الذكاء الاصطناعي والصَّنَميّة... تعقيب على تشومسكي
نشرت صحيفة نيويورك تايمز في الثامن من آذار 2023 مقالاً مشتركاً لكلّ من عالِم اللسانيات والمفكّر الشهير نعوم تشومسكي وبروفيسور زميل له في المجال نفسه، ومدير لقسم الذكاء الاصطناعي بإحدى شركات التكنولوجيا. وقدّم مقالهم انتقادات للرّهانات المُغالِية بشأن «الذكاء الاصطناعي» و«تعليم الآلة» وبرمجيات مثل ChatGPT، معتبرين أنّها لا تملك «ذكاءً» ولا «فهماً» حقيقياً للّغة البشرية. فيما يلي نقتبس مطوّلات من المقال ثمّ نعقّب عليه.
حمل المقال الذي كتبه تشومسكي بالاشتراك مع إيان روبرتس، وجيفري واتنمول، عنوان «الوعد الكاذب لـ ChatGPT». ويبدأ بالتقييم التالي: «في حين يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون وسيلةً لحلّ المشكلات، لكنه يبعث مخاوفنا بأنّ شكلَه الأكثر شيوعاً ورواجاً حاليّاً (تعليم الآلة) قد يقوِّضُ علومَنا وأسسَ الأخلاق، بأنْ يدمج في التكنولوجيا التي نستخدمها تصوّراً خاطئاً جذريّاً حيال اللغة والمعرفة».
ثمَّ ينوّه بأنّ برامج مثل ChatGPT من شركة OpenAI، و Bardمن غوغل، و Sydney من مايكروسوفت، تعمل على أخذ كميات ضخمة من البيانات، ثم تبحث فيها عن أنماط، لتوليد مخرَجات عالية الاحتمال من الناحية الإحصائية تبدو شبيهةً بلغة وتفكير البشر.
وجرى الاحتفاء بهذه البرمجيّات بوصفها الومضات الأولى في أفق «ذكاء عامّ اصطناعي»، والذي لطالما جرى التبشير به، بأنّ تلك المرحلة المنشودة التي يقال إنّ «العقول الآلية» ستتجاوز عندها أدمغة البشر، لا كمّياً فقط (من حيث سرعة المعالجة وسعة الذاكرة) بل وكيفيّاً أيضاً (بمعنى البصيرة المتفَكِّرة، والإبداع الفنّي، وجميع المَلكات البشرية المتميّزة).
ويَعتَبِر تشومسكي وزملاؤه بأنّ «ذلك اليوم ربّما يأتي، ولكنْ لا يبدو أنّ فجرهَ وشيك الانبلاج الآن، على النقيض ممّا يمكن قراءتُه من عناوين مُغالِية وتقديرات تستند إليها الاستثمارات التجارية غير الحكيمة».
«فمهما كانت برامج تعليم الآلة، من أضراب ChatGPT وغيره، مفيدةً في بعض المجالات الضيّقة (مثل برمجة الكمبيوتر أو اقتراح مقاطع من الأشعار الخفيفة)، فإننا نعرف من علم اللسانيات وفلسفة المعرفة أنّ هذه البرمجيّات مختلفة بعمق عن طريقة المحاكمة العقلية لدى البشر واستعمال البشر للُّغة. ممّا يفرض محدوديّات على ما تستطيع هذه البرامج فِعلَه، وعيوباً لا يمكن اجتثاثها».
واعتبر المؤلّفون أنّ «الأمر برمّته ملهاةٌ ومأساةٌ في الوقت عينه... ولا سيّما مع المبالغ المالية الكبيرة والاهتمام الكبير الذي يتركّز على شيءٍ صغير كهذا؛ شيءٍ شديد التفاهة إذا ما قورن بالعقل البشريّ الذي بفضل اللغة، وبحسب تعبير فلهلم فون هومبولدت: يمكن أن يصنع (استعمالاً لا نهاية له من وسائل منتهية) خالقاً أفكاراً ونظريات ذات عمق شامل».
الوصف والتنبّؤ مقابل التفسير
يتابع المقال بأنّ «برنامج ChatGPT وأضرابه، عبارة عن محرّك إحصائي تجميعي من أجل مطابقة الأنماط، يبتلع مئات التيرابايتات من البيانات ويستنبط أكثر الإجابات شبهاً بالمحادثة، أو الجواب الأكثر احتمالية على سؤالٍ علميّ. أما العقل البشري، فهو بخلاف ذلك؛ نظام كفؤ ورائع على نحو مدهش، يشتغل بكمية صغيرة نسبياً من المعلومات. وهو لا يسعى إلى تخمين وجود صلات فجّة بين نقاط البيانات، بل يسعى إلى خلق تفسيرات».
وبحسب تشومسكي وزملائه فإنّ طفلاً صغيراً يكتسب لغةً ما، لديه «نظام تشغيل» غريزيّ مُنصَّبٌ وراثياً ومختلفٌ تماماً عن نظام تشغيل برنامج تَعلُّم الآلة: «في الحقيقة، هذه البرامج عالقة في طور قبل بشري أو غير بشري من تطور المعرفة. وعيبها الأعمق غياب أكثر قدرة حاسمة لأيّ ذكاء... القدرة ليس فقط على أن تقول ما هو الحال وما كان عليه وما سيؤول إليه (التوصيف والتنبّؤ) بل وكذلك أن تقول ما ليس عليه الحال وما يمكن أن يكونه أو لا يكونه؛ فهذه هي مكونات التفسير، والواسمة للذكاء الحقيقي».
يطرح تشومسكي وزملاؤه المثال التالي: افترض أنك تمسك تفاحة. أفلتْها، تلاحظ النتيجة وتقول: «التفاحة تسقط». هذا يعتبر وصفاً. ويمكن للتنبّؤ أنْ يكون بياناً من قبيل: «سوف تسقط التفاحة إذا فتحت يدي». الوصف والتنبُّؤ قيّمان ويمكن أنْ يكونا صحيحَين. ولكنَّ التفسير شيء أكثر من ذلك: إنّه لا يتضمّن فقط التوصيفات والتنبّؤات بل وكذلك التخمينات المواجهة للوقائع، مِن قبيل: «إنّ أيّ جسم كهذا سوف يسقط»، زائداً عبارة: «بسبب قوّة الجاذبية» أو أيّ شيء قد يعتبر سبباً للنتيجة المعنية. إنّ هذا التفسير السببي: «ما كانت التفاحة لتسقط لولا قوّة الجاذبية»، إنّما هو التفكير.
وأمّا تعليم الآلة فعِمادُهُ التوصيفُ والتنبّؤ؛ إذْ لا يضع أيّة آليّات سببية أو قوانين فيزيائية. وليس بالضرورة طبعاً أنْ يكون أيُّ تفسيرٍ ذي أسلوب بشريّ صحيحاً؛ فنحن خطّاؤون، ولكنّ هذا جزءٌ ممّا يعنيه أن تفكّر: لكي تكون على صواب لا بدّ أن تكون أيضاً عرضةً للخطأ. إنّ الذكاء لا يكمن فقط في التخمينات الإبداعية بل وفي النقد الخلّاق أيضاً.
يستند الفكر البشري على التفسيرات الممكنة وتصحيح الخطأ، وهي عملية تقيّد تدريجياً الإمكانات التي تؤخَذ على محمَل المعقول. وكما قال شيرلوك هولمز ذات مرّة للدكتور واطسون: «عندما تحذف المستحيل، فإنّ ما يتبقّى، ومهما كان بعيد الاحتمال، لا بدّ أن يكون الحقيقة».
ويخلص تشومسكي وزملاؤه إلى أنّ ChatGPT والبرامج المشابهة، ورغم أنها غير محدودة، بحكم تصميمها، من حيث إمكانية ما تتعلّمه إذا كان المقصود بذلك «التذكّر» و«الحفظ غَيباً»، ولكنها عاجزة عن تمييز الممكن من المستحيل.
تعقيب1: الآلات والتجربة البشرية
الفكرة أعلاه التي تناولها تشومسكي وزملاؤه حول التمييز بين الواقع والمستحيل والممكن، يمكن أنْ نفهمها ماركسياً من منظور أنّ «التجربة معيار الحقيقة». والتجربة غير متاحةٍ للذكاء الصنعي مباشرةً، فهي تنتمي إلى الأساس المادي لأيّة فكرة، بينما يتعامل الذكاء الصنعي حتى الآن فقط مع النواتج الجاهزة لتجربةِ مادّةٍ مختلفة جذرياً عنه؛ المادة الأعقد والأكثر تطوّراً؛ الدماغ البشري. إنه يتعامل مع أفكار، تجريدات، ولا يستطيع التعامل مع الواقع المادي الحيّ بطريقة مباشرة وبحيث يقوم بتجريد أفكار من الواقع، ولا يستطيع بالتالي أن يختبر ويفرّق الحقيقة عن الوهم. وقد يكون هذا أحد العوامل المسؤولة عن ظاهرة الهلوسة التي ما زال مطوّرو برامجه عاجزين عن اجتثاثها، ولا غرابة في ذلك، لأنّها ليست في الجوهر مشكلةً «تقنية» بحتة. هذا يعيدنا إلى أهمّية تصنيف إنجلس لمستويات حركة المادة (والمادة المتحرّكة) من حيث تعقيدها وتطوّرها من أدنى إلى أعلى: المستوى الميكانيكي، ثم الفيزيائي، فالكيميائي، فالبيولوجي، فالاجتماعي والوعي. فمن الواضح أنّ الذكاء ينتمي طبيعياً إلى الطابق الخامس (الاجتماع-الوعي) بحسب قوانين التطوّر الديالكتيكي الطبيعية. وهذا يطرح مشروعية التساؤل عن مدى كون التكنولوجيا التي هي موضِع النقاش «ذكاءً» حقّاً. فيبدو توصيفها بـ«الذكاء» محاولةَ قفز بين الطوابق، وتجاوزاً حتى للطابق البيولوجي الذي أسّس تاريخياً لنشوء وتطوّر الذكاء.
هذا الأمر يقودنا إلى فرضية أنّ طريق الوصول إلى تصنيع «ذكاء» بوساطة تقنيّات بشرية، في حال افترضنا ذلك ممكناً مستقبلاً، يجب عليه احترام واستخدام هذا القانون الطبيعي لتراتبية التعقيد الديالكتيكي لمستويات تطوّر المادة، وبالتالي سيبقى على الأرجح حلماً طوباوياً إذا اقتصر العمل فيه على «الكمبيوترات» فقط لأنها محدودة بالطابق الفيزيائي. أمّا التفكير بهجائن بين كائنات حية (وربما الإنسان نفسه) والكمبيوترات، أو ما يصطلح عليه «العضوية السيبرانية» (السايبورغ Cyborg) رغم كونه ما يزال خيالاً علمياً، فقد يكون المرشّح الوحيد الأكثر واقعية لخطوة على طريقٍ قد يوصل إلى تصنيع ذكاء حقيقي.
تعقيب2: الذكاء الاصطناعي والصنمية والاغتراب
إذا استندنا إلى تفسير ماركسيّ للإجابة عن سؤال: لماذا هذا الربط المتكرّر في الأدبيات الحالية والإعلام بين «السيابورغ» (بل وحتى ما هو أبسط منه بكثير: الكمبيوتر والروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي الحالي) من جهة وأفكار شرّيرة وكارثية من جهة أخرى، وكأنّ المجال المذكور محكوم بالتطوّر باتجاهٍ واحد فقط هو إنتاج «مسوخ» فرانكشتاينيّة تفترس صانعيها؟ سنجد مفتاح الجواب على الأرجح فيما نظّر له ماركس بشأن «الصنميّة البضاعية» و«الاغتراب»، أيْ إنّ المشكلة ليست تكنولوجيّة بل طبقية-اجتماعية وعلى الأخصّ رأسماليّة. وهذا يستدعي سؤالاً آخر: هل ستكون البشرية بحاجة حقيقية لصناعة «كائنات» كهذه في التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية الأرقى التي ستحرّر البشر من استغلال بعضهم لبعض وتفتح لهم آفاقاً غير مسبوقة في الاستفادة من الطبيعة والانسجام معها والتحكم بأنفسهم وبها لصالحهم؟ هل سيحتاجون في الشيوعيّة إلى خلق «سايبورغات»؟ أم أنّ ذكاءهم الطبيعي، هذه الشعلة التي اتّقدت في الدماغ البشري على مدى آلاف السنين والمفتوحة على تطوّر أعلى، ستكون كافيةً لإنارة حياتهم بكلّ المعارف الضرورية لتطورهم والاستمتاع بالفكر والعمل، مع الاستفادة طبعاً من جميع أشكال الموادّ الأقل منهم تطوّراً (بما فيها الكمبيوترات و«ذكاؤها» والسايبورغات عند الحاجة) التي ستكون طوع بَنانهم دون أن يشعروا بأيّة حاجة لتغليفها بطابع صنميّ أو عجائبيّ أو تحميل وصفها بـ«الذكيّة» بمدلولات ترتبط بالذُّعر. ففي النهاية لا يخاف من الأصنام التي صنعَها بيدَيه سوى ذلك النوع الحيواني الخاصّ الذي لمّا يتوصّل بعد إلى مستوى نوعيّ جديد في التحكّم بنفسه وحلّ تناقضاته الاجتماعية والطبيعية، وهذا هو حال النوع البشريّ اليوم في الرأسمالية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1126