فوكوياما سورية... سورية بين 1990 -2010
ما علاقة فوكوياما بسورية؟! هذا ما سنحاول الإجابة عنه لاحقاً، ولكن قبل ذلك لا بد من التذكير بأن أحد الأسس النظرية لسلوك وخطاب كل النخبة السياسية الأمريكية بين عامي 1990 - 2010 وعلاقتها مع العالم هو فرضية «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» التي أطلقها فرنسيس فوكوياما عام 1989 وبلورها في كتابه الشهير الذي صدر عام 1992...
تعني تلك الفرضية بالدرجة الأساس، سيادة النموذج النيوليبرالي المعولم وانتصاره النهائي في الاقتصاد والسياسة والثقافة. الأمر الذي انعكس على سياسات وسلوك كل نخب دول الأطراف ومنها سورية، بأشكال ومستويات مختلفة، ومن هنا فإن مَنْ نعنيه بـ فوكوياما سورية هو كل من دفعته مصالحه، وبنيته الذهنية - النفسية إلى التكيّف مع سيادة النموذج الأمريكي، وحدد رؤيته على هذا الأساس. وهؤلاء في سورية «حزب معوّم» ومن طراز خاص، عابر للانقسام السياسي السائد: نظام – معارضة، وهو خليط عجيب وغريب، يكشف عن واحدة من المفارقات التي يتسم بها المشهد السوري، والتي لا تزال تفعل فعلها.
جاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان من حيث الشكل والدلالات نسفاً عملياً ونهائياً لمقولة نهاية التاريخ، بإجماع النخبة الثقافية والإعلامية الأمريكية، بمن فيهم فوكوياما نفسه الذي اعتبر أن ما جرى فى أفغانستان بمثابة: «نهاية ــ إقصائية ومبكرة ــ للهيمنة الأمريكية على العالم، وتحولٌ حاسم في تاريخ العالم»، وذلك ضمن ملف خاص في الإيكومونيست عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
هذه النهاية الدراماتيكية ليست حدثاً لذاته، وبذاته، بل تحمل الكثير من المعاني والتأويلات حول الماضي والراهن والمستقبل، على مستوى العالم ككل، وضمن كل بلد بشكل خاص، ومنها سورية التي كانت كالعادة أحد مختبرات التاريخ والجغرافيا لمصير أي مشروع دولي، ومن هنا كان من الضروري الوقوف عند انعكاسات فرضية نهاية التاريخ على النخب السورية، وعلاقة ذلك بالأزمة الراهنة.
نهاية التاريخ في سورية
بمراجعة بسيطة للتفاعلات التي جرت ضمن النخبة السورية من السلطة إلى المعارضة، إلى نخب الاغتراب الثقافي، خلال عقد التسعينات والعقد الذي تلاه، 1990- 2010، سنجد أشكالاً ودرجات متعددة من التكيّف في هذا الميدان- كلٌّ من موقعه ولغاياته الخاصة به - مع نزعة فوكوياما، أي مع الوضع الدولي الذي نشأ في حينه جرّاء الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي.
أولاً: في السلطة
من أحد أهم خصائص السلطة في سورية تاريخياً (إبداعها) في اللعب على التوازنات الدولية، وإدارة التناقضات الداخلية دون حلها، متكئة على الريع السياسي المستمد من المزايا التي تمنحها الجغرافيا السياسية لسورية كدولة، والذي يعتبر معطىً موضوعياً، ورأسمالاً سورياً ثابتاً، لا يحق لأحد العبث به، وتحويل هذا الريع إلى دور ووزن في شبكة العلاقات الإقليمية والدولية، ولكن مع الأسف تم تمييعه، واختزاله شيئاً فشيئاً إلى وطنية شعاراتية، عاجزة عن تحقيق الحد الأدنى من الضرورات الوطنية، وكأن وظيفتها الوحيدة أن تكون خيمة لتبرير بقاء السلطة كما هي.
عام 1992 – أي في عام نشر كتاب نهاية التاريخ - كان الاقتصاد السوري مهيأً من حيث بنيته، للتكيّف مع النزعة الفوكويامية؛ فرغم الشعارات السياسية، كانت السياسات الاقتصادية بمثابة مقدمات لهذا التكيّف حيث علاقات اقتصادية واسعة مع السوق الغربية: 74% من حجم التبادل التجاري، مقابل 11% مع الشرق، 14% مع الدول العربية في نهاية السبعينات.
ومنذ توقيع اتفاقية النفط المعروفة مع الشركة الأمريكية عام 1974 إلى تدفقات البترودولار بحجة قوات الردع في لبنان، إلى التوافق - الصفقة مع البرجوازية الدمشقية بعد أحداث الإخوان المسلمين، إلى فتح باب الاستثمار للقطاع الخاص، وإنشاء سوق للأرواق المالية، وفتح المجال للمصارف الخاصة للعمل على الأراضي السورية، بذريعة التحصيلات الضريبية في النصف الثاني من الثمانينات، إلى قانون الاستثمار عام 1991، إلى تجربة الشراكة الأوربية المتوسطية... كل ذلك أدى إلى تحولات بنيوية عميقة، وإلى عملية فك وإعادة تركيب الشرائح الطبقية التي كانت تعتبر حوامل نموذج رأسمالية الدولة...
أريد القول، إن السلطة كانت جاهزة تماماً من حيث بنيتها الطبقية بعد عام 1990 للتكيّف مع فلسفة «نهاية التاريخ»، وبدأ منذ ذلك الحين التخلي التدريجي عن الدور الاجتماعي للدولة، حتى كان الإعلان رسمياً عام 2005 عن تبني ما سمي بـ «اقتصاد السوق الاجتماعي»، فازداد تشوه النموذج المشوّه أصلاً، واندفع رجال أعمال السلطة رسمياً إلى السوق، وأزاحوا بقايا القوى التقليدية بالتدريج عن الواجهة، لصالح اقتصاد سوق احتكاري، ليضعوا بذلك أسس تصدّع كل شيء، بما فيها الطابع البونابرتي السابق للنظام السياسي، القائم على محاولة احتواء الكل، وإدارة تقاسم الثروة بين قوى السوق التقليدية، وشرائح بورجوازية السلطة، لصالح هذه الأخيرة وبطريقة استفزازية.
هذا النموذج سيتحول بعد تفجر الأزمة عام 2011 إلى ما يمكن أن نسميه باقتصاد «السلطة والتشبيح» لينتهي إلى ظاهرة أمراء الحرب، والشركات الأمنية، التي تمسك حالياً بزمام الاقتصاد والسياسة في سورية.
واستطراداً، اقتصاد السلبطة هذا، الذي يعود في حسبه ونسبه إلى التكيّف مع فلسفة نهاية التاريخ، هو الأب الروحي لتنامي ظاهرة القمع؛ فالقمع العاري والسافر الذي تمارسه السلطة، هو المعادل الطبيعي لهذا النموذج الاقتصادي القائم على النهب، ووظيفته حماية الناهبين. ليس ذلك فحسب، بل يمكن القول، إن هذا النموذج بمقدماته ونتائجه هو المستنقع الذي تنامت وترسخت على ضفافه ظاهرة الطائفية أيضاً، حيث تمركزْ الثروة لدى الشرائح البرجوازية المستحدثة سلطوياً بانتمائها الطائفي المعروف، بعد إزاحة أو تحجيم الشرائح التقليدية المعروفة هي الأخرى بانتمائها الطائفي، والحال هذه، فإن الظاهرة الطائفية في سورية التي كثر الحديث عنها في سنوات الأزمة، هي في جانب منها صراع لصوص ومزاحمة على السوق بالمعنى المباشر، خصوصاً بعد تضيّق هوامش الربح، ولا علاقة لها بالبنى الاجتماعية – الثقافية الشعبية السائدة تاريخياً في سورية...
وفي السياق نفسه، تكامل كل ذلك مع تنامي ظاهرة التهميش التي توسعت طرداً مع عملية التكيّف، لينتج عنها شريحة اجتماعية واسعة جداً، جلها من الفئات الشابة التي تمتلك شحنات وجدانية هائلة، على خلفية تصاعد القهر الاجتماعي والسياسي، تعاني اغتراباً مزمناً ومركباً، مادياً وروحياً، لتكون بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة... ضمن هذا السياق التاريخي، وبهذه المقدمات التي جاءت في إطار التكيّف، تم وضع الأساس المادي لكل الفوضى الراهنة، التي تكاد أن تطيح بوجود سورية كوحدة جغرافية – سياسية، عدا عن أنه كان انقلاباً على كل الذخيرة الدعائية التاريخية للنظام السياسي عن «الوحدة والحرية والاشتراكية»، وتخلياً عن القاعدة الاجتماعية للنظام.
بقي أن نقول هنا، إن هذا النموذج من التكيّف مع فلسفة نهاية التاريخ، هو نموذج استثنائي، وفيه الكثير من المفارقات، ويحتاج إلى المزيد من التحليل والتفكيك، وربما قاعدة بيانات أوسع تشمل ما هو غير ظاهر ومعروف حتى الآن، إذا أردنا فهم جميع جوانبه...
ثانياً: فوكوياما المعارضة التقليدية
أخذ تكيف المعارضة التقليدية شكلاً آخر، تجاوز الاقتصادي إلى السياسي المباشر، وبغض النظر عن أنها هي الأخرى – المعارضة - تبنّت ما أطلق عليه اقتصاد السوق الحر، إلا أن تكيّفها بالمنحى السياسي والدعائي كان أكثر وضوحاً وتأثيراً في بلورة هويتها المستجدة .
كانت واضحةً، ومنذ عام 1990، تلك النزعة «المتلبرلة» المشوهة التي بدأت تهيمن رويداً رويداً على العقل السياسي التقليدي المعارض، تحت راية المراجعات النقدية؛ فالمرحلة باتت «مرحلة الديمقراطية وحقوق الإنسان»، وحصراً عبر النموذج الذي يحاكي مقولة «قيم العالم الحر». وبدأت تتخلى عن كل إرثها الماركسي - القومي، فلا استكمال التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي بات على جدول الأعمال، ولا الموقف من منظومة التبعية بات ذا شأن، أما المسائل الوطنية العامة فبات موقعها في هوامش الخطاب السياسي لهذه المعارضة.
كل ذلك، استناداً إلى رؤية تقوم على عملية فصل ميكانيكية بين المهام الوطنية والاقتصادية الاجتماعية والديمقراطية، واعتبار هذه الأخيرة أولوية تخضع لها كل المهام الأخرى التي يفرضها الواقع الموضوعي على سورية، كما كان النظام يفعل تماماً، حيث حوّل «الخطر الخارجي على الوطن» إلى أولوية تخضع لها كل المسائل الأخرى، وتحويله إلى شماعة لممارسة ما يؤبّد سلطته ويديم نهبه. أما من جانب هذا القسم من المعارضة، باتت الديمقراطية السياسية وكأنها صنم يجب أن يُعبد، ويجب استحصالها بأي ثمن كان، حتى لو تطلب الأمر الاستعانة بأيٍّ كان، والانقلاب على بنيتها الفكرية والسياسية، أما من حاول أن يضعها في سياقها الصحيح فهو بمثابة كافر، يقام عليه الحد...
استمد هذا الرأي «مشروعية»، ووزناً معنوياً وأخلاقياً كبيراً جرّاء سلوك النظام في ملف الاعتقال السياسي والقمع الذي كان قد مارسه مع خصومه على مدى العقود السابقة، خصوصاً أولئك الذين لم يعد لديهم ما يخسرونه بالمعنى الشخصي، جرّاء الفظائع التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية، حيث اختلط هنا الجانب الذاتي مع رؤية فكرية سياسية مشوشة تحت ضغط بروباغندا (نهاية التاريخ) التي سادت في حينه، وحواملها الثقافية المحلية المعارضة، التي سنأتي على ذكرها لاحقاً.
المرحلة الثانية من التكيّف كانت مع «بيان الـ 99» الموقع في أيلول 2000، وهو البيان الذي تضمن بالفعل تناول قضايا ضرورية لسورية والسوريين فيما يتعلق بالحريات السياسية من رفع الأحكام العرفية وقانون الطوارئ إلى قضية المعتقلين وغيرها... إلا أنه جاء مستنداً إلى مقدمة ملتبسة وملغومة جاء فيها «تدخل سورية اليوم القرن الحادي والعشرين، وهي في أمس الحاجة لأن تتضافر جهود أبنائها جميعاً في مواجهة تحديات السلام والتحديث والانفتاح على العالم الخارجي»... ودون أن نستنطق هذه المقدمة، ونقرأ ما بين السطور، ربطاً بأحداث ووقائع تلك المرحلة، فإن المواقف اللاحقة لمن صاغ البيان، ستوضح لنا ماذا كان المقصود بالضبط بتلك المقدمة، فالديمقراطية ليست حاجة سورية لكي يستطيع السوريين من خلالها لجم قوى النهب والفساد في السلطة والمجتمع التي أفقرتهم مثلاً، ولا في إنتاج وحدة وطنية حقيقية، بعد أن شوهتها سياسات النظام، بحيث تكون قادرة على عبور مرحلة الاضطراب السياسي الذي نتج عن تغير التوازنات الدولية، بل لـ «مواجهة تحديات السلام، والتحديث، والانفتاح على العالم الخارجي».
وجاء بيان الألف عام 2001 ليعزز هذا التوجه، حتى أخذ التكيّف شكله الصارخ من جهة التيار الديمقراطي مع إعلان نظرية «الصفر الاستعماري» عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، ليتكامل ويتزامن ذلك مع مقولة (شمس الحرية أشرقت) على العراق، على لسان الجناح الآخر للمعارضة (الإخوان المسلمين)، وهي المقولة التي تعتبر بالنسبة للجماعة تأصيلاً للتكيّف الذي كان موجوداً على الدوام ومنذ نشوئها، وإن كان يأخذ شكل «التقية» غالباً.
ثالثاً: العرّاب
«هيئة أركان» الحرب في انزياح «المعارضة الديمقراطية» عن موقعها التاريخي الذي تأسست عليه، كان نموذج المثقف المغربن: المبهور بالنموذج الأمريكي، غربي الإقامة والسِفارات غالباً، ذات الهالة الأكاديمية – المعرفية، والتثاقف «القادر» على تبرير كل شيء، استناداً إلى قاعدة بيانات شاملة وفّرتها «الأوكار» المسمّاة بمراكز الأبحاث، وعطايا مضافات إعلام البترودولار.
هذا النموذج لعب دور قوى النفوذ – التأثير غير التقليدية، التي تحكمت باتجاه التغيرات التي طرأت على العقل السوري المعارض التقليدي، حتى إنه في لحظة سياسية ما، كانت حدة خطاب هؤلاء اتجاه النظام تتغير تبعاً لموقف الغرب منه، والموقف الفرنسي خصوصاً. والغريب أن هذا النموذج نفسه، سيصبح في بداية تفجر الأزمة وخلال تشكيل هياكل «معارضة القص واللصق» في اسطنبول والدوحة، الستارة التي يتسلل من خلفها كل الحطام السياسي السوري إلى واجهة المشهد: من تيارات دينية طائفية، إلى يسار شعبوي، يبني كل تصوراته كرد فعل على بطش النظام فقط، إلى «الثوار» الطارئين من بطانة النظام الفاسد؛ أي إن المثقف المتمظهر حداثياً، ليبرالياً، ديمقراطياً، أمام الرأي العام السوري، لعب عملياً دور عراب ومسوّق لكل الرذالة السياسية التي تجسدت في الائتلاف وما انتهى إليه بآخر المطاف، ليتصدر المشهد المعارض، وتبتلى به الحركة الاحتجاجية السلمية وكل سورية، ويكون أحد أسباب إجهاضها وتشويهها، وبالتالي أحد حوامل الفوضى الراهنة وأسسها، إلى جانب النموذج الاقتصادي - السياسي الذي أنتجه تطور النظام، كما أسلفنا.
فوكويا سورية – وفوكوياما أمريكا
ها هو فكوياما الأمريكي، يحسم الجدل حول تصوراته تلك، والتي كانت على مدى عقدين، ساحة حرب ثقافية - إعلامية ضروس بين من اقتنع بها وعمل على أساسها، وبين من شكك بها ورفضها ودعا إلى مواجهتها. وعلى الرغم من أن صاحب (نهاية التاريخ) كان قد حاول ومنذ سنوات وخصوصاً بعد أزمة 2008، استدراك تلك الآراء القطعية في الحكم على مسار التاريخ والتراجع عنها، إلا أن العقل الدّوني التابع المأزوم، المهزوم واقعاً، والمنتصر توّهماً، استمر في اجترار ذاك التفسير البدائي المدرسي لمقولة نهاية التاريخ، أو على الأقل قولب نفسه مع الرؤى الأمريكية، وحدد مواقفه على هذا الأساس، من كل التطورات السياسية في سورية والعالم، إلى أن جاءت صور مطار كابول، لتحدث صدمة في وعي هذا العقل، وتدخله في مأزق وتجعله «يضرب أخماساً بأسداس» دون أن يفهم مرة أخرى حقيقة ما يجري، وليفسر هذا الانعطاف التاريخي ثانية على طريقة «سوالف الربعة» من البعض، أو بطريقة انتهازية بائسة، تحاول الاعتياش على ما تبقى من هوامش النفوذ في النموذج المهزوم، وفي الوقت نفسه الاستفادة من خصومه من قوى دولية صاعدة من البعض الآخر. وعلى كل حال، التطورات والوقائع الملموسة المستجدة واللاحقة والمتسارعة كما نظن، كفيلة برمي كل استطالات الخطاب الفوكويامي في بلدان الأطراف ومنها سورية إلى مزبلة التاريخ، كما كان حالها في المركز الأمريكي، لصالح نموذج جديد قائم على ديمقراطية حقيقية، وعملية تغيير شاملة، يدخل من خلالها الشعب السوري إلى فضاءات الحرية والتقدم الاجتماعي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1038