أحمد الرز
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
استضاف قصر الشعب في دمشق، يوم الخميس الماضي 24 تموز 2025، فعاليات منتدى الاستثمار السعودي السوري بحضور رسمي رفيع المستوى من الجانبين. ويُعد هذا المنتدى الأول من نوعه بين البلدين منذ سنوات طويلة، مما أكسبه أهمية خاصة. وفي ختام المنتدى، أعلنت الحكومة السورية توقيع مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم (نحو 47 اتفاقية ومذكرة) في مختلف القطاعات، بقيمة إجمالية تُقدَّر بنحو 6.4 مليارات دولار أمريكي. بطبيعة الحال، أثار هذا الرقم الضخم اهتماماً واسعاً، لكنه في الوقت نفسه ترك أسئلة مفتوحة حول طبيعة تلك الاتفاقيات، إذ لم يتضح بعد بشكل دقيق ما هي حصة الاتفاقيات النهائية المبرمة فعلياً ضمن هذا الرقم، وما هي حصة مذكرات التفاهم المبدئية التي قد يتم التفاوض عليها لاحقاً أو ربما لا يتم تفعيلها على الإطلاق. وبالتالي فإن المحصلة المُعلَن عنها، رغم ضخامتها على الورق، تستدعي قراءة متأنية لتمييز الالتزامات الحقيقية عن مجرد النوايا المعلنة.
الآن، وبعد عقودٍ من دمار الاقتصاد السوري الممنهج تحت حكم عائلة الأسد، يتفق السوريون بمختلف انتماءاتهم على أن القضاء على الفقر يشكل الأولوية القصوى لإعادة بناء سورية. لقد أدت سياسات النظام السابق، التي طبقت فعلياً وصفات اقتصادية نيوليبرالية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالإضافة إلى الحرب والعقوبات الغربية المدمرة، إلى انهيار الاقتصاد وتدمير البنية التحتية، فضلاً عن نزوح الملايين وعجز غالبية السكان عن تأمين احتياجاتهم الأساسية. وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2025، يعيش تسعة من كل عشرة سوريين تحت خط الفقر، و66% منهم في فقر مدقع. اليوم، مع سقوط السلطة السابقة، نتفق على ضرورة تركيز جهود إعادة الإعمار على إنهاء الفقر كخطوة نحو الاستقرار الفعلي. لكن ربما ما نختلف عليه هو الطريقة.
في التاسع من تموز 2025، أعلنت الرئاسة السورية عن ستة مراسيم جديدة دفعة واحدة، كان من بينها مرسوم يقضي بتعديل بعض مواد قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021، القانون الذي يشكّل الإطار التشريعي الأساسي للعملية الاستثمارية في البلاد. وقد حمل هذا التعديل الجديد أهمية استثنائية في السياق السوري الراهن بالنظر إلى أنه يأتي في مرحلة بالغة الحساسية من تاريخ البلاد، مرحلة يُفترض بها أن تشهد مراجعة جذرية وشاملة لسياسات السلطة السابقة، لا إعادة إنتاجها. وما يزيد من حساسية الموضوع هو أن سورية ما تزال تفتقر إلى مؤسسات تمثيلية شرعية قادرة على مساءلة السلطة التنفيذية أو مراجعة خياراتها، في ظل غياب مجلس شعب منتخب، واستمرار تمركز القرار في يد السلطة التنفيذية. وبالتالي، فإن تعديل قانون الاستثمار لا يمكن النظر إليه كمسألة تقنية أو قانونية محضة، بل يجب قراءته بوصفه جزءاً من معركة أوسع حول مستقبل الاقتصاد السوري وطبيعته.
شهدت السياسات العامة في سورية تحت حكم الأسد - وفي القلب منها منظومة الأجور والدعم الاجتماعي - تحولاً تدريجياً نحو تفكيك منظومة الدعم الاجتماعي التي كانت تُعتبر إحدى الركائز الأساسية للاستقرار النسبي للدولة في العقود السابقة، ونحو تخفيض القيمة الحقيقية لأجور العاملين. ولم يكن هذا التحول فجائياً أو معلناً بوضوح، بل اتبع أساليب احتيالية اعتمدت على تقليص الدعم بصورة تدريجية بطرق مباشرة وغير مباشرة: ابتداءً من تقليص مبالغ الدعم التي كانت تُدرَج في موازنات الدولة، إلى تضاؤل الإنفاق الفعلي على بنود الدعم الاجتماعي، وصولاً إلى الإلغاء الكامل للدعم عن بعض السلع والمواد الأساسية، إما بوقف توزيعها عبر «البطاقة الذكية» سيئة الذكر، أو بإعلانات رسمية عن انتهاء دعمها مثلما حدث مع البنزين.
يحمل كثير من السوريين صورةً نمطية سلبية عن القطاع العام، مفادها أنه قطاع مترهل وفاشل ومحكوم بالخسائر المزمنة. وتُعزَّز هذه الصورة عبر الخطاب الرسمي والإعلامي الذي دأب لعقود على وصف مؤسسات الدولة بـ«الخاسرة» وعديمة الجدوى. فلا يكاد يُذكر القطاع العام إلا مقروناً بمفردات مثل البيروقراطية والفساد وضعف الإنتاجية، مقابل تمجيد متزايد لدور القطاع الخاص. ومما رسّخ هذه النظرة أن الكثير من شركات ومصانع الدولة شهدت تراجعاً فعلياً في الأداء والخدمات خلال العقود الماضية، وانخفضت قدرتها التنافسية، الأمر الذي عزاه البعض إلى كون الملكية العامة بطبيعتها غير كفؤة اقتصادياً. وهكذا، ترسّخت فكرة أن القطاع العام في سورية عاجز تماماً عن تحقيق النمو أو الربح، وأن الاعتماد عليه مضيعة للموارد، مما ولّد قناعة شعبية بأن الحل هو التخلي عنه لصالح قوى السوق والخصخصة. ويغذي هذه القناعة واقع المعاناة اليومية للمواطن في الدوائر الرسمية المزدحمة والإجراءات الورقية المطوّلة، حيث باتت مفردات الترهل والجمود ملازمة لصورة الموظف الحكومي والمنشأة العامة في الذهن السوري.
كان الأمن الغذائي تحدياً استراتيجياً طويل الأمد بالنسبة لسورية على مرّ تاريخها، وهو يعكس ليس فقط قدرة البلاد على إنتاج غذائها محلياً بل أيضاً على تعزيز سيادتها الوطنية. ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي، اعتمدت سورية سياسات زراعية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، مما جعلها واحدة من أكثر الدول استقراراً في منطقة شرق المتوسط من حيث الإمدادات الغذائية. وفي التسعينيات، تمكنت سورية - وفقاً للمعطيات المعلنة - من تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في إنتاج القمح، وهو المحصول الأساسي الذي اعتُبر ركيزة الأمن الغذائي الوطني. لكن مع دخول الألفية الجديدة، واجهت الزراعة السورية تحديات متزايدة نتيجة تحول نظام الأسد نحو النيوليبرالية، وضعف البنية التحتية المائية، والجفاف الذي ضرب البلاد في الفترة ما بين 2006 و2010.
مع تخفيف العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على سورية، دخلت البلاد مرحلة جديدة يأمل فيها السوريون إعادة بناء اقتصاد دولتهم وبنيتها التحتية. في ذروة هذا المشهد، أظهرت السلطات القائمة توجهاً واضحاً نحو جذب الاستثمارات الأجنبية كوسيلة «لإنعاش» الوضع الاقتصادي الذي عانى من الصراع والعزلة الدولية الطويلة. يرى بعض مؤيدي هذا التوجه أن هذه المرحلة فرصة حاسمة «لتذليل العقبات» أمام المستثمرين الأجانب، الذين يُعتقد أنهم قادرون على «إخراج الزير من البير» من خلال توفير رأس المال والتكنولوجيا والخبرات اللازمة للقطاعات الرئيسية، ويراهنون على أن هذا النهج يمكن أن يسرّع عملية التعافي ويخلق فرص عمل ويحسّن مستوى معيشة السوريين. في الوقت ذاته، يرفع الحريصون على البلاد أصواتهم عالياً محذرين من مخاطر الاعتماد على رأس المال الأجنبي، خاصة في القطاعات الاستراتيجية، بشكلٍ يقود إلى فقدان السيطرة على الموارد الوطنية وتفاقم مشكلة الفقر في سورية.
إذا كان ما يجمع السوريين اليوم من مختلف الخلفيات، وبعد عقودٍ من الدمار الاقتصادي الممنهج تحت حكم عائلة الأسد، فهو اتفاقهم على أن القضاء على الفقر هو الأولوية الأولى لإعادة بناء سورية. حيث أدت سياسات النظام السابق، التي اعتمدت فعلياً على تطبيق وصفات اقتصادية نيوليبرالية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلى جانب الحرب المدمرة والعقوبات الاقتصادية الغربية، إلى انهيار الاقتصاد السوري وتدمير البنية التحتية ونزوح الملايين وجعل غالبية السكان غير قادرين على تلبية احتياجاتهم الأساسية. وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2025، يعيش تسعة من كل عشرة سوريين تحت خط الفقر، بينما يعيش 66% منهم في فقر مدقع. اليوم، مع سقوط السلطة السابقة، نتفق على ضرورة أن تركز جهود إعادة الإعمار على إنهاء الفقر كخطوة نحو الاستعادة الفعلية للاستقرار. لكن ربما ما نختلف عليه هو: كيف؟
نظّمت غرفة تجارة دمشق، يوم الخميس 22 أيار 2025، محاضرة اقتصادية بعنوان «كيف حققت الحرية الاقتصادية وسياسات اقتصاد السوق الحر الرخاء لـ 1.4 مليار صيني وأفادت العالم؟»، قدمتها مديرة العلاقات الخارجية لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في معهد أكتون Acton، لي سكوللاند، وهي - كما تشير نتائج البحث عنها - أمريكية من أصول صينية كرست حياتها، منذ انتقالها للعيش في الولايات المتحدة، للحديث عن «تجربتها» بوصفها «ناجية» من «فظائع الحزب الشيوعي الصيني»، ولنشر الفكر الليبرالي في العديد من دول العالم. وفي مقابلاتها الإعلامية السابقة، غالباً ما يجري التأكيد على «ارتباطاتها الوثيقة بعدد من المنظمات الدولية، وعلاقاتها القوية مع نخبة من الاقتصاديين حول العالم».
واجه الاقتصاد السوري على مدى السنوات الماضية سلسلة من التراجعات المتسارعة التي تفاقمت بشكل كبير بفعل انفجار الأزمة عام 2011، مع ما شهدته السنوات اللاحقة من أوسع عقوبات اقتصادية غربية فرضت على سورية تاريخياً. وقد أدى هذا التلازم بين السياسات الاقتصادية لنظام الأسد والعقوبات الغربية التي ساعدته في مراكمة المزيد من الثروات على حساب السوريين، إلى تدمير واسع النطاق لبنية الاقتصاد السوري، وبشكل خاص قطاعاته الأكثر حساسية كالصناعة والزراعة والطاقة والصحة والتعليم. في المحصلة، بات يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر وفق وكالات الأمم المتحدة. وفي خضم هذا الوضع الاقتصادي القاتل، جاء إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن نيته رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على سورية بمثابة نقطة تحول محتملة. وقد استقبل السوريون هذا الإعلان بمزيج من التفاؤل الحذر والأمل في إمكانية حدوث تحسن ملموس في الأوضاع الاقتصادية التي طال أمدها وأرهقت كاهل المواطنين.