أحمد الرز
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
يُرجّح كثيرون أن التدهور الاقتصادي في سورية بدأ عام 2011، مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية وتصاعد الصراع ضد نظام الرئيس السابق بشار الأسد. ويستند هذا التصور إلى جملة من المؤشرات والإحصاءات التي تظهر أن عام 2010 شكّل «ذروة» الأداء الاقتصادي في البلاد، ما يجعل من العام التالي نقطة الانكسار الكبرى. إلا أن هذا السرد يُغفل جانباً حاسماً من الحقيقة وهي أن الانحدار الاقتصادي لم يكن وليد لحظة سياسية أو أمنية بعينها، بل نتيجة مسار طويل من السياسات الاقتصادية الليبرالية التي بدأت تتبلور منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وبلغت أوجها خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. في تلك السنوات، شهدت البلاد موجة من «الإصلاحات» التي وصفت آنذاك بالضرورية للانفتاح والاندماج في الاقتصاد العالمي، لكنها في جوهرها كانت تعني انسحاب الدولة من مسؤولياتها الاقتصادية الاجتماعية، وفتح الباب أمام مركزة الثروة بشكل أكبر وازدياد الفجوة الطبقية في المجتمع، وهو ما شكّل الأساس الفعلي لانفجار لاحق لم يكن الاقتصاد إلا أحد أبرز ضحاياه.
يوم الخميس الماضي، 7 آب 2025، ألقى وزير الاقتصاد والصناعة السوري، محمد نضال الشعار، تصريحات صحفية على هامش لقائه بالجالية السورية في مدينة اسطنبول التركية، وذلك خلال زيارة عمل قام بها على رأس وفد اقتصادي موسع. لم تكن هذه التصريحات خارجة عن سياق المألوف، بل عكست أفكاراً مكررة ومتداولة على ألسنة مسؤولي السلطة الحالية بمختلف مستوياتهم وفي مناسبات عدة، بشكلٍ يوحي أنها تمثل الرؤية الرسمية للسياسة الاقتصادية في البلاد. وقد انصبت التصريحات على ثلاث نقاط رئيسية تستحق التحليل والبحث.
شهدت دمشق يوم 24 تموز 2025 انعقاد المنتدى الاستثماري السوري - السعودي الأول من نوعه منذ سقوط السلطة السابقة، وذلك بمشاركة وفد سعودي رفيع المستوى وشركات من الجانبين. خلال المنتدى وزعت محافظة دمشق على المستثمرين السعوديين كتيباً حمل عنوان «حقيبة المشاريع الاستراتيجية»، وهو عبارة عن مجموعة من «الفرص الاستثمارية» من إعداد دائرة الاستثمار وتطوير الأعمال التابعة للمحافظة. وبعيداً عن تفاصيل هذه الفرص وكونها تشمل تحويل العديد من الأماكن الحساسة في دمشق، مثل أبنية وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة وأرض معرض دمشق الدولي القديم وغيرها الكثير إلى مشاريع سياحية وعقارية ليست ذات أولوية ولا ذات جدوى في الوضع السوري، كان من المثير للانتباه أن معظم هذه المشاريع - التي من المفترض بها أن تجذب المستثمرين - حُدٍّدت لها نسب عائدية على الاستثمار لا تتجاوز 10%.
استضاف قصر الشعب في دمشق، يوم الخميس الماضي 24 تموز 2025، فعاليات منتدى الاستثمار السعودي السوري بحضور رسمي رفيع المستوى من الجانبين. ويُعد هذا المنتدى الأول من نوعه بين البلدين منذ سنوات طويلة، مما أكسبه أهمية خاصة. وفي ختام المنتدى، أعلنت الحكومة السورية توقيع مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم (نحو 47 اتفاقية ومذكرة) في مختلف القطاعات، بقيمة إجمالية تُقدَّر بنحو 6.4 مليارات دولار أمريكي. بطبيعة الحال، أثار هذا الرقم الضخم اهتماماً واسعاً، لكنه في الوقت نفسه ترك أسئلة مفتوحة حول طبيعة تلك الاتفاقيات، إذ لم يتضح بعد بشكل دقيق ما هي حصة الاتفاقيات النهائية المبرمة فعلياً ضمن هذا الرقم، وما هي حصة مذكرات التفاهم المبدئية التي قد يتم التفاوض عليها لاحقاً أو ربما لا يتم تفعيلها على الإطلاق. وبالتالي فإن المحصلة المُعلَن عنها، رغم ضخامتها على الورق، تستدعي قراءة متأنية لتمييز الالتزامات الحقيقية عن مجرد النوايا المعلنة.
الآن، وبعد عقودٍ من دمار الاقتصاد السوري الممنهج تحت حكم عائلة الأسد، يتفق السوريون بمختلف انتماءاتهم على أن القضاء على الفقر يشكل الأولوية القصوى لإعادة بناء سورية. لقد أدت سياسات النظام السابق، التي طبقت فعلياً وصفات اقتصادية نيوليبرالية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالإضافة إلى الحرب والعقوبات الغربية المدمرة، إلى انهيار الاقتصاد وتدمير البنية التحتية، فضلاً عن نزوح الملايين وعجز غالبية السكان عن تأمين احتياجاتهم الأساسية. وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2025، يعيش تسعة من كل عشرة سوريين تحت خط الفقر، و66% منهم في فقر مدقع. اليوم، مع سقوط السلطة السابقة، نتفق على ضرورة تركيز جهود إعادة الإعمار على إنهاء الفقر كخطوة نحو الاستقرار الفعلي. لكن ربما ما نختلف عليه هو الطريقة.
في التاسع من تموز 2025، أعلنت الرئاسة السورية عن ستة مراسيم جديدة دفعة واحدة، كان من بينها مرسوم يقضي بتعديل بعض مواد قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021، القانون الذي يشكّل الإطار التشريعي الأساسي للعملية الاستثمارية في البلاد. وقد حمل هذا التعديل الجديد أهمية استثنائية في السياق السوري الراهن بالنظر إلى أنه يأتي في مرحلة بالغة الحساسية من تاريخ البلاد، مرحلة يُفترض بها أن تشهد مراجعة جذرية وشاملة لسياسات السلطة السابقة، لا إعادة إنتاجها. وما يزيد من حساسية الموضوع هو أن سورية ما تزال تفتقر إلى مؤسسات تمثيلية شرعية قادرة على مساءلة السلطة التنفيذية أو مراجعة خياراتها، في ظل غياب مجلس شعب منتخب، واستمرار تمركز القرار في يد السلطة التنفيذية. وبالتالي، فإن تعديل قانون الاستثمار لا يمكن النظر إليه كمسألة تقنية أو قانونية محضة، بل يجب قراءته بوصفه جزءاً من معركة أوسع حول مستقبل الاقتصاد السوري وطبيعته.
شهدت السياسات العامة في سورية تحت حكم الأسد - وفي القلب منها منظومة الأجور والدعم الاجتماعي - تحولاً تدريجياً نحو تفكيك منظومة الدعم الاجتماعي التي كانت تُعتبر إحدى الركائز الأساسية للاستقرار النسبي للدولة في العقود السابقة، ونحو تخفيض القيمة الحقيقية لأجور العاملين. ولم يكن هذا التحول فجائياً أو معلناً بوضوح، بل اتبع أساليب احتيالية اعتمدت على تقليص الدعم بصورة تدريجية بطرق مباشرة وغير مباشرة: ابتداءً من تقليص مبالغ الدعم التي كانت تُدرَج في موازنات الدولة، إلى تضاؤل الإنفاق الفعلي على بنود الدعم الاجتماعي، وصولاً إلى الإلغاء الكامل للدعم عن بعض السلع والمواد الأساسية، إما بوقف توزيعها عبر «البطاقة الذكية» سيئة الذكر، أو بإعلانات رسمية عن انتهاء دعمها مثلما حدث مع البنزين.
يحمل كثير من السوريين صورةً نمطية سلبية عن القطاع العام، مفادها أنه قطاع مترهل وفاشل ومحكوم بالخسائر المزمنة. وتُعزَّز هذه الصورة عبر الخطاب الرسمي والإعلامي الذي دأب لعقود على وصف مؤسسات الدولة بـ«الخاسرة» وعديمة الجدوى. فلا يكاد يُذكر القطاع العام إلا مقروناً بمفردات مثل البيروقراطية والفساد وضعف الإنتاجية، مقابل تمجيد متزايد لدور القطاع الخاص. ومما رسّخ هذه النظرة أن الكثير من شركات ومصانع الدولة شهدت تراجعاً فعلياً في الأداء والخدمات خلال العقود الماضية، وانخفضت قدرتها التنافسية، الأمر الذي عزاه البعض إلى كون الملكية العامة بطبيعتها غير كفؤة اقتصادياً. وهكذا، ترسّخت فكرة أن القطاع العام في سورية عاجز تماماً عن تحقيق النمو أو الربح، وأن الاعتماد عليه مضيعة للموارد، مما ولّد قناعة شعبية بأن الحل هو التخلي عنه لصالح قوى السوق والخصخصة. ويغذي هذه القناعة واقع المعاناة اليومية للمواطن في الدوائر الرسمية المزدحمة والإجراءات الورقية المطوّلة، حيث باتت مفردات الترهل والجمود ملازمة لصورة الموظف الحكومي والمنشأة العامة في الذهن السوري.
كان الأمن الغذائي تحدياً استراتيجياً طويل الأمد بالنسبة لسورية على مرّ تاريخها، وهو يعكس ليس فقط قدرة البلاد على إنتاج غذائها محلياً بل أيضاً على تعزيز سيادتها الوطنية. ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي، اعتمدت سورية سياسات زراعية تهدف إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، مما جعلها واحدة من أكثر الدول استقراراً في منطقة شرق المتوسط من حيث الإمدادات الغذائية. وفي التسعينيات، تمكنت سورية - وفقاً للمعطيات المعلنة - من تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل في إنتاج القمح، وهو المحصول الأساسي الذي اعتُبر ركيزة الأمن الغذائي الوطني. لكن مع دخول الألفية الجديدة، واجهت الزراعة السورية تحديات متزايدة نتيجة تحول نظام الأسد نحو النيوليبرالية، وضعف البنية التحتية المائية، والجفاف الذي ضرب البلاد في الفترة ما بين 2006 و2010.
مع تخفيف العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على سورية، دخلت البلاد مرحلة جديدة يأمل فيها السوريون إعادة بناء اقتصاد دولتهم وبنيتها التحتية. في ذروة هذا المشهد، أظهرت السلطات القائمة توجهاً واضحاً نحو جذب الاستثمارات الأجنبية كوسيلة «لإنعاش» الوضع الاقتصادي الذي عانى من الصراع والعزلة الدولية الطويلة. يرى بعض مؤيدي هذا التوجه أن هذه المرحلة فرصة حاسمة «لتذليل العقبات» أمام المستثمرين الأجانب، الذين يُعتقد أنهم قادرون على «إخراج الزير من البير» من خلال توفير رأس المال والتكنولوجيا والخبرات اللازمة للقطاعات الرئيسية، ويراهنون على أن هذا النهج يمكن أن يسرّع عملية التعافي ويخلق فرص عمل ويحسّن مستوى معيشة السوريين. في الوقت ذاته، يرفع الحريصون على البلاد أصواتهم عالياً محذرين من مخاطر الاعتماد على رأس المال الأجنبي، خاصة في القطاعات الاستراتيجية، بشكلٍ يقود إلى فقدان السيطرة على الموارد الوطنية وتفاقم مشكلة الفقر في سورية.