كتاب جديد: «مقاربة ديالكتيكية للتنظيم الذاتي للمادّة وتطوّرِها المجهري والكبير»
تحت هذا العنوان نشرت دار De Gruyter الألمانية عام 2020 الطبعةَ الإنكليزية من كتاب عالِم الفيزياء التطبيقية وفيزياء المواد والموصلات الفائقة، البروفسور الماركسي كريستيان جوس (طبعته الألمانية 2017). ومن جوانبه المهمّة تبديد الأسطورة المُبتَذَلة التي يروّجها أنصار المثالية الفيزيائية والرياضية السائدة، ولا سيّما من جالية «الفيزياء النظرية»، ضدّ الماركسية كعلم، وادّعاءات كثير منهم بغياب مساهمات وإنجازات حديثة ومهمّة، عملياً ونظرياً، للعلماء الماركسيّين، وبأنّ الماركسية «عفا عليها الزمن». وكتاب جوس من المؤلّفات الحديثة القليلة التي تجرّأتْ على نقدٍ علمي وفلسفي، من مواقع المادية-الديالكتيكية، لأفكارٍ سائدة مثل: «الانفجار العظيم» والأخطاء المثالية لدى الأينشتاينية؛ مع إقرار جوس بأنّ انتقاد أينشتاين للمفاهيم القديمة عن «الأثير» احتوى على جانب محقّ بسبب الأخطاء الميتافيزيكية التي شابته، لكنّ أينشتاين أخطأ بدوره بـ«رمي المولود مع ماء الخَلاص القذر» وفق تعبير جوس، وشَطَبَ الأثيرَ من الفيزياء، وأحلّ مكانَه مثالياً «الخلاء عديم المادة». ويحاول جوس تطوير مفهوم جديد ديالكتيكي-مادي عن الأثير، يسمّيه «الأثير الكوانتي» ويعتبره ضرورياً لإيجاد الوحدة بين الحقول المختلفة (الكهرومغناطيسي، والجاذبية، والقوى النووية القوية والضعيفة، والأمواج المادية، وغيرها).
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
تصدّرَ عنوان «أزمة على حافة الفيزياء» نيويورك تايمز في 7 حزيران 2015. وتصدّر عنوان «التناظر الفائق والأزمة في الفيزياء» عددَ أيار 2014 من Scientific American. اندلعت أزمة الفيزياء علانية ولم يُعثَر تجريبياً بالمسرِّعات على أيٍّ مِن الجسيمات التي تنبّأت بها «نظريات المادة الموحَّدة» لعقود. تتعارض النظرة الطاغية على الفيزياء اليوم مع فهمٍ أعمق لبنية المادة وعمليات تطورها. وتحاول، بدل ذلك، البحثَ عن جوهر المادة في التناظرات الرياضية للَبِنَات بناءٍ مجهريةٍ فوق الطبيعة. تنتقدُ عالمةُ الفيزياء سابين هوسينفيلدر في كتابها «تائه في الرياضيات» (2018) فيزياءَ الجسيمات لاسترشادها بـ«الجمال الرياضي للمعادلات» بدل الملاحظات التجريبية.
شمول الأزمة لعلوم «الميكروكوزم» و«الماكروكوزم»
أثّرت أزمة الفيزياء على علم الكونيات أيضاً، فزعمت (نظرية الانفجار العظيم) «تكوين المادة والطاقة من لا شيء في حالةِ مُتفرّدة singularity أوّلية»، معتمدةً فقط على تفسير الانزياح الأحمر لضوء الأجرام السماوية البعيدة كـ «توسعٍ للفضاء» بينما نأتْ بنفسها عن التطور المرصود للمادة. وحوّلت النسبية العامة– الكامنة خلف (الانفجار العظيم) – الجاذبيةَ إلى كيانٍ هندسي gravity was geometrized عندما أعلنتها كخاصية للمكان/ الفضاء «الفارغ» المنحني؛ لـ«اللا شيء». إنّ «نشأة المادة من العدم» في (الانفجار العظيم) و«استبدال المادة بهندسة الفضاء الفارغ» في الجاذبية، وتفسير الجسيمات تحت الذرية والحقول الكمومية في فيزياء الجُسيمات على أنها «إثارة اللا شيء»، هي جوانب من الأزمة المفتوحة لمجالات مختلفة من الفيزياء، لكنها تعود لسبب مشترك إبِّستيمولوجي (مُتعلّق بنظرية المعرفة فلسفياً).
نشأت هذه الأزمة مطلع القرن 19 إلى 20 رغم التقدم الهائل بكل واحد من الموضوعات فُرادى، إذْ خضعت الفيزياء لتأثير الفلسفات المثالية، وخاصة النقد التجريبي والبراغماتية والواقعية الجديدة، وأدت إلى هجران الفيزياء لمطلبها السابق بالتعرف على المادة وفهمها كحقيقة موجودة موضوعياً باستقلال عن وعي الإنسان. وسبق لماكس بلانك أنْ أعرب عن قلقه بالفعل، بعد العام 1930، في محاضرته: «الوضعية والعالم الخارجي الحقيقي» عندما قال: «حتى هذا المجال (الفيزياء) لم يسلم من الأزمة العامة. نشأ نوع من اللايقين في مجاله، وأحياناً تتباين الآراء حول الأسئلة الإبستيمولوجية تبايناً كبيراً. إنّ مبادئها التي كانت في السابق مقبولةً عموماً، وحتى السببية نفسها، يتم التخلص منها أحياناً».
يبحث كتابنا هذا- نقدياً- تأثيرَ المثالية الفيزيائية على الفهم النظري لبنية المادة وتطوُّرها، من المجالات الكمومية وتطوِّر اللَّبِنَات تحت الذرية (في الكون المجهري Microcosm) وصولاً إلى علم الكون وتطور المجرات، والبنى العملاقة للعناقيد المَجَرّيِة (الكون الكبير Macrocosm).
السؤال الأساسي
تتنوع نظرات العلماء تجاه العالَم (الطبيعة والمجتمع)، لكن يجب تمييزها جميعاً وفقاً لإجابتها عن السؤال الأساسي للعلاقة بين الوجود والوعي: هل تنتمي إلى الاتجاه المادي؛ الذي يقرّ بالوجود، الواقع الموضوعي، بوصفه الأوّلي، وبأن الوعي البشري يستطيع أن يعكسه، أم تنتمي إلى الاتجاه المثالي؛ الذي يَعتَبر مُرَكَّباتِ الإحساس أو الأفكارَ أو المبادئ هي الأولية والواقعَ هو الثانوي؟
ويعود هذا التعارض إلى انقسام المجتمع إلى طبقات. فكل إيديولوجيا تحمل بصمة طبقة ما. وهكذا، فإن العلم الطبيعي، مع انبثاقه في العصور الحديثة من الصراع الإيديولوجي للبرجوازية ضد السكولاستية الإقطاعية المثالية، أدّى بادئ الأمر إلى إنتاج مادية محلّية قائمة على وحدة النظرية والممارسة. فكانت ولادة العلوم الطبيعية الحديثة ثوريةً، لكن تطورها اللاحق في القرن 19 إلى 20 لم يستطع تفسير النتائج الجديدة آنذاك بشكل صحيح، بسبب بقائها أسيرة النظرة الميكانيكية الميتافيزيقية. فكان على الديالكتيك كنظريةٍ ومنهجٍ لبحثِ عمليات التطور أنْ يشقَّ طريقه إلى العلوم الطبيعية، وقد تنبّأ كانط ببراعة بفكرة ولادة وموت المنظومات الشمسية في الفضاء. كما طوَّر داروين نظرية تطور الكائنات الحية من المستويات الأدنى إلى الأعلى. وكان أساس نظرة كارل ماركس وفريدريك إنجلس الديالكتيكية المادية للتطور في الطبيعة والمجتمع، قائماً على القَلب المادي للعرض المنهجي لديالكتيك هيغل، وملاحظة الصراعات الطبقية في القرن 19 لتصبح النظرة العِلمية للطبقة العاملة إلى العالم، ولم تُغْنِ فقط جهود البشرية للتحرر من الاستغلال والقمع الرأسمالي، بل وأغنت أيضاً فكر وأبحاث العلماء التقدميّين عبر العالم.
تأثير أزمة الإيديولوجيا البرجوازية
استدعت الاكتشافات الجديدة في العلوم الطبيعية مطلع القرن العشرين (الكهرباء، والنشاط الإشعاعي، وتأثير الجاذبية على الضوء، وغيرها) تفسيرَها في نهج شامل وديالكتيكيّ مادي. ورغم ميل العديد من علماء الطبيعة حتى اليوم تلقائياً نحو المادية، إلّا أن أزمة الإيديولوجيا البرجوازية المثالية قد تغلغلت في العلوم الطبيعية، وأصبحت الوضعية الجديدة والبراغماتية الشكلَ السائد لنظرية المعرفة المثالية في العلوم. ورغم سماحها باستبصارات فردية، إلّا أنها تُجَزِّئ المعرفةَ اللازمة للسياق العام للطبيعة، وتَفصِلُ النظريةَ الرياضية عن الواقع. وهكذا، اعتُبِرَ مفهومُ النماذج الرياضية هو الأوّلي مقابل المادة. ومع ذلك، فإنّ الرياضيات الحديثة بفعاليتها الهائلة لا يمكنها إلّا أن تدعم الفهم النظري للمادة، وتحقق تنبؤات كمّية، شريطة فهمها على أنها انعكاسٌ تقريبيّ للواقع الموضوعي، وتطبيقها بوعي بهذا المعنى، وإدراك حدودها ومحدوديّاتها.
ونقيضاً للمثالية الفيزيائية– التي تستبدل الأنظمة المجهرية للمادة بوضع «فراغٍ» (أو «خلاء» Vacuum) مكانَها؛ «الفراغ» الذي يشكل فضاءات رياضية متعددة الأبعاد، والتي يفترضون فيها تَشكُّل «الأوتار الفائقة» أو «العوالِم الغشائية»– فإنّ كتابنا يأخذ دوماً بوجهة نظر تجمع بين مختلف المجالات الكمومية وإثاراتها على شكل جسيمات تحت ذرية مع نظرية الأثير الكمومي الفائق. ولتحقيق هذه الغاية يَبني على تقدُّم المعرفة في فهم أنظمة المادة المتكثّفة condensed matter وإمكانية وجود حالات مائع كمومية مختلفة، كالموائع الفائقة مثلاً. بالواقع، تم التنبؤ بجسيم هيغز منذ 1964 (وهو الجسيم الجديد الوحيد الذي ربما عُثِرَ عليه في مسرّع الجسيمات CERN عام 2012)، وتم هذا التنبؤ اعتماداً على نظرية السيولة الفائقة (Higgs 1964). ومع ذلك، تم كنس هذه المعلومة تحت السجّادة لصالح التفسير المثالي على أنه «جسيم الربّ»! God’s Particle.
الديالكتيك المادّي وتطويره
إنّ النظرية والطريقة المعرفية الأكثر تقدماً، والأنسب لمستوى تعقيد الأسئلة العلمية، هي الديالكتيك المادي. إنها ليست مكتملةً إلى الأبد بأيّة حال، ولكن يجب أنْ تستوعب باستمرار رؤى جديدة مستخلصة من الطبيعة والمجتمع، وبذلك ترفع نفسها أكثر فأكثر إلى مستوى الاعتبار الشامل والمنهجي للسياق العام للتطور.
وتحقيق هذا يتطلب ما يلي: (1) التحليل النقدي والمادي وتوليف عدد كبير من الرؤى من العلم الحديث، جنباً إلى جنب مع النقد والنفي الديالكتيكي للتفسيرات المثالية (ولا سيما التفسيرات الفلسفية الوضعية الجديدة). (2) طريقة مقارنة كيفياً لاستقصاء عمليات تطوّر الأشكال المختلفة من المادة كأساس مادي لوصف تقريبيّ كمّي باستخدام النظريات الرياضية الفيزيائية [المقصود بالكمّي هنا النقيض الديالكتيكي للكيفيّ– المعرِّب]. (3) تحديد القوى الدافعة الداخلية والقوى المتعارضة والتناقضات الحاسمة لعمليات التطوّر وتَكَشُّفِها، حسب الظروف والتأثيرات الخارجية. (4) تعميم مفاهيم ديالكتيكية مادية جديدة لتَطَوِّر أنظمة المادة، ولا سيّما تطورها عبر التنظيم الذاتي، ودور تفاعل تطوّر الأنظمة المختلفة في تطوّر الكون. (5) فهمٌ مادي لطبيعة القوانين الطبيعية على أنها ناشئةٌ ومتطوَّرةٌ ومتغيرةٌ مع بنية المادة.
- كريستيان جوس Christian Jooss: باحث بالفيزياء وبروفسور في جامعات غوتنغن وشتوتغارت بألمانيا (معهد فيزياء المواد) منذ 2008. ومن سيرته الذاتية المنشورة على موقع جامعة جورج-أوغست بولاية غوتنغن: مواليد شتوتغارت 1967، باحث متفرّغ لصالح المخبر الوطني في بروكهافن للمواد النانوية الوظيفية (الطرائق المتقدمة بالفحص المجهري الإلكتروني التحليلي). عام 1998 عالِم في معهد ماكس بلانك لأبحاث المعادن، شتوتغارت، حيث حصل على الدكتوراه عن أطروحته «آلية تثبيت خطوط التدفق في الطبقات الرقيقة من أوكسيد النحاس-ييتيريوم-باريوم YBaCuO». عام 1995 دبلوم في الفيزياء من جامعة شتوتغارت عن أطروحته: «استقصاءات مغناطيسية-بصرية للتأثيرات الهيكلية الدقيقة على قدرة نقل التيار للموصلات الفائقة بدرجات الحرارة العالية». ناشر أبحاث ومُحكِّم في عدة مجلّات عالمية مُحكَّمة، منها: Nature – Physical Review Letters – Journal of Applied Physics– Superconducting Science and Technology.
- المقال الحالي هو تعريب تلخيصيّ لأبرز ما جاء في تمهيده لكتابه المذكور Self-organization of Matter - A dialectical approach to evolution of matter in the microcosm and macrocosmos، ويختتم التمهيد بالمقطع التالي: «يهدف هذا الكتاب إلى أن يكون مساهمةً في النقاش، وجدلاً، واقتراحاً لبرنامج عملٍ للبحث، وليس بأي حال نظرية وطريقة كاملة. يعتمد على دراسات ومحاضرات لفترة طويلة من الزمن بمناقشة نقدية مستمرة مع العديد من الزملاء. كانت البداية المهمة هي عمل W. Dickhut في الديالكتيك المادي في العلوم الطبيعية 1987. واقتراحات مهمة أخرى من G. E. Volovik حول الاستقصاء النقدي لنماذج فيزياء الجسيمات على ضوء السوائل الكمومية 2003، ومن F. Selleri 1998 و 2006 H. Preston & F .Potter حول التحليل النقدي لنظرية النسبية، ومن J. Lutz حول عمليات تطوُّر المجرّات 1991، وكذلك من نهج L. Landau الديالكتيكي للفيزياء في الفترة الاشتراكية للاتحاد السوفيتي السابق».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1027