سورية والصراع التاريخي بين مشروعين

كانت السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر سنوات ولادة وتبلور الفصائل الأولى والبدائية لحركة التحرر الوطني السورية ضد الاستبداد التركي، وبحكم اكتمال مقومات تشكل الأزمة في سورية ولبنان والبلدان المحيطة بها، ووقوع المنطقة على مفارق طرق التجارة العالمية وارتباط الحكم التركي بالرأسمال الأجنبي، وظهور فئة البرجوازية الوطنية في المنطقة.

 

إن هذه المنطقة شكلت تاريخياً وحدة اقتصادية محدودة في المناطق الواقعة تحت السيطرة التركية من حدود مناطق كردستان والأناضول شمالاً قرب البحر الأسود حتى حدود سرية والعراق الطبيعية جنوباً قرب ىالجزيرة العربية على أسس صلاة التقاليد والعلاقات الاقتصادية الاجتماعية، وظهرت هذه المنطقة وسورية على وجه التحديد بوجهها الوطني تناضل ضد الاحتلال التركي والاستعماري. لذلك وبحكم وتأثير هذه العوامل السابقة برز في سورية مشروعان سياسيان، وخاصة في فترة الاحتلال الفرنسي.

تبلور الوطني واللاوطني!

خلال سنوات 1918 ــ 1920 تم تقسيم أراضي سورية الطبيعية إلى مناطق ودويلات صغيرة تبعاً لسماتها الدينية والإثنية كالتالي: «الحكم الذاتي في جبال العلويين، الحكم الذاتي لإسكندرون، دولة حلب، دولة جبل الدروز، دولة دمشق، محاولة إنشاء حكم ذاتي في الجزيرة، دولة لبنان الكبير..». وكان مشروع تقسيم سورية استمراراً للمخطط الإمبريالي لتقسيم المنطقة، ومحاور النفوذ في العالم، واعتمدت على سياسة بث التفرقة القومية والدينية التي ساعت الإمبرياليين الفرنسيين في تحقيق سيطرتهم على سورية، وقد صرح أحد قادتها وهو الجنرال دي جوفنيل بأن وجود فرنسا في سورية ضروري لإنها مكونة من 29 عرقاً، ولكي تنقذ سورية من الخلافات الداخلية «بيان الجنرال دي جوفنيل في الديلي تلغراف بتاريخ 25/11/1925». وشكل مخطط التقسيم الفرنسي الأرضية والأساس للمشروع اللاوطني التفتيتي، والذي كان أبطاله ملوك الطوائف والاثنيات والقوميات أي الزعامات التقليدية للطبقات الإقطاعية، والبرجوازية الأكثر إغراقاً في الرجعية. في مواجهة هذا المشروع اللاوطني، وعلى امتداد تراب سورية الوطني انفجرت الانتفاضات الفلاحية والمعارك الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي تنادي بوحدة سورية واستقلالها في دمشق وغوطتيها، والجولان، وحوران، وحماة، والجزيرة والفرات، وجبل الأكراد، وجبل الزاوية، وحلب والساحل السوري، والتي قادها أبطال وطنيون أمثال: يوسف العظيمة وإبراهيم هنانو ومحو إيبو شاشو وسلطان باشا الأطرش وصالح العلي وفوزي القاوقجي وأحمد مريود وسعيد دقوري ورمضان شلاش وغيرهم دفاعاً عن وحدة البلاد واستقلالها، وفي خضم معارك النضال الوطني ضد المستعمر تبلورت القوى الديمقراطية المختلفة والتي تمثل مختلف الطبقات، فكان ظهور الحزب الشيوعي، ونقابات العمال عن الطبقة العاملة، والكتلة الوطنية عن البرجوازية الوطنية، والتشكيلات السياسية والثقافية للبرجوزاية الصغيرة مثل مجموعات: سبارتاك ــ خويبون ــ عصبة العمل القومي ــ الحركات القومية التي نادت بالاشتراكية، وبداية تشكّل اللبنات الأولى الجيش الوطني، كل تلك النضالات شكلت عصب المشروع الوطني الذي توج أخيراً بجلاء آخر جندي فرنسي عن أرض الوطن ليكون عيد الجلاء في 17 نيسان 1946.

الخط البياني للصراع التاريخي بين المشروعين؟

طوال تاريخ سورية السياسي الذي هو في المحصلة تاريخ نضال الطبقات في سورية كان المشروعان الوطني واللاوطني التفتيتي في صراع مستمر، وكلاهما يعبران عن نفسهما عبر ممثلين، فالمشروع اللاوطني حمل دائماً مصالح الطبقات الرجعية، وكان دائماً جسور عبور للغزو الأجنبي ومحاولاته المستمرة، في حين كان المشروع الوطني يأتي دائماً بالتوازي ليحمل الجديد الثوري للجماهير الشعبية في المجتمع بعد الاستقلال، وخلال فترة الانقلابات العسكرية والعهد الديمقراطي الوطني، والوحدة السورية المصرية والانفصال، وطوال حكم حزب البعث، وممثلو هذين المشروعين متواجدون دائماً في جهاز الدولة، وفي المجتمع على طول خط الصراع، ولكن هذا الصراع كان خافتاً أو ساكناً نتيجة الركود في العمل السياسي والانتكاسة والتراجع في الحركة الثورية العالمية، وانهيار الاتحاد السوفييتي، أما اليوم ومع انفجار الأزمة في سورية منذ عامين ظهر إلى السطح مرة أخرى الصراع التاريخي بين المشروعين، وزادت ناره استعاراً، وارتفع ضجيجه كثيراً، وظهر اللاوطنيون الذين يحملون مشروعهم التفتيتي لسورية على أساس طائفي وعرقي، وأبطاله مرة أخرى ملوك الطوائف والزعامات التقليدية، كما ظهر الوطنيون منادين بوحدة البلاد واستقلالها، ورفض محاولات الغزو القرووسطية.

اليوم الصراع التاريخي يتم بين المشروعين: المشروع الوطني المنادي بوحدة البلاد لكادحيها والتغيير الوطني الديمقراطي السلمي في البلاد، ورفض التدخلات الخارجية المختلفة، والمشروع اللاوطني التفتيتي الممانع للتغيير والتطور الطبيعي في البلاد، وممثلوه من قوى الفساد والليبرالية، وملوك الطوائف.. هذا الصراع يدور رحاه بأشكال مختلفة، ويعبر عنه بطرق مختلفة وقد وصل لمرحلة انعطافية عشية الحوار.

إن قضية وحدة البلاد، والحفاظ على استقلاله، وبناء نظام يضمن العدالة الاجتماعية ومنسوب عال من الحريات السياسية، وتحرير الأراضي المحتلة هو ما سيحمله المشروع الوطني للبلاد في صراعه مع المشروع اللاوطني، هذا الصراع الدائر حالياً في المجتمع وفي جهاز الدولة. إن القضية الأهم أمام الثوريين اليوم أن عليهم أن يجمّعوا قواهم، لأنهم وحدهم يحافظون على وحدة بلادهم في وجه المشروع اللاوطني اليوم، والآن وبعد أسابيع نحن مقدمون على الذكرى السابعة والستين للجلاء المجيد، فإما أن نكون ثوريين ونحمل مشروعنا الوطني أو لا نكون.

 

آخر تعديل على الأربعاء, 18 أيار 2016 23:34