ثلاثة مسارات وقطبان: «الحوار الإستراتيجي».. «أستانا» و«تغيير السلوك»!

ثلاثة مسارات وقطبان: «الحوار الإستراتيجي».. «أستانا» و«تغيير السلوك»!

منذ بداية 2017 وحتى لقاء بوتين- بايدن يوم 16/6/2021، كانت صورة الصراع الدولي والإقليمي في سورية وعليها، تظهر في ثنائية: «أستانا» (روسيا، تركيا، إيران)، مقابل «المجموعة المصغرة» الغربية (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، مصر، الأردن، السعودية).

منذ أن نشأت المجموعة المصغرة، كانت بمثابة مقابلٍ لأستانا، وظيفتها هي محاولة عرقلة أية خطوة يقوم بها هذا المسار؛ ابتداءً بالإعاقات المختلفة لفعاليات تخفيض التصعيد على الأرض، ومروراً بالعمل ضد مؤتمر سوتشي 2018 عبر المواقف المعلنة وعبر الضغط على أقسام من المعارضة وعبر لا أوراق بومبيو وتيلرسون، ووصولاً إلى تعقيد عملية تشكيل اللجنة الدستورية، وليس انتهاءً بمواصلة العمل على تبييض و«سورَنة» النصرة.
بين بداية 2017 وأواسط 2019، أي طوال سنتين ونصف، تركّز العمل الغربي على محاولة فرط عقد أستانا عبر محاولة استمالة تركيا وتوتير العلاقات بينها وبين روسيا بشكل خاص، وقد اتضح للغرب ومجموعته المصغرة بعد هذه المدة أنّ المهمة غير قابلة للتحقيق.
منذ أواسط العام 2019، ومع نقل مركز ثقل العمل الغربي نحو الاستنزاف الاقتصادي، فإنّ الوظيفة الوحيدة الظاهرة التي بقيت للمجموعة المصغرة هي العمل المشترك لتكريس ذلك الاستنزاف، واستخدام أدوات المقاطعة الدبلوماسية والعقوبات ضمنه.
لكن في الوقت نفسه، يمكن القول إنّ أستانا كانت قد وصلت مع نهاية العام 2019 إلى سقفٍ لم تتجاوزه جدياً حتى اللحظة؛ وذلك رغم الأهمية الكبرى لما حققته خلال ثلاث سنوات.

خمس مراحل

إذا حاولنا تقسيم المراحل التي مرت بها سورية منذ 2011 وحتى الآن (وهي مراحل متداخلة ويصعب الفصل بينها بتواريخ دقيقة بطبيعة الحال)، فربما يصح تقسيمها بالشكل التالي:

1- الأشهر الأولى بعد 15/3/2011: حركة احتجاجية سلمية بقسمها الأعظم، بالتوازي مع تدخل خارجي كان متركزاً في الجانب الإعلامي في حينه، والتصدي للحركة بالقمع.
2- نهاية 2011 حتى 30/9/2015: استمرار القمع وارتفاع مستواه، وارتفاع مستوى التسلح، والتحول إلى مرحلة الاقتتال الداخلي والتدخلات الخارجية العسكرية غير المباشرة عبر التمويل وعبر الإرهاب ومن ثم المباشرة بعد 2014، والتي كان الاستهداف الغربي ضمنها هو الوصول بسورية إلى النموذج العراقي/ الليبي؛ أي نحو إسقاط الدولة ككل وإنهاء وجودها، بذريعة إسقاط النظام...
3- 30/9/2015 حتى 30/10/2019: مع الدخول الروسي نهاية 2015، ومن ثم صدور 2254، بات واضحاً أنّ إنهاء سورية بالضربة القاضية لم يعد متاحاً، وجرى الانتقال غربياً إلى الاستنزاف العسكري عبر تمديد الصراعات القائمة إلى أطول مدى ممكن بحيث يُنجز بالنقاط ما كان مطلوباً إنجازه بالضربة القاضية. بالتوازي بدأ الانتقال الغربي من تبني شعار «إسقاط النظام» إلى تبني شعار «تغيير سلوك النظام»... نشأ خلال هذه المرحلة ثلاثي أستانا ابتداء من نهاية 2016، وباشر في العمل على مناطق خفض التصعيد، وتمكن من الوصول إلى وقف شبه كاملٍ لإطلاق النار أواسط 2019، وتمكن كذلك من الدفع نحو تشكيل اللجنة الدستورية ونحو عقد اجتماعها الأول نهاية تشرين الأول 2019.
4- 31/10/2019 حتى 16/6/2021: بعد انعقاد الاجتماع الأول للجنة الدستورية نهاية تشرين الأول 2019، أي قبل عامين تقريباً، ومع الظهور الفوري للسلوك المعطّل والتخريبي للمتشددين من الطرفين، وبالتوازي مع وصول أستانا إلى تحقيق وقف إطلاق النار، وهو السقف الذي لم تتجاوزه جدياً منذ ذلك الوقت، فقد انتقل مركز ثقل العمل الغربي نحو الاستنزاف الاقتصادي أداة أساسية في عملية «تغيير سلوك النظام». وكان قانون «قيصر» أحد العناوين الأساسية لهذه المرحلة، وكانت نتائجه خلال عامين شديدة الوضوح؛ فقد بلغت سرعة الانهيار الاقتصادي خلال هذين العامين 34 ضعف سرعة الانهيار الوسطية التي كانت عليها خلال الأعوام الثمانية التي سبقتها.
5- 16/6/2021 حتى الآن: مع لقاء بوتين بايدن في جنيف، وإطلاق «الحوار الإستراتيجي» بين البلدين وأحد بنوده الملف السوري، وبالتوازي مع بدء تنفيذ عملية الانسحاب وإعادة التموضع الأمريكي واسعة النطاق... فقد دخلت البلاد مرحلة جديدة حاسمةً، يتعمق فيها الاستنزاف الاقتصادي، ولكن تظهر على السطح حلولٌ خلّبية من نمط خط الغاز «العربي»، وتحركات سياسية إقليمية ودولية كثيفة، وذلك في إطار سباق محمومٍ حول ترتيبات الحل النهائي...

«حوار إستراتيجي»

لا شك أنّ قائمة الملفات الموضوعة على طاولة الحوار الإستراتيجي الروسي الأمريكي، هي قائمة طويلة وتشمل عدداً كبيراً من المواضيع والمناطق الجغرافية. ولا جدال في أهمية أن يصل حوارٌ من هذا النوع بين قوتين عظميين في عالم مدجج بالسلاح حتى أسنانه، إلى نتائج إيجابية.
مع ذلك، فإنّ ما لا ينبغي أن يغيب عن النظر في الإطار الإستراتيجي، هو الأمران التاليان:
أولاً: ليس خافياً أنّ إحدى غايات الأمريكان من الحوار مع الروس، وبالإضافة إلى إدارة ترتيبات إعادة التموضع، هي محاولة تأخير سرعة تطور التحالف الروسي الصيني؛ لأنّ سيناريو الاستفراد بروسيا أو بالصين كما جرى في القرن العشرين، بات مستحيلاً. وعلى النسق نفسه، فإنّ بين غايات الأمريكي عبر ترتيب وتقسيم الملفات أن يؤخر أو يعرقل أو يضعف ارتباطات روسيا مع شركائها الإقليميين، بما في ذلك إيران وتركيا.
ثانياً: وجود الحوار لا يعني أن الصراع قد جرى تجميده مؤقتاً، بل إنّ ما تظهره الوقائع على امتداد الخارطة العالمية، هو أنّ الصراع ما يزال مستمراً، بل إنه يزداد شدة حول ملفات بعينها، بينها الملف السوري، وإنْ لم يكن ذلك واضحاً على السطح.

إلهاء تكتيكي؟

مع بدء «الحوار الإستراتيجي»، بدا على السطح أنّ الأهمية النسبية لكلٍ من «أستانا» و«المجموعة المصغرة» قد تراجعت؛ فوجود حوارٍ مباشرٍ بين القوتين الأكبر ضمن المجموعتين، يمكن له أن يوحي بأنّ هذا الحوار هو أيضاً حوارٌ بين هاتين المجموعتين. ولكنّ الوقائع على الأرض، وخاصة خلال الشهرين الماضيين، تشير باتجاه مختلف...
فمن جهة، لم تتجاوز أستانا حتى الآن السقف الذي وقفت عنده نهاية 2019، (رغم أنّ نتائج قمة سوتشي الأخيرة بين بوتين وأردوغان لم تتضح بشكلٍ كامل بعد، وربما جرى فيها خرقٌ لم تظهر ترجمته بعد).
من الجهة المقابلة، فإنّ «المجموعة المصغرة» تعمل بشكل نشيطٍ جداً في المسألة السورية، ولكن دون أن يحمل ذلك النشاط يافطتها المعلنة؛ فنشاطها يجري الآن تحت يافطة «العمل العربي»، ونرى في واجهته الأردن ومن ثم الإمارات ومصر.
بين مؤشرات هذا النشاط الكثيف، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
1- تقدم الأردن كواجهة لحمل مشروع «خط الغاز العربي»، بمباركة أمريكية.
2- اقتران هذه الخطوة بإعفاءات معينة من العقوبات من الولايات المتحدة ومن بريطانيا.
3- الدور الإماراتي الذي وصل حدّ اشتراك سورية في معرض إكسبو دبي 2020 (والذي بدأ منذ أيام)، والذي يشترك فيه أيضاً «الكيان الصهيوني»!
4- محاولة تكثيف وترسيخ خطاب «عربي مودرن»، لا علاقة له بالخطاب القومي العربي التاريخي الذي ظهر في مرحلة التحرر الوطني؛ بل خطابٌ موجه ضد «الترك» و«الفرس»... وليس ضد الولايات المتحدة أو بريطانيا، بل وبالتحالف معهما... وبالتحالف العلني لقسم من مروجي هذا الخطاب من المطبعين مع الكيان الصهيوني...

1038-11

احتمالان

ضمن هذه الإحداثيات، فإنّ الحوار الإستراتيجي بما يخص سورية تحديداً، يظهر بوصفه عملاً أمريكياً ضمن سيناريوهين:
أ- إلهاء تكتيكي بحيث يجري الإيحاء بإمكانية الوصول إلى اتفاق كامل ولكن دون الوصول إليه، بالتوازي مع محاولة تغيير الأمور على الأرض بحيث يجري اقتلاع سورية من تموضعها الدولي باتجاه الضفة الأخرى، وبعدها يصبح الاتفاق ممكناً...
ب- في حال لم تنجح هذه المحاولة الأمريكية، فإنّ وجود الحوار يسمح بالعودة إليه ضمن رغبة حقيقية في التفاهم، حين يظهر لواشنطن أنّ الحل يمكن أن يتم دونها...

ما العمل؟

الحفاظ على دور سورية وتموضعها ليس مسألة شعارات فحسب، بل مسألة تتعلق بمستقبلها كدولة موحدة، والاتجاه الغربي لا يريدها كذلك بأية حالٍ من الأحوال. ما ينبغي العمل عليه بشكل أكثر كثافة هو أمران بالتوازي:
1- تكثيف عمل القوى الوطنية وتكثيف تقاربها بحيث تشكل حاجزاً أمام المخططات الغربية، بما في ذلك عبر الدفع المشترك نحو الحل السياسي ونحو التطبيق الكامل للقرار 2254.
2- على أستانا أن تتجاوز نفسها بأسرع وقت ممكن، وأنْ تنتقل إلى عملٍ نشيط عبر رفع مستوى التفاهمات البينية... وينبغي عدم الخضوع نهائياً لأدوات الابتزاز الغربي الاقتصادية وعلى رأسها ملفا العقوبات وإعادة الإعمار... وربما يصح في هذا السياق أن تدخل الصين كعنصر فاعل في الجانب الاقتصادي...

متى وكيف
سيكون الانسحاب الأمريكي؟

بالنسبة لمختلف الدول المتدخلة في الشأن السوري، فإنّ أحد العوامل الأساسية في قراءة الوضع وتطوراته، هو وجود العسكر الأمريكي على الأرض واحتمالات انسحابه، وتاريخ ذلك الانسحاب.
ومما لا شك فيه أن الأمريكي نفسه يستخدم ذلك الوجود بوصفه ورقة يفاوض عليها ويطلب مقابلاً لتركها. ولكن ما ينبغي أن يكون واضحاً في هذا السياق هو ما يلي:
1- رغم أنّ عملية الانسحاب وإعادة التموضع هي جزء من إستراتيجية شاملة تتعلق بالصراع الدولي الأساسي لواشنطن مع بكين، ولا يمكنها أن تتأخر لسنوات قادمة، إلا أنّ ذلك لا يعني بحالٍ من الأحوال أنّ الانسحاب سيتم من تلقاء نفسه. خاصةً أنّ الوجود العسكري الأمريكي في منطقة التنف بالتحديد، هو وجود قليل التكاليف والمخاطر نسبياً... (وهذا مختلف عن الوجود في الشمال الشرقي الذي تشير الوقائع إلى ارتفاع مضطرد في تكاليفه، وتالياً إلى احتمال الانسحاب منه أسرع من الانسحاب من التنف).
2- رغم وضوح حجم التراجع الأمريكي على الساحة العالمية ككل، فإنّ خسارتها في سورية ستعني خسارتها في كامل منطقة «الشرق الأوسط»، وخسارة بهذا الحجم لن تكون فاتحة مزيد من التراجع فحسب، بل ستكون خاتمة وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى؛ لأنّ القوة التي لا تملك نفوذاً جدياً في هذه المنطقة لا يمكنها أن تكون قوة عظمى بحالٍ من الأحوال.
3- على هذا الأساس، فإنّ المقابل الذي تريده واشنطن لانسحابها، والذي تستخدم هذه الأيام تعبير «تغيير سلوك النظام»، كشيفرة للتعبير عنه، إنما يعني بالجوهر ضمان أمن الصهيوني وضمان دمجه في المنظومة الإقليمية من موقع الحليف للمطبعين وللذين يسيرون نحو التطبيع، وذلك في وجه المنظومة الإقليمية الوليدة لأستانا، والتي باتت تنتمي بشكل واضح إلى الضفة المقابلة ضمن الصراع الدولي الأكبر.
4- الأدوات الأساسية التي يمتلكها الأمريكي في سعيه نحو إعادة ترتيب بهذا الاتجاه، تتضمن إلى جانب وجوده العسكري المباشر (الذي يمكن اعتباره أقل الأدوات أهمية في هذا السياق)، العقوبات والحصار وملف تمويل إعادة الإعمار، بالإضافة إلى المصالح الأنانية والضيقة للمتشددين من الأطراف السورية، والذين لا هم لهم سوى مصالحهم أياً تكن التكاليف.

حاصر حصارك

باختصار، فإنّ عملية الإلهاء التكتيكي التي يمارسها الأمريكي ضمن الحوار الإستراتيجي، تظهر الآن بوصفها تغطية على سباقٍ محمومٍ نحو إعادة ترتيب المنطقة بفرض أمر واقع يكون الصهيوني مركزه... وأي واقع يكون الصهيوني مركزه لن يكون إلا استمراراً للتبعية وللتخلف وللأزمات، بل ومفتاحاً لتفتيت المنطقة بشكل نهائي، وإبقائها احتياطاً غربياً ضمن الصراع الدولي إلى عقود لاحقة...
ضمن هذه الإحداثيات، فإنّ ما ينبغي على أستانا الذهاب نحوه بشكل فوري هو مباشرة تطبيق الحل السياسي وفقاً لـ2254، وبغض النظر عن الموقف الغربي، الذي سيضطر في حينه إلى الالتحاق، وسيتحول الإلهاء التكتيكي إلى حوار إستراتيجي فعلي.

ولكن هل الأدوات متاحة للقيام بذلك؟

بالنسبة للأوضاع الاقتصادية الكارثية، فإنّ الحلول الخلبية التي يقدمها الغرب ستكون في أحسن الأحوال نمطاً من سوليدير لبنان. وأما البديل فيتطلب عاملين:
فتح باب التغيير الجدي للبنية السياسية الاقتصادية السائدة المرتبطة بالغرب، والتي تنتقل بسرعة نحو إعلان ذلك الارتباط... وهذا الباب مفتاحه هو القرار 2254 نفسه.
تطوير التفاهمات بين الثلاثي وبين سورية بحيث يتم كسر الحصار عبر الحدود التركية والعراقية وصولاً إلى روسيا والصين. وفي حال جرى ذلك فإنّ الغرب لن تكون لديه أية أدوات جدية لمنع انتقال سورية نحو استقلال مكتمل للمرة الأولى، سياسي واقتصادي... وستكون كل عقوباته بلا أية قيمة فعلية...

(النسخة الإنكليزية)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1038
آخر تعديل على الخميس, 18 تشرين2/نوفمبر 2021 14:32