واشنطن تفتتح «مشروع مانهاتن» لأمراض خطيرة وقاتلة

واشنطن تفتتح «مشروع مانهاتن» لأمراض خطيرة وقاتلة

قبل أيام قليلة (في 24 أيار الجاري 2023) نشرت مجلّة «العِلم» الأمريكية مقالاً عن الافتتاح الرسمي لـ«المرفق الوطني للدفاع البيولوجي والزراعي»، وسط إجراءات أمنية مشدّدة في ولاية كانساس الأمريكية التي تضمّ مدينة مانهاتن مقرّ المشروع. وبحسب المعلَن «لن يبدأ البحث النشط قبل بضع سنوات أخرى». وأقرّت المجلّة ووسائل إعلام أمريكية بأنّ المختبر الضخم سيتعامل مع عوامل ممرضة حيوانية ونباتية خطيرة من بينها فيروس «نيباه» ذي العدوى الغامضة، الذي تحمله خفافيش الفاكهة ويصيب الخنازير والبشر، ويقتل 40% و75% من البشر المصابين، إضافة إلى إيبولا وحمّى القرم والكونغو النزفية، والتهاب الدماغ الياباني، وغيرها، مما جعل قرار افتتاح المختبر يقابل بـ«عدم الارتياح» من علماء آخرين ومن السكّان المحلّيين والمزارعين.

من بين المرحّبين بالافتتاح الاحتفالي للمختبر الضخم الجديد، عالِم الفيروسات روبرت كروس الذي قال إنه سيتيح فرصة التعامل مع حيوانات كبيرة مثل خنازير غينيا المصابة بفيروس إيبولا وقرود المكاك التي تحمل حمّى لاسا. في حين أن مختبرات حالية مثل التي يديرها كروس ورغم أنها «مجهّزة للتعامل مع بعض أخطر الفيروسات في العالَم» بحسب قوله، لا يمكنها أن تستوعب الخنازير، والتي هي أيضاً حامل شائع لفيروس نيباه القاتل. وفي مختبر جالفستون الوطني، يقول كروس، الذي يرتدي بدلة السلامة البيولوجية المضغوطة أثناء دراسته: «لسنا مهيئين حقاً للتعامل مع الحيوانات الكبيرة... لا يمكنك اصطحابها عندما ترتدي بدلات الفضاء هذه».

تطوير لستة عقود من الاختبارات

هذا المختبر الضخم الجديد «مرفق الدفاع البيولوجي والزراعي الوطني» (NBAF) في مانهاتن شديد الحراسة ويقع في كانساس، وهو الأول في الولايات المتحدة المصمَّم بمعدات مثل الرافعات لنقل الحيوانات الكبيرة الملوثة بأكثر العوامل المعدية خطورة، بما في ذلك فيروس نيباه، وبحسب كروس سيكون «مورد احتواءٍ كبير للتعامل مع مسبّبات الأمراض المهمّة زراعياً... وسيغيّر المشهد».
استغرق المختبر، الذي ستديره وزارة الزراعة الأمريكية، ما يقرب من عقد إضافي من الزمان حتى يكتمل أكثر مما كان مخططًا له، وبتكلفة 1.25 مليار دولار، ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما كان متوقعاً في البداية. كما أنه مثير للجدل؛ على الرغم من أن العديد من الباحثين والسياسيين الأقوياء في كانساس قد دعموا المشروع، فقد أعرب بعض العلماء وسكان مانهاتن والمجموعات الزراعية عن مخاوفهم بشأن التعامل مع مسببات الأمراض التي تشكل خطورة على الماشية والبشر في قلب الأراضي الزراعية للبلاد. فإذا أفلت من المختبر مرضٌ حيواني شديد العدوى «فإنه سيغلق التجارة»، كما يقول لاري كينديج، عضو مجلس إدارة جمعية «كانساس كاتلمن».
يهدف NBAF إلى أن يكون المقرّ الجديد للعمل المنجز لأكثر من 60 عاماً في «مركز أمراض الحيوان في جزيرة بلوم»، وهو مختبر فدرالي أمريكي في جزيرة صغيرة في «لونغ آيلاند ساوند». قبل عقدين من الزمن، دفعت المرافق القديمة في جزيرة بلوم ونقص ميزات الأمن البيولوجي الأكثر صرامة المسؤولين الفيدراليين إلى البدء في التخطيط للترقية.
عندما عارض سياسيو ولاية نيويورك التعامل مع فيروسات أكثر خطورة في الجزيرة، اضطرت وزارة الأمن الداخلي الأمريكية (DHS) المشرفة على المختبر، إلى البحث عن مكان آخر له. فاختارت مانهاتن، وهي بلدة يبلغ عدد سكانها 55000 نسمة والتي تعدّ أيضاً موطناً لجامعة ولاية كانساس. واستشهدت الوكالة «بقبول المجتمع الواسع» بالمشروع، على حد قولها، وبحقيقة أن كانساس كانت مركزًا ناشئاً لأبحاث الأمراض الحيوانية.
ستبلغ مساحة المنشأة الجديدة أكثر من 53000 متر مربع من المساحة الأرضية. يقول المسؤولون إن الموظفين سيتبعون بروتوكولات سلامة صارمة وسيستخدمون معدّات متخصصة، مثل «بدلات القمر» البلاستيكية مع إمدادات الهواء الخاصة بهم. وتساعد الميزات في جعل NBAF مختبراً للأمن البيولوجي من المستوى الرابع BSL4، وهو التصنيف الأعلى في الأمن البيولوجي. أما المكان السابق على جزيرة بلوم، فكان المختبر فيه من المستوى الثالث BSL3. وسوف تضم المنشأة الجديدة NBAF أيضاً مختبرات المستويات الثاني والثالث (BSL2 وBSL3).

خطورة الأمراض المخطّط تضمينها في المشروع

تقول ليزا هينسلي، عالمة الأوبئة وعالمة الفيروسات التي تترأس وحدة NBAF التي ستجري أبحاثاً على الحيوانات والأمراض الناشئة، إنّ NBAF يحتوي على معدّات وغرف مصمّمة للتعامل مع الحيوانات الكبيرة مثل الأبقار والخنازير، مما يتيح للعلماء دراسة الأمراض المحظورة في جزيرة بلوم. ويشمل ذلك حمّى القرم والكونغو النزفية، والتهاب الدماغ الياباني، و«نيباه» الذي هو فيروس تحمله خفافيش الفاكهة ويمكن أن يمرض الخنازير والبشر، ويقتل ما بين 40% و75% من المرضى البشر، وطرق العدوى به «غامضة».
وبحسب الأهداف المعلَنة من إنشاء هذا المختبر الأمريكي الضخم «يمكن أن تساعد القدرة على العمل بأمان مع الخنازير في الكشف عن كيفية انتشار فيروس نيباه ومساعدة الباحثين على تطوير تدابير مضادة». ويبدو أن هناك خططاً مسبقة لتطوير وإنتاج لقاحات جديدة، حيث قال عالِم الفيروسات روبرت كروس، الذي رحّب بالمختبر الجديد ويتشاور معه عندما كان يستعد للافتتاح: «أستطيع أن أرى لقاح نيباه... بوصفه عنصراً ذا أهمية كبيرة في السنوات القادمة».

مخاوف وانتقادات

بعض سكان ولاية كانساس يخشون أن تفلت من المختبر عوامل ممرضة خطيرة. يقول المزارع كينديج، الذي تقع مزرعته على بعد حوالي 200 كيلومتر غرب مانهاتن: «لا أفهم سبب إنشاء منشأة مثل تلك في وسط منطقة محاصيل وماشية عالية الإنتاجية». وأشار هذا المزارع وآخرون إلى سوابق ظهور مشكلات في مختبرات أخرى كان يفترض أنها «آمنة»؛ ففي عام 2007، تم تتبُّع انتشار مرض «الحمّى القُلاعية» إلى مختبر صحّة الحيوان في بيربرايت في المملكة المتحدة، حيث أشار تحقيق إلى تسرب من أنبوب التصريف. يتسبب هذا المرض شديد العدوى في ظهور بثور على اللسان والشفتين وبين حوافر الماشية، مما يؤدي إلى إعاقة الحيوانات وإيقاف إنتاج الحليب. ومع أنّ حادثة التسرّب المذكورة أثّرت على عدد قليل من المزارع آنذاك، ولكن في عام 2001، كان على المسؤولين في المملكة المتحدة أن يأمروا بقتل ما يصل إلى 10 ملايين حيوان لوقف تفشٍّ أكبر بكثير قيل إنه «لا علاقة له بالمختبر».
واحتجّت لورا كان، الخبيرة في «الدفاع البيولوجي» التي عملت في برنامج جامعة برينستون للعلوم والأمن العالمي، على اختيار مكان المشروع، واصفةً قرار وضع المختبر الجديد NBAF «في وسط بلد الثروة الحيوانية وممرّ الأعاصير» بأنّه «غطرسة حقيقية».
وتشير لورا إلى تقييم أجرته وزارة الأمن الداخلي الأمريكي لعام 2010 والذي وجد أن مختبر كانساس لديه فرصة بنسبة 70% لإحداث تفشٍّ لمرض الحمى القلاعية شديد العدوى على مدار 50 عاماً. ولكنّ مراجعة لاحقة أجرتها «لجنة الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم والهندسة والطب» خلصت إلى أنّ الدراسة المذكورة «كانت غير مكتملة» بحسب تعبيرها، رغم أنّ اللجنة نفسها انتقدت بالوقت نفسه دراسة ثانية لوزارة الأمن الداخلي الأمريكي قلّلت الخطر كثيراً هذه المرّة، حيث اعتبرته عند مستوى 0.11% فقط، وقالت اللجنة إنّ هذه الدراسة الثانية اعتمدت على «افتراضات مشكوك فيها وغير مناسبة» ومن المحتمل أن تقلل من قيمة المخاطر.
ومع ذلك، اعتبر المسؤول الكبير السابق في مجال الأمن البيولوجي، جيرالد إبشتاين، أن هناك «خطراً» أيضاً في «عدم وجود مثل هذا المختبر في عصر الأمراض المعدية الناشئة». يقول إبشتاين، الذي كان نائب مساعد وزير الأمن الداخلي للسياسة الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية في عهد الرئيسين السابقين باراك أوباما ودونالد ترامب: «أنا واثق من أننا نعرف كيفية بناء هذه المنشأة بأمان»، على حدّ تعبيره. من عام 2009 إلى عام 2012، أدار إبشتاين أيضاً برنامجاً للعلوم والأمن في «الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم» AAAS، وهي أيضاً الهيئة الحكومية الأمريكية الأساسية المموّلة لنشر مجلة العلم الأمريكية، التي نشر فيها المقال الحالي حول افتتاح المختبر.
ولذلك ينتهي مقال مجلة العلم الأمريكية بمحاولة «طمأنة»، عبر إيراد المقطع التالي في الخاتمة عن عاملة اختارت أن تنتقل للسكن قرب المختبر والعمل فيه: «تحدّد هينسلي تدابير السلامة التي ستكون مطبّقة، لكنها تشير أيضاً إلى مقياس شخصي أكثر لثقتها: انتقلتْ إلى مانهاتن مع ابنها المراهق للمساعدة في إدارة المختبر. وتقول: أنا أعيش حرفياً على بعد عدة أميال من المختبر... لدي قدر هائل من الثقة في الفريق الذي أعمل معه».

المصدر:
Science Magazine: New U.S. lab will work with deadly animal pathogens—in the middle of farm country

معلومات إضافية

العدد رقم:
1124