق المتطلبات المادّية لهذه الوحدة، بالدفاع عن مشروع سياسي متكامل، بأهداف ووسائل واضحة وواقعية تنقل سورية إلى النموالاقتصادي العالي والعدالة الاجتماعية العميقة، والتحرير وتعزيز السيادة الوطنية.