«الإعمار السوري المستحيل» بمعية صندوق النقد والبنك الدوليين
بينما تحاول سورية الخروج من أتون أكثر من 14 عاماً من الحرب المدمرة، نشهد اليوم ترويجاً حثيثاً لاعتقاد زائف مفاده أن إعادة إعمار البلاد تعتمد على التعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين. ويحاجج مؤيدو هذا الطرح بإمكانية أن تضخ هذه المؤسسات رؤوس الأموال وتدفع بالاقتصاد وتعيد بناء البنى التحتية المدمّرة. لكن التاريخ يكشف حقيقة مختلفة تماماً: من أقصى العالم إلى أقصاه، أدت تدخلات صندوق النقد والبنك الدوليين في عمليات إعادة الإعمار بعد الحروب والأزمات إلى تفاقم التراجع الاقتصادي، وزرعت فخ الرضوخ للديون، وأعطت الأولوية للمصالح الأجنبية على حساب الاحتياجات المحلية. ما سنناقشه هنا هو أن إلقاء نظرة أولية على بعض الدول التي استسلمت لهذه السياسات كفيل بأن يثبت أن اعتماد سورية على هذه المؤسسات هو وهم يتم تسويقه لتضليل السوريين ودفعهم للقبول بما يخالف مصلحتهم الوطنية.
قد يشعر بعض السوريين المنهكين من الحرب وتبعاتها بالإغراء من الخطابات البراقة التي تعد بأن حزمة من صندوق النقد أو البنك الدولي ستجلب الوظائف والمساعدات. لكن هذا التفاؤل يتجاهل السجل المظلم لتلك المؤسسات في الدول التي تدخلت فيها. فمن مصر إلى الأرجنتين، ومن باكستان إلى الإكوادور، لا نزال نشهد دوامة مدمِّرة من الاعتماد المتزايد على هذه المؤسسات تُنتج انخفاضاً مريعاً في مستويات المعيشة وأزمات اقتصادية وتضخمات اقتصادية جامحة، وانهيارات للعملات، وكوارث مالية مفجعة. وفي بلدان كثيرة، شهد الناس دولهم تنهار تحت وطأة شروط صندوق النقد، فواجهوا ليس فقط ارتفاع الأسعار بل وتهديدات جدية لأمنهم الاقتصادي والوطني.
لماذا تحدث هذه النتائج؟ ببساطة لأن صندوق النقد والبنك الدولي ليسا مؤسسات خيرية، قروضهما تُصرف عادةً على مراحل، مشروطة بتنفيذ الحكومات «إصلاحات» اقتصادية معينة. ورغم محاولات تسويق هذه «الإصلاحات» بوصفها إجراءات ضرورية لتعزيز النمو، فإنها في الواقع تعني غالباً صدمات اقتصادية قاسية يتحملها المواطنون، حيث تُجبر الحكومات على تقليص الإنفاق العام بما في ذلك على الخدمات الأساسية، وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية مما يؤدي إلى ارتفاع حاد في أسعار الوقود والكهرباء والغذاء، وتسريح موظفي القطاع العام، وخصخصة المؤسسات العامة، وفتح الأسواق دون ضوابط وطنية أمام المستثمرين الأجانب.
العراق يحصل على «ختم الموافقة»
بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، وُعد العراق بعملية إعادة إعمار هائلة لتحويله إلى «ديمقراطية مستقرة ومزدهرة». وسرعان ما دخل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى المشهد لتوجيه الاقتصاد العراقي، وتم ضخ أكثر من 60 مليار دولار كمساعدات دولية.
للوهلة الأولى، بدا أن العراق بدأ يتلقى المساعدة التي يحتاجها بشدة: قروضاً، وإعفاء من الديون، و«ختم موافقة» دولي لفتح الباب أمام مزيد من المساعدات. لكن الشروط المرتبطة باتفاقية صندوق النقد كشفت الثمن الحقيقي لهذه المساعدة. كانت المكونات الأساسية للبرنامج تشمل: خفض الدعم الحكومي (ولا سيما على الوقود)، وإعادة هيكلة ديون العراق وبنوكه العامة، وتنفيذ إجراءات تحرير اقتصادية. وكانت النتيجة الفورية هي زيادة حادة في أسعار الوقود للمواطنين العراقيين. وبسبب إصرار صندوق النقد على إنهاء الدعم، قامت الحكومة العراقية برفع أسعار البنزين والديزل المدعومة بنسبة تصل إلى 200% دفعة واحدة.
بالنسبة لشعب خرج لتوه من أهوال الحرب والبطالة، كانت هذه الخطوة ضربة موجعة. فخلال أيام قليلة، اندلعت احتجاجات على الوقود في مختلف أنحاء البلاد، حيث ثار العراقيون ضد القفزة المفاجئة في تكاليف النقل والتدفئة.
واللافت أن الاتفاقية مع صندوق النقد تمت بطريقة ضربت بعرض الحائط وعود الديمقراطية العراقية. حيث تمت الموافقة «بهدوء» على القرض بعد أسبوع فقط من الانتخابات العراقية في ديسمبر 2005، خلال فترة انتقالية كانت فيها حكومة تصريف أعمال مؤقتة قائمة، أي أن الحكومة المؤقتة استبقت خيارات الحكومة المنتخبة التالية عبر التزام مسبق لشروط صندوق النقد.
ما الذي جناه المواطن العراقي العادي من هذه «الإصلاحات»؟ بحلول عامي 2006–2007، كانت البنية التحتية لا تزال مدمرة، وإنتاج الكهرباء، على سبيل المثال، كان أقل بكثير من مستويات ما قبل الحرب، والعديد من المصانع التي كانت مغلقة جزئياً جرى إغلاقها نهائياً. أما الاستثمار الأجنبي المنشود فلم يتحقق بسبب العنف المتواصل والاضطرابات الاجتماعية التي تفاقمت بفعل السياسات الاقتصادية غير العادلة اجتماعياً.
نتيجة لهذا كله، فقد أكثر من 500,000 عامل وظائفهم حيث تم بيع الصناعات لشركات أجنبية، مما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة (بلغت ذروتها عند 30% في عام 2010). ورغم الفقر الناجم عن الحرب، فرض صندوق النقد الدولي قيوداً على الإنفاق الصحي والتعليمي، مما أدى إلى تدمير الخدمات العامة، وبحلول عام 2019، كان 23% من العراقيين يعيشون تحت خط الفقر. وارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في العراق إلى 90% بحلول عام 2020، حيث تم تحويل الأموال اللازمة لسداد الديون بدلاً من زجها في إعادة الإعمار.
والنتيجة أن سماء بغداد اليوم لا تزال مليئة بالرافعات الأجنبية التي لم تبنِ منازل للعراقيين، بينما تتدفق عائدات النفط التي تسيطر عليها شركات أجنبية إلى الشركات متعددة الجنسيات.
كابول تحت القصف الاقتصادي: هندسة الانهيار الأفغاني
بعد سقوط نظام طالبان عام 2001، تحولت أفغانستان إلى مختبر ضخم للمساعدات الدولية، بما في ذلك برامج صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. على مدار عقدين، تدفقت عشرات المليارات من الدولارات إلى البلاد. ظاهرياً، كان الهدف من هذا المشروع الضخم للمساعدات هو انتشال الأفغان من الفقر وتأسيس دولة مستقرة. لكن عندما انخفض الدعم الأجنبي، انهار اقتصاد أفغانستان بين عشية وضحاها، كاشفاً أن التنمية الفعلية لم تصل إلى الشعب الأفغاني.
خلال فترة الوجود الدولي، كانت المالية العامة الأفغانية تعتمد بشكل مفرط على الأموال الخارجية. وفق بعض التقديرات، فإن نحو 75% من الإنفاق العام في أفغانستان كان ممولاً من المساعدات الأجنبية، والتي شكلت في بعض السنوات أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي.
على الورق، شهد الناتج المحلي الإجمالي لأفغانستان نمواً ملحوظاً في العقد الأول من القرن، بفضل تدفق الأموال وازدهار قطاع الخدمات في كابول. وكان صندوق النقد غالباً ما يثني على السلطات الأفغانية لحفاظها على التضخم المنخفض واستقرار العملة. لكن هذه المؤشرات الاقتصادية المبهرة كانت تخفي واقعاً مريراً: لم يصل النمو إلى معظم الأفغان، وظل الفقر مستشرياً.
حتى في ذروة التدخل الدولي، كان أكثر من نصف السكان الأفغان يعيشون تحت خط الفقر الوطني. وقد أقر البنك الدولي نفسه بأن «حتى في سنوات النمو الاقتصادي المرتفع، لم تنخفض معدلات الفقر، لأن النمو لم يكن لصالح الفقراء». فالجزء الأكبر من المساعدات دار في فقاعة ضيقة هي عبارة عن تحالف «المنظمات غير الحكومية» والمتعهدين والنخب المالية في كابول دون أي تنمية شاملة طالت المواطنين. والأهم، أن المساعدات لم تُوجه لبناء اقتصاد أفغاني قائم على الاكتفاء الذاتي (مثل إحياء الزراعة أو الصناعة المحلية)، بل أصبحت أفغانستان تعتمد على اقتصاد استهلاكي قائم على الاستيراد وممول بالمساعدات، يملؤه الفساد، بما في ذلك فضائح ضخمة مثل انهيار بنك كابول عام 2010، حيث تم اختلاس مئات الملايين رغم وجود مستشارين دوليين لسنوات.
عندما انسحبت القوات الأجنبية في 2014، انهار النموذج الهش: تراجع النمو الاقتصادي من متوسط 9.4% (2003–2012) إلى نحو 2% فقط بعد عام 2014، وانخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي، وارتفعت معدلات البطالة. وبحلول انهيار الجمهورية الأفغانية في آب 2021، كان أكثر من 90% من الأفغان يعيشون في الفقر أو على حافته، مع انكماش الاقتصاد وتوقف النظام المصرفي عن العمل. باختصار، تبخر مشروع بناء الدولة الذي أُقيم تحت إشراف صندوق النقد والبنك الدولي في غضون أسابيع.
كيف انفجر «النموذج المثالي» الأرجنتيني؟
بينما تُظهر حالتا العراق وأفغانستان سيناريوهات ما بعد الحرب، تقدم الأرجنتين مثالاً شديد الدلالة من سياق مختلف، فهي لم تخرج من صراع مسلح، لكنها واجهت انهياراً اقتصادياً كارثياً في عام 2001 بعد سنوات من تبني سياسات أوصى بها صندوق النقد الدولي. وتجربة الأرجنتين مهمة لأنها تُظهر كيف يمكن لاقتصاد أن ينهار ومجتمع أن ينفجر عندما تُفرض إجراءات تقشفية شديدة في ظل أزمة.
في التسعينيات، كانت الأرجنتين تُعتبر «نموذجاً مثالياً» في نظر صندوق النقد والبنك الدولي، حيث خصخصت صناعاتها، وربطت عملتها بالدولار، وأخذت قروضاً ضخمة للحفاظ على هذا النظام. لكن بحلول عام 2001، أصبح هذا النموذج غير قابل للاستمرار: دخلت البلاد في ركود عميق، وعجزت عن سداد ديونها، فتدخل صندوق النقد في 2000–2001 بحزم «إنقاذ» متتالية، لكنه أصر في كل مرة على مزيد من إجراءات التقشف. وبلغت الأزمة ذروتها في كانون الأول 2001، حين أجبرت الحكومة، تحت ضغط صندوق النقد، على تجميد الحسابات المصرفية التي عُرفت بسياسة «كوراليتو» لمنع انهيار البنوك، مع خفض حاد في الإنفاق العام لتحقيق أهداف العجز. كانت النتيجة انفجاراً شعبياً غير مسبوق، حمل شعار «فليرحلوا جميعاً»، وانتهى بفرار الرئيس، فرناندو دي لا روا، بطائرة هليكوبتر بينما كانت أعمال العنف تتصاعد ويسقط العشرات من القتلى في مواجهات مع الشرطة.
كانت الكلفة الإنسانية لسياسات صندوق النقد مدمرة: انكمش الاقتصاد بنحو 20% بين عامي 1998 و2002، وهو واحد من أعمق الانهيارات في التاريخ الحديث. وقفزت البطالة إلى أكثر من 20%، وتراجعت الأجور الحقيقية بنسبة 18%. وسقط أكثر من 50% من الأرجنتينيين تحت خط الفقر خلال الأزمة، وعاش 7 من كل 10 أطفال في فقر مدقع.
بالنسبة لسورية، التي طبقت في زمن بشار الأسد معظم وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين حتى دون أن تأخذ قروضاً وازنة حتى، تقدم تجربة الأرجنتين تذكيراً قوياً بأن الانهيار الاقتصادي، عندما يُقابل بإجراءات تقشفية صارمة من صندوق النقد، يمكن أن يقود إلى اضطرابات اجتماعية عنيفة. وإذا كان بلد بحجم الأرجنتين، باقتصاده المتقدم نسبياً، قد شهد نصف سكانه يسقطون في الفقر تحت تأثير تلك الإجراءات، فيمكن أن نتخيل حجم المأساة في سورية التي لم تخرج تماماً بعد من حرب طاحنة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1224