الثورة وشروطها

عامان كاملان انقضيا على انطلاق الموجة الأولى من الحراك الشعبي السلمي الجديد في سورية، والذي سرعان ما تلاه سريعاً، وبشكل مقصود ومنهجي تصعيد العنف ضدّه وضدّ كلّ مكتسبات الشعب التاريخية الماضية، وأسس مكتسباته اللاحقة، من مؤسسات دولة، وعوامل القوة والوحدة الوطنية، وعلى رأسها القطاع العامّ، والجيش العربي السوري، من خلال ممارسات الأعداء الطبقيين من قوى الفساد العالمي الإمبريالي وأتباعها السوريين وغير السوريين، بمختلف مواقعهم الجغرافية والسياسية، في الداخل والخارج، في قوى الفساد الكبير بصفوف النظام، والأندية اللاوطنية في المعارضة. واليوم لا بدّ من وقفة، ليس لتقييم الحراك الشعبي ونقد أخطائه التي جرّه إليها الطرفان من تسلّح وطائفية، فقد ناقشنا هذا الموضوع سابقاً، بل لنقد علمي للخرافات الإعلامية التي ما يزال يسوّقها إعلام البترودولار من جهة، والمعروف بعمالته التاريخية للأمريكان والغرب، ومشروعه لإحراق سورية من الداخل، وإجهاض أية إمكانية لتطور تقدمي فيها عبر الإصرار على توصيف الفوضى ودعمها على أنها ثورة، سعياً لإجهاض استباقي للثورة الحقيقية القادمة، إضافة إلى أجزاء من الإعلام المحلي الرسمي وشبه الرسمي عبر توصيف كلّ ما يحدث بأنّه فقط إرهاب، مع استخدام سطحي لمفهوم المؤامرة، والذي بغض النظر عن النوايا، إنما يصبّ في نفس المسعى، أي الإجهاض الاستباقي للثورة القادمة.

 

الثورة الاجتماعية هي تغيير جذري للعلاقات الطبقية في المجتمع بدءاً من علاقات الإنتاج الاقتصادية، ونمط توزيع الثروة، وصولاً إلى تغيير المنظومة الثقافية والفكرية، ودافعها ومحركها هو التناقض التناحري في المصالح بين طبقتين رئيسيتين في المجتمع، الطبقة المنتجة للخيرات المادية، مقابل الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، والثانية تستأثر بمعظم الإنتاج والثروة لنفسها، رغم قلة عددها وعدم مشاركتها في العمل، مقارنة بالطبقة الأولى الأكبر عددياً، والتي تنتج تلك الثروة بعملها، ولا تحصل سوى على جزء قليل منها رغم ذلك.

وللثورة شروط ثلاثة ضرورية، لا تكون ناجزة وحقيقية سوى باجتماعها معاً:

- فوق لم يعد يستطيع أن يَحكُم بالطريقة السابقة.

- تحت لم يعد يَرضى أن يُحكَم بالطريقة السابقة.

- تنظيم عالي للجماهير.

في الشرطين الأول والثاني يغلب العامل الموضوعي على الذاتي، أي أنّ الغياب المزمن للعدالة الاجتماعية، وإفقار الطبقات الكادحة، عبر منظومة النهب، وهي في عصرنا منظومة نهب رأسمالي إمبريالي، تخلق بشكل موضوعي ضعف هيمنة الطبقة المالكة ونفوذها في جهاز الدولة، من ناحية القدرة على استمرار فرض مصالحها، وتحقيق أهدافها المطلوبة، من حيث مستويات الربح، وتأمين الحد الأدنى من الرضى لدى المحكومين. كما وتخلق الاحتقان والضيق لدى المحكومين إزاء كل المنظومة التي بلغت حدّاً توقف عنده أي نمو وتطور لهم بالمعنى الأوسع، مادياً وفكرياً، مما يدفعهم للاحتجاج على تدهور أوضاعهم، والذي يأخذ دائماً في البداية أشكالاً غير منظمة، ومشتتة، وقليلة الوعي بمصالحها الجذرية، وهي التي تسمى بالحركة الشعبية العفوية، والتي تخطئ وتصيب، وتتعلم من تجربتها، قبل أن تتحوّل إلى حركة سياسية أكثر وعياً وتنظيماً، وتفرز أحزابها وقياداتها السياسية، وتصبح حركة ثورية فقط عندما تستطيع أن تخوض نضالاً سياسياً عالي المستوى والتنظيم بحيث يؤثّر في ميزان القوى الطبقي ويقلبه لمصلحة الطبقة المستغَلة، وتهدم علاقات الإنتاج القديمة وتبني علاقات جديدة تحقق مصالحها.

في سورية الشرطين الأول والثاني محققان، ولكنّهما غير كافيان لثورة اجتماعية حقيقية دون وجود تنظيم عالي وواعي للجماهير الشعبية صاحبة المصلحة في الانتقال إلى نظام سياسي اقتصادي-اجتماعي أكثر عدالة، والذي لمدى عدالته مقياس موضوعي، وليس مجرد عبارات فارغة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والثورة، هذا المقياس هو تغيير نمط توزيع الثروة في المجتمع لصالح الفقراء. نمط توزيع الثروة الحالي في سورية حسب دراسات اقتصادية يشير إلى أنّ الأغلبية الطبقية الكادحة من الشعب السوري تحصل على نحو 25% من الثروة، في حين تحصل حفنة من كبار الفاسدين على 75% من الثروة. ومن هنا يمكن قياس مدى ثورية أية قوة سياسية مهما كان مسمّاها، ويافطتها، وشعاراتها، نظامية، معارضة، موالية، حيادية...إلخ. ولكنّ مع الانتباه لأنّ هذا المعيار الاقتصادي-الاجتماعي لا يمكن فصله عن المعايير الوطنية والديمقراطية. إذ لا يمكن أن يكون طرح حزب سياسي ما ثورياً حقيقياً في توزيع الثروة لمصلحة الكادحين، دون أن يتضمّن برنامجه وعمله على أهداف وأدوات جدّية في حماية الأمن القومي لوطن الكادحين، أي وضوح الموقف من قضية تحرير الأراضي السورية والعربية المحتلة من الاحتلال الصهيوني - الإمبريالي عبر المقاومة الشعبية الشاملة بجميع الوسائل الممكنة بما فيها المسلحة. كما لا يمكن أن يكون ثورياً حقيقياً من يعمل على الشكل الطائفي والتفتيتي من «الديمقراطية».

في تجربة الأزمة السورية، وبعد الخسائر الكبيرة بشرياً ومادياً للشعب السوري، لا يمكن أن يكون وطنياً، قبل أن يكون ثورياً، من لا يبادر ويعمل على المساهمة في الحلّ السلمي للأزمة من أجل الخروج الآمن منها، وأقرب استحقاقاته اليوم هو الإسراع بالجلوس إلى طاولة الحوار السوري- السوري دون شروط مسبقة وعلى أسس مبدئية من رفض التدخلّ الخارجي بالقضايا السيادية، وإيقاف العنف ونزيف الدم السوري.

 

آخر تعديل على الأربعاء, 18 أيار 2016 23:33