«الانفجار العظيم» سائراً على «جِسر دوهرنغ»

«الانفجار العظيم» سائراً على «جِسر دوهرنغ»

يذكر فريدريك إنجلس في التمهيد لكتابه ضدّ دوهرنغ (1878) بأنه «لا يمكن التوصُّل إلى صورة دقيقة عن الكون وتطوُّره وعن تطور البشرية وكذلك عن انعكاس ذلك التطور في أذهان الناس إلا بالطريق الديالكتيكي، بالانتباه المستمر للتأثير المتبادل العام بين النشوء والزوال، بين التغيُّرات التقدُّمية والتغيرات الرَّجعية». ومن النقاط التي تثير اهتماماً معاصراً مجادلة إنجلس ضدّ دوهرنغ بشأن تفسير الأخير «لنشأة» مزعومة للكون عبر ولادة غامضة «للحركة» من «السكون» المطلق، حيث يشكل هذا المنهج الدوهرنغي في كثير من الأحيان الأساس الفلسفي المثالي نفسه للمدافعين عن «الانفجار العظيم»، ومحاولات تلفيق وابتكار شتى «الجسور» الخيالية لتجاوز الهوة بين حالة سكون مطلق بدئية «قبل ولادة الزمن» وحركة «ولادة» أو «انفجار» الكون والزمان التالية لها المفترضة من «النقطة السحرية» الساكنة.

يجدر بالذكر بدايةً بأنّ إنجلس استخدم أكثر من مرة في مؤلّفه مصطلح «نشأة الكون» وبالتحديد كلمة «كوزموغونيا» Cosmogony وحتى في عنوان الفصل السادس من القسم الأول من كتابه حيث جاء (الفلسفة الطبيعية. مبحث نشأة الكون والفيزياء والكيمياء). ولأول وهلة قد يتبادر خطأ للقارئ بأنّ إنجلس باستعماله هذا المصطلح «يوافق ضمنياً» على أنّ للكون «بداية» ينشأ منها. لكن بمزيد من التمعن نجد أنّه فـي زمن إنجلس كان مصطلح «كوزموغونيا» أكثر شيوعاً مما هو عليه اليوم، وهو مبحث تناول كثيراً مما تبحث «الكوزمولوجيا» اليوم؛ «الكونيّات» Cosmology. ورغم أنّ كلمة «كوزموغونيا» تعني حرفياً «نشوء الكون» (من الكلمتين اليونانيَّتين «kosmos» «كَون» + «gonia» «ولادة» أو «نشوء»)، ولكن معناها العلمي الذي قصده إنجلس، كما يُستَنتَج من الفصل ذي الصلة من «ضدّ دوهرنغ» وكذلك من مخطوط إنجلس «ديالكتيك الطبيعة»، هو: علم نشوء وتطوّر وزوال الأجرام والمنظومات الكونية بوصفها أجزاء من الكون اللامتناهي مكانياً وزمانياً (الأزلي والأبدي)، وذلك تماشياً مع قانون انحفاظ المادّة والطاقة، ومع الاتجاه المادي-الديالكتيكي في الفلك والكونيات. وفي الحقيقة سيذكر إنجلس في الفصل نفسه مقطعاً في غاية الأهمية يقطع أيّ شكّ في إصراره على أزلية وأبدية المادّة والكون، حيث يشدّد على ما يلي: «إذا كانت كرة كانط السديمية تسمى في العِلم الطبيعي الحديث السديم الأوَّلي، فمن البدهي أنّ هذا يجب فهمُه فقط بشكل نسبي. فهذا السديم يعتبر أوّلياً، بوصفه، من جهة، بدايةً للأجرام السماوية الموجودة، ولأنه من جهة ثانية، الشكل الأبكر للمادّة الذي استطعنا حتى الآن الرجوع إليه. وهذا لا يلغي على الإطلاق، بل يتطلّب افتراضَ أنّ المادّة قبل هذا السديم الأوّلي مرّت عبر سلسلة لا نهائية من الأشكال الأخرى».

«كوزموغونيا» الانفجار العظيم

هكذا نجد أنّ البحث غير العلمي فيما يسمى «نشوء الكون كلّه» بمعنى «خلقه» أو «إنشائه من العدم»، هو الاتجاه الذي ساد في الكوزموغونيا/الكوزمولوجيا المثالية خلال الثلث الأخير من القرن العشرين تقريباً وحتى اليوم، تحت ما يسمى «نظرية الانفجار العظيم» التي تزعم أنّ: للكون والمادة والزمان والمكان «بداية» من «نقطة» عجيبة واحدة ووحيدة شديدة الحرارة والكثافة والضغط «انفجرت» قبل نحو 13.8 مليار سنة و«انتفخت» و«توسّعت» لتعطي الكون الذي ما زال «يتوسَّع»، وذلك استناداً إلى تفسيراتهم الخاصة لظواهر مادية مرصودة بالفعل مثل «انزياح الطيف نحو الأحمر» وغيرها.

«جسر» دوهرنغ لتفسير «ما قبل» الانفجار

من الجدير بالاهتمام ملاحظة التشابه بين كثير من محاججات أنصار «الانفجار العظيم» ومحاججات دوهرنغ حول انتقال عجائبي غامض من «السكون البدئي» إلى الحركة عبر تلفيق «جسر» ما لتفسير هذا الانتقال. وفي بقية هذه الفقرة سنقتبس الجزء ذا الصلة من الجدال بين إنجلس ودوهرنغ بهذا الخصوص.
حيث إنّ إنجلس يعلّق على افتراض دوهرنغ لحالة بدئية سمّاها «القوة الميكانيكية المساوية لنفسها». ليرد إنجلس متسائلاً: «أين، يا سيد دوهرنغ، كانت حينئذٍ القوة الميكانيكية المساوية لنفسها دائماً، وماذا حَرَّكَتْ؟» ثم يقتبس جواب دوهرنغ: «إنَّ الحالةَ الأولى للكون، أو إذا عبَّرنا بشكل أوضح، حالة الوجود غير المتغيِّر للمادة، الذي لم يشمل أيَّ تراكمٍ لتغيُّراتٍ في الزمان، هو قضيّةٌ لا يمكن أنْ يرفضَها إلا العقلُ الذي يرى قمَّةَ الحكمة في التشويه الذاتي لقدرته التوليديّة».
فيعلّق إنجلس على لسان دوهرنغ:
(ومن ثمّ؛ فإمّا أن تقبلوا بلا جدال حالتي الأولى التي لا تتغير، وإمّا أنْ أعلن أنا، أوجين دوهرنغ واهب القدرة التوليدية، أنَّكم مخصيّون فكرياً). هذا بالطبع قد يخيفُ البعض. ولكننا وقد رأينا بالفعل بعض نماذج قدرة السيد دوهرنغ التوليدية، نسمحُ لأنفسنا مؤقَّتاً بأنْ نترك شتائم السيد دوهرنغ اللطيفة دون رَدّ ونسألَ مرةً أخرى: ولكن هل تسمح يا سيد دوهرنغ أنْ تبيِّنَ لنا كيفَ يكون حالُ القوة الميكانيكية؟
ويتابع إنجلس: وعلى الفور يرتبكُ السيد دوهرنغ ويغمغم: في الواقع «إن التجانس المطلق لهذه الحالة البدائية القصوى لا يقدِّمُ في حدِّ ذاته أيَّ مبدأ للانتقال. وننبُّه مع ذلك أنَّ هذه الصعوبة توجد في جوهر الأمر، بالنسبة لأيّة حلقة جديدة، ولو أصغر حلقة في سلسلة الوجود المعروفة لنا جيداً. ولهذا فإنّ من يريد أنْ يجد صعوبةً في الحالة الرئيسيّة المذكورة لا يجبُ أن يسمحَ لنفسه بتخطِّيها في حالاتٍ أقلّ ظهوراً. وفضلاً عن ذلك فإنَّ أمامنا إمكانية إدخال الحالات الوسطية، في تدرجها المتوالي، وكذلك جسر الاستمرار، حتى نصل ونحن راجعون إلى الوراء إلى الإطفاء الكامل للتغيُّرات. صحيحٌ أنَّه من الناحية المنطقية البحتة لا يساعدنا هذا الاستمرار على إيجاد مخرج من الصعوبة الرئيسية ولكنه يُعتَبَرُ بالنسبة لنا الشكلَ الرئيسيّ لأيّ انتظامٍ ولأيّ انتقال معروف لنا بشكل عام، بحيث إنَّ من حقنا أنْ نستخدمه أيضاً كحلقة متوسطة بين التوازن الأول المذكور وخَرْقِه. ولكن إذا أردنا أنْ نتصوَّر هذا التوازن الساكن - إذا جاز التعبير» (!) «في توافق مع تلك المفاهيم التي يسلّم بها دون شكوك خاصة» (!) «في الميكانيك المعاصر، لكانَ من المستحيل تماماً تفسير كيف تصل المادة إلى حالة التغيُّر». ثم يقول السيد دوهرنغ: «ولكن إلى جانب ميكانيك الكتل يوجد أيضاً تحول حركة الكتل إلى حركةِ أصغرِ الجزئيات»؛ أما بالنسبة لكيفية حدوثها «فليس لدينا حتى الآن أيُّ مبدأ عام بهذا الخصوص. ولهذا لا يجب أنْ نُدهشَ إذا مضتْ تلك الظواهرُ قليلاً إلى مجالٍ مظلم».
وهنا يعلّق إنجلس، بما يلي قبل أن يلخّص ثلاثة حجج عرجاء لدوهرنغ:
هذا هو كل ما يستطيع أن يقوله السيد دوهرنغ. وفي واقع الأمر إنه كان علينا أن نرى قمة الحكمة لا في «التشويه الذاتي للقدرة التوليدية» فحسب وإنما أيضاً في العقيدة العمياء والمظلمة، إذا أردنا أن نقنع بتلك المراوغات والعبارات الفارغة والتي يؤسف لها حقاً. أمَّا أنَّ التجانس المطلق لا يمكن بنفسه أن يصل إلى التغيُّر فهو أمرٌ يعترف به السيد دوهرنغ نفسُه. لا توجد أيّة وسيلة يستطيع التوازن المطلق عن طريقها أنْ ينتقل إلى الحركة. ماذا يتبقى في هذه الحالة؟ ثلاثُ حجج زائفة عرجاء.
أولاً: إنه بالدرجة نفسها من الصعوبة، وفقاً لكلمات السيد دوهرنغ يتم تقرير الانتقال من أيّة حلقة ولو صغيرة جداً في سلسلة الوجود المعروفة لنا جيداً إلى الحلقة التالية. ويبدو أنّ السيد دوهرنغ يعتبرُ قُرَّاءَه أطفالاً صِغاراً. إنّ تقرير الانتقالات والروابط الفردية لجميع الحلقات، حتى أصغرها، في سلسلة الوجود يُكَوِّن بالتحديد مضمونَ العِلم الطبيعي، وإذا كان الأمر لا يتقدم في مكانٍ ما، فلنْ يخطرَ ببالِ أحدٍ - حتى السيد دوهرنغ - أنْ يفسِّر الحركة الجارية من «لا شيء». وإنّما، بالعكس، يُفترَضُ دائماً أنَّ هذه الحركة نتيجةٌ لنقلِ حركةٍ سابقةٍ ما، أو تحويلها أو استمرارها. أمّا هنا، كما يعترف هو نفسُه، فيدورُ الأمر عن نشأة الحركة من السكون أيْ من اللا شيء.
ثانياً: لدينا «جسر الاستمرار». صحيحٌ أنه من الناحية المنطقية البحتة - كما يقول السيد دوهرنغ - لا يساعدنا على إيجاد مخرج من الصعوبة، ولكن من حقنا مع ذلك استخدام ذلك الجسر كحلقة وسطى بين السكون والحركة. ولسوء الحظ أنَّ الاستمرار في السكون ينحصر في عدم الحركة؛ ولهذا فإنّ مسألة طريقة خلق الحركة بمساعدتِه تظلُّ أمراً خَفِيّاً أكثر من أيّ وقت آخر. ومهما قَسَّمَ السيّد دوهرنغ انتقالَه، من الانعدام الكامل للحركة إلى الحركة الشاملة، إلى عددٍ لا نهائي من الوحدات الصغيرة، ومهما كانت الفترة الطويلة التي ينسبها إلى ذلك الانتقال، فإننا لنْ نتحرَّكَ من مكاننا ولا لواحدٍ على عشرة آلاف من المـلّيمتر. ومن دون عملية الخَلْق لنْ نستطيعَ بالطبع بأيِّة حالٍ من الأحوال أنْ ننتقلَ من اللا شيء إلى شيءٍ ما، حتى ولو كان هذا «الشيء» لا يزيدُ عن تفاضُلٍ رياضِيّ. وبذلك فإنَّ جسرَ الاستمرار ليسَ حتَّى جسراً للحَمير؛ ولا يستطيع غير السيد دوهرنغ عبور ذلك الجسر.
وهنا ينهي إنجلس تعليقه، وللتوضيح للقارئ ذَكَر الناشر الروسي بأنّ إنجلس تلاعَب هنا بشكلٍ متعمّد وساخر بلفظة Eselsbrücke بالألمانية التي تحمل معنيَين: فهي حرفياً «جسر للحمير»، ولكن كانت تعني أيضاً تسهيلاً غير قانوني لتلاميذ المدارس الأغبياء أو الكسالى.

مقالات ذات صلة:
صور تلسكوب جيمس ويب: هل ستفاقم أزمة «الانفجار العظيم»؟
رقَّاص السّاعة الكونيّ وأزمة «الانفجار العظيم»
«الانفجار العظيم» على «الأرض الثابتة»..!
كتاب جديد: «مقاربة ديالكتيكية للتنظيم الذاتي للمادّة وتطوّرِها المجهري والكبير»

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1119
آخر تعديل على السبت, 06 أيار 2023 22:18