اكتشاف مجرّات أقدم مِن «التكوين» المؤرَّخ في «سِفْر الانفجار العظيم»
إيريك ليرنر إيريك ليرنر

اكتشاف مجرّات أقدم مِن «التكوين» المؤرَّخ في «سِفْر الانفجار العظيم»

ما زالت صور تلسكوب «جيمس ويب» الذي أطلقتْه ناسا أواخر 2021 تثير دهشة علماء الكونيّات السائدة، ولعلّ أهمّ اكتشافاته حتى الآن هو ذاك المنشور في مجلة الطبيعة Nature أواخر شباط 2023؛ حيث أظهر 6 مجرّات كانت ناضجة وضخمة قبل نحو 13.2 مليار سنة، ما يعني أنّ الزمن الضروري لتطوّرها، وصولاً لتلك الدرجة من النضج، أطول مما تسمح به الأطر النظرية الأسيرة للـ Big Bang الذي يَفرِضُ على الكون (اللانهائي زماناً ومكاناً) بدايةً مزعومة قبل 13.8 مليار سنة. قلّة من العلماء لم يتفاجأوا بالاكتشاف الجديد، بل وتنبّأ به أحدهم (الفيزيائي الأمريكي إيريك ليرنر الذي يهتدي بالمنهج الماركسي). ولذلك يستحق الموضوع إعادة الإضاءة عليه لأهمّيته التي تتجاوز الاكتشاف بحدّ ذاته؛ فيؤكِّد مجدّداً أنّه «ينتصر في نهاية المطاف مَن ينتصر معرفيّاً».

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

علّق عالِم الفلك جويل ليجا من جامعة ولاية بنسلفانيا، وهو أحد المشاركين باكتشاف المجرّات الستّة المذكورة، بأنّ تلسكوب جيمس ويب «أسفَرَ عن أشياء لم تكن في خاطرنا، كاكتشافه تلك المجرّات الكونية المُتخَمة بالنجوم في الوقت الذي لم يكن من المفترض فيه أن تظهر أيٌّ منها على هذا النحو!»، ووصفها بـ«محطِّمات الكون». كما أنّ عدّة أنصار مشهورين بترويجهم للـ«بيغ بانغ» أقرّوا بأنّ الاكتشاف «قلَبَ الطاولة وعلينا إعادة التفكير وإعادة كتابة الكتب» (تصريح ميشيو كاكو لقناة NBC الأمريكية).
قبل نحو أسبوعين علّق إيريك ليرنر Eric Lerner على وصف «محطّمات الكون» الذي أطلقه «جويل ليجا»، بالقول: «لا داعي للقلق، فالكون لن يتضرّر ببضع صور جديدة، بل الأحرى أنّ توصف هذه المجرّات بأنها محطِّمات النظرية Theory Breakers لأنها تكيل ضرباتٍ كبيرة جديدة للنظرية السائدة لتطوّر الكون- الانفجار العظيم».
ويتابع ليرنر: «لم أكن أنا ولا زميلي الدكتور ريكاردو سكاربا متفاجئَين على الإطلاق من اكتشاف هذه المجرّات، لأنه سبق لنا في شهر حزيران من العام الماضي أنْ توقّعنا في ورقة بحثية مشتركة نُشرت على الإنترنت أنّ مثل هذه المجرّات بالضبط سيتم اكتشافها بواسطة تلسكوب جيمس ويب JWST [آنذاك غطّت الصفحة العلمية في «قاسيون» تنبّؤات ليرنر وزميله عبر مقالها في 17 تموز 2022 بعنوان: «صور تلسكوب جيمس ويب: هل ستفاقم أزمة الانفجار العظيم؟»]. إنّ السبب في تفاجُؤ معظم علماء الكونيات بهذه المجرّات هو أنها بدت شبيهة جداً بالمجرّات التي نراها حولنا في منطقتنا من الكون، وفي الواقع شبيهة إلى حد ما بالمجرّة التي نعيش فيها- درب التبانة».
ولعلّ الشيء الذي أثار الجدل أكثر؛ ملاحظة أنّ هذه المجرات تعود إلى 600 مليون سنة فقط بعد «لحظة الولادة» المفترضة للكون، أي بعد 3% فقط من العمر الحالي المفترض له (المقدّر وفقاً لهم بنحو 13.8 مليار سنة)، والتناقض الذي حيّرهم هو أنّه رغم كون المجرّات مغرِقةً في القِدَم بهذا العمر غير المسبوق رصْدُه، وأنها وُجدت بالتالي فيما يفترضون أنه «كون باكر صغير» آنذاك، لكنها كانت مجرّات كبيرة ناضجة؛ بكتلة تماثل مجرّتنا درب التبانة، مما يعني أنّها احتاجت وقتاً لكي تتطوّر لهذا النضج أطول مما تسمح به نظرياتهم المقيَّدة في إطار «الانفجار العظيم».

علاقة «لون» المجرّة بعمرها

المسألة الأسوأ من ذلك بالنسبة لهم كانت: كيف تظهر هذه المجرّات «ملوّنة» هكذا؟! ولتقريب هذه النقطة من الفهم، يشرح لنا إيريك ليرنر:
مثلما يمكنك الحكم على عمر الإنسان من خلال مظهره، يمكن الحكم على عمر النجوم في مجرّة ما من «ألوانها» المرصودة. ففي تلك الفترة التي يفترضون أنها «باكرة جداً» من «عمر الكون»، توقّع أنصار «الانفجار العظيم» العثور على «مجرّات فتيّة» أو «طفلة» ذات لون أزرق بنفسجي شديد، بل وحتى أن تتوهج في طيف الأشعة فوق البنفسجية، لكنهم تفاجأوا بأنها متوهّجة باللونين الأصفر والأخضر تماماً مثل مظهر مجرتنا درب التبانة التي تحوي شمسنا، وهذا يعني بأنّ التجمّعات النجمية في هذه المجرات لمليارات السنين كانت ثلاثة أضعاف «عمر الكون» المفترض بحسب «الانفجار العظيم» في هذا الوقت، يا لدهشتهم! بمعنى أنه إذا كان لديك مجرّات يبلغ عمرها مليارَي سنة منذ تشكّلت في الكون وأنها بدأت تتشكل بعد 600 مليون سنة من اللحظة المفترضة «للانفجار العظيم»، فهذا يعني أنها موجودة «قبل وجود الكون» المؤرَّخ في نظريتهم! مما يؤدي إلى تحطيم النظرية حقّاً، فالانفجار العظيم لم يحدث في الواقع، ولهذا السبب أثار هذا الاكتشاف للمجرّات الجديدة جدلاً وخلافاً كبيراً.
ويتابع ليرنر: دعوني أشرح لكم لماذا يمكن للعلماء أن يكونوا واثقين جداً بأنّ لون المجرّات يتوافق مع عمرها. إنّ لديهم حقاً فهماً جيداً لكيفية إنتاج النجوم للطاقة وتطوّرها؛ استناداً إلى معرفتنا بتفاعلات الاندماج النووي التي تمدّ شمسنا وجميع النجوم التي نعرفها بالطاقة، فلقد أجرينا عدداً كبيراً من التجارب على التفاعلات النووية في المختبر... وكلما زاد حجم النجم وكتلته زادت سخونته الداخلية وزادت سرعة حرق وقوده. لذا ستكون هذه النجوم الكبيرة مشرقة جداً ولكنها ستحترق مستنفدةً وقودها وتختفي من الوجود إمّا على شكلِ مستَعِرٍ أعظم «سوبرنوفا» أو كأقزام بيضاء، خلال عشرات أو مئات وملايين السنين، وليس مليارات السنين التي يستمر فيها نجم متوسط الحجم كشمسنا. وبما أنّ المجرّات تبدأ حياتها بمزيج من النجوم الكبيرة والصغيرة، فسوف يهيمن على المجرّات الفتيّة ضوء نجومها الكبيرة سريعة الاحتراق طاغياً على ضوء نجومها الصغيرة.
ومعرفة العلماء الأدقّ بأنّ درجة حرارة جسم ما مرتبطة بلونه، ناجمة عن المعرفة بالقوانين الأساسية للديناميكا الحرارية (الثرموديناميك) التي اكتُشِفتْ في نهاية القرن التاسع عشر؛ فكلما كان الجسم أسخن كان لونه أكثر زرقةً، ويبدو ذلك في مجرّة شابّة تهيمن عليها نجمات فتيّة؛ حيث يهيمن الضوء في الجزء فوق البنفسجي من الطيف، ولا يمكن لعيوننا البشريّة رؤيته ولكن يمكن لأدواتنا رصده. وهكذا انتقالاً للجزء الأزرق من الطيف ثم مروراً بالأخضر الأصفر، وفي مجرّة يبلغ عمرها مليارَي سنة تصير النجوم المتبقية، الأصغر والأقدم والأكثر برودة، مشعّةً في الجزء الأحمر من الطيف، إذ تكون النجوم فوق البنفسجية قد أحرقت نفسها بالفعل وتحوَّلتْ إلى رماد.

احتضار النموذج النظري السائد

شكّلت الاكتشافات الجديدة صدمةً كبيرة لأنصار «الانفجار العظيم» الذين لا يزال الكثير منهم متمسّكين به و«بالتوسع الكوني» من باب ردّة الفعل، ويحاولون الحفاظ على النظرية من خلال التخلّص من جزئها المنطوي على الفهم التفصيلي الحالي لها؛ الذي يسمّونه نموذج «لامدا للمادة المظلمة الباردة» LCDM وهو النموذج الذي ربما سمعتم عنه إلى جانب مصطلحات مكرورة مثل «الطاقة المظلمة» و«المادة المظلمة» وما إلى ذلك... هكذا يحاول بعض العلماء طرح بعض الفرضيات سعياً وراء إصدار جديد من «الانفجار العظيم» يتجنّب التعارض مع الملاحظات التجريبية الرصديّة الجديدة. حسناً، أقول لكم إنّ مسعاهم هذا محكومٌ بالفشل؛ لأنّ هذه الأرصاد الجديدة قد وُضعَت في سياق جميع الملاحظات التي ناقشناها بالفعل حول تناقضات تنبؤات الانفجار العظيم، وتستبعد إلى حد كبير أيّ نظرية بدأ فيها الكون قبل نحو 13 مليار سنة في حالة متوتّرة وساخنة.

«القصور الذاتي» للنَّظرة المهيمنة

يعتقد إيريك ليرنر بأنّ بعض هؤلاء العلماء قد توصّلوا بالفعل في قرارة أنفسهم إلى هذه الاستنتاجات لكنهم ليسوا على استعداد للاعتراف بالحقيقة في الوقت الرّاهن:
ما الذي يقصده الدكتور ليجا بالمجرّات «المحطّمة للكون»؟ إنه بالتأكيد لا يتحدث عن «المادة المظلمة» أو تحطيم «الطاقة المظلمة»، إنه يتحدث عن شيء يمثل تحدّياً للنظرية السائدة لتطور الكون، وأظن الآن أنّ عدداً صغيراً من العلماء، حتى الآن، قالوا علناً إنّ صور تلسكوب جيمس ويب تدحض نموذج الكون المتوسِّع، ولكنَّ عددهم يتزايد مرة أخرى. في كانون الأول 2022، نشر الدكتور نيكيتا لوف ياجان وزملاؤه في مجلة «المجرّات» galaxies العِلمية المحكّمة، تحليلاً مشابهاً جداً للتحليل الذي أجريته أنا (إيريك ليرنر) والدكتور سكاربا لأحجام صور المجرات في بيانات تلسكوب جيمس ويب، وقاموا بالمقارنة الأساسية نفسها لهذه الأحجام مع التنبؤات الواهمة المستندة إلى «الانفجار العظيم» بأنّ المجرات يجب أن «تنمو» في الحجم الظاهري مع المسافة بدلاً من أن تنكمش، وقد توصلوا إلى الاستنتاج الدقيق نفسه بأنّ هذه البيانات كانت – وأقتبس كلماتهم – «غير متوافقة مع تنبؤات نموذج الكون المتوسع»، لذلك نعتقد أن هذا النقاش سوف يتطور بسرعة كبيرة حيث تتوارد المزيد من البيانات من تلسكوب جيمس ويب.
ويختم ليرنر تعليقاته بالقول: الاستنتاج الحقيقي الذي نستخلصه من الاكتشاف الجديد لهذه المجرّات الستّة هو أنّ الكون على ما يرام، لكن نظرية «الانفجار العظيم» هي التي تحطّمت وماتت بفضل ما كشفته الأرصاد الجديدة للتلسكوب، فترقّبوا المزيد من التطوّرات!

مقالات ذات صلة:

«الانفجار العظيم» سائراً على «جِسر دوهرنغ»
صور تلسكوب جيمس ويب: هل ستفاقم أزمة «الانفجار العظيم»؟
رقَّاص السّاعة الكونيّ وأزمة «الانفجار العظيم»
«الانفجار العظيم» على «الأرض الثابتة»..!
كتاب جديد: «مقاربة ديالكتيكية للتنظيم الذاتي للمادّة وتطوّرِها المجهري والكبير»
«الثقوب السوداء»... وتشويه تاريخ الزمن (1)
«الثقوب السوداء»... وتشويه تاريخ الزمن (2)
وجدتها: الأصولية والثقوب السوداء

معلومات إضافية

العدد رقم:
1125
آخر تعديل على الإثنين, 05 حزيران/يونيو 2023 10:41