أحمد الرز
email عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
يواجه الاقتصاد السوري أزمات اقتصادية حادة تجعل من المستحيل على الكثير من السوريين تلبية احتياجاتهم المعيشية الضرورية. فالإنتاج المحلي لا يكفي فعلياً لتغطية احتياجات السكان. لكن الأسوأ من ذلك هو التوزيع المجحف وغير الإنساني للموارد السورية القليلة المتاحة الذي يزيد من حدة التناقض الطبقي والظلم الاجتماعي في البلاد. رغم أن توزيع الدخل والناتج حول العالم يتسم بعدم العدالة في كثير من الأحيان، إلا أن الحالة في سورية تتسم بظلم استثنائي فريد من نوعه ولا يطاق.
أعلن حاكم مصرف سورية المركزي، عبد القادر الحصرية، مؤخراً عن خطة لطباعة فئات جديدة من العملة السورية، مع تعديل يتضمن حذف صفرين من قيمتها الاسمية. وأثار هذا الإعلان، الذي يأتي في سياق يتسم أساساً بالتدهور الاقتصادي، ترقباً واسعاً حول تفاصيل عملية الطرح وآلياتها. وقد أشارت التصريحات الرسمية إلى أن العملة الجديدة سيتم طرحها على ثلاث مراحل، مع توقعات بأن تكون المرحلة الأولى في شهر كانون الأول المقبل. ووفقاً لحاكم المصرف، فإن الكميات المطبوعة من هذه العملة ستكون «مدروسة بدقة بما يتناسب مع متطلبات الاقتصاد الوطني»، لكن ظلت التفاصيل الرسمية حول الجهات المنوط بها طباعة هذه العملة مبهمة، غير أن تقارير إخبارية تحدثت عن محادثات متقدمة مع شركات دولية تشمل شركة «عملات للطباعة الأمنية» الإماراتية وشركتي «بوندسدروكيراي» و«جيسيك بلس ديفرينت» الألمانيتين، بينما أشارت مصادر أخرى إلى اتفاق مع شركة «جوزناك» الروسية الحكومية، التي سبق لها طباعة العملة السورية.
في خضم الحديث المتواصل للسلطة عن إعادة الإعمار ووعود الاستثمارات الدولية ومذكرات التفاهم التي يبدو أنها ستظل أسيرة الورق، تظل محافظة دير الزور السورية، بما في ذلك الجزء الخاضع منها لسلطة المركز في دمشق، في قلب أزمة متفاقمة، تكشف عن حقيقة مغايرة للخطابات الرسمية. فالمحافظة، التي كانت فيما مضى ركيزة للاقتصاد السوري بفضل خصوبة أراضيها وثرواتها، تعاني اليوم إرثاً من الإهمال الممنهج الذي تفاقم على زمن سلطة الأسد الساقطة ولم يجر عكسه حتى اليوم، حيث لم تقدم السلطة الجديدة أي خطة جديدة لانتشال المحافظة القابعة في دائرة التهميش، والتي بقيت بعيدة حتى عن مشهد التوقيع على مذكرات التفاهم التي لا أثر ملموس لها على أرض الواقع. يترك هذا الغياب شبه الكامل عن الاهتمام الحكومي والاستثماري المحافظة في مواجهة قضايا عاجلة وحاسمة لإعادة الحياة إليها، في حين تتفاقم أزمات الخدمات والبنية التحتية يوماً بعد يوم.
يُرجّح كثيرون أن التدهور الاقتصادي في سورية بدأ عام 2011، مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية وتصاعد الصراع ضد نظام الرئيس السابق بشار الأسد. ويستند هذا التصور إلى جملة من المؤشرات والإحصاءات التي تظهر أن عام 2010 شكّل «ذروة» الأداء الاقتصادي في البلاد، ما يجعل من العام التالي نقطة الانكسار الكبرى. إلا أن هذا السرد يُغفل جانباً حاسماً من الحقيقة وهي أن الانحدار الاقتصادي لم يكن وليد لحظة سياسية أو أمنية بعينها، بل نتيجة مسار طويل من السياسات الاقتصادية الليبرالية التي بدأت تتبلور منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، وبلغت أوجها خلال العقد الأول من الألفية الثالثة. في تلك السنوات، شهدت البلاد موجة من «الإصلاحات» التي وصفت آنذاك بالضرورية للانفتاح والاندماج في الاقتصاد العالمي، لكنها في جوهرها كانت تعني انسحاب الدولة من مسؤولياتها الاقتصادية الاجتماعية، وفتح الباب أمام مركزة الثروة بشكل أكبر وازدياد الفجوة الطبقية في المجتمع، وهو ما شكّل الأساس الفعلي لانفجار لاحق لم يكن الاقتصاد إلا أحد أبرز ضحاياه.
يوم الخميس الماضي، 7 آب 2025، ألقى وزير الاقتصاد والصناعة السوري، محمد نضال الشعار، تصريحات صحفية على هامش لقائه بالجالية السورية في مدينة اسطنبول التركية، وذلك خلال زيارة عمل قام بها على رأس وفد اقتصادي موسع. لم تكن هذه التصريحات خارجة عن سياق المألوف، بل عكست أفكاراً مكررة ومتداولة على ألسنة مسؤولي السلطة الحالية بمختلف مستوياتهم وفي مناسبات عدة، بشكلٍ يوحي أنها تمثل الرؤية الرسمية للسياسة الاقتصادية في البلاد. وقد انصبت التصريحات على ثلاث نقاط رئيسية تستحق التحليل والبحث.
شهدت دمشق يوم 24 تموز 2025 انعقاد المنتدى الاستثماري السوري - السعودي الأول من نوعه منذ سقوط السلطة السابقة، وذلك بمشاركة وفد سعودي رفيع المستوى وشركات من الجانبين. خلال المنتدى وزعت محافظة دمشق على المستثمرين السعوديين كتيباً حمل عنوان «حقيبة المشاريع الاستراتيجية»، وهو عبارة عن مجموعة من «الفرص الاستثمارية» من إعداد دائرة الاستثمار وتطوير الأعمال التابعة للمحافظة. وبعيداً عن تفاصيل هذه الفرص وكونها تشمل تحويل العديد من الأماكن الحساسة في دمشق، مثل أبنية وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة وأرض معرض دمشق الدولي القديم وغيرها الكثير إلى مشاريع سياحية وعقارية ليست ذات أولوية ولا ذات جدوى في الوضع السوري، كان من المثير للانتباه أن معظم هذه المشاريع - التي من المفترض بها أن تجذب المستثمرين - حُدٍّدت لها نسب عائدية على الاستثمار لا تتجاوز 10%.
استضاف قصر الشعب في دمشق، يوم الخميس الماضي 24 تموز 2025، فعاليات منتدى الاستثمار السعودي السوري بحضور رسمي رفيع المستوى من الجانبين. ويُعد هذا المنتدى الأول من نوعه بين البلدين منذ سنوات طويلة، مما أكسبه أهمية خاصة. وفي ختام المنتدى، أعلنت الحكومة السورية توقيع مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم (نحو 47 اتفاقية ومذكرة) في مختلف القطاعات، بقيمة إجمالية تُقدَّر بنحو 6.4 مليارات دولار أمريكي. بطبيعة الحال، أثار هذا الرقم الضخم اهتماماً واسعاً، لكنه في الوقت نفسه ترك أسئلة مفتوحة حول طبيعة تلك الاتفاقيات، إذ لم يتضح بعد بشكل دقيق ما هي حصة الاتفاقيات النهائية المبرمة فعلياً ضمن هذا الرقم، وما هي حصة مذكرات التفاهم المبدئية التي قد يتم التفاوض عليها لاحقاً أو ربما لا يتم تفعيلها على الإطلاق. وبالتالي فإن المحصلة المُعلَن عنها، رغم ضخامتها على الورق، تستدعي قراءة متأنية لتمييز الالتزامات الحقيقية عن مجرد النوايا المعلنة.
الآن، وبعد عقودٍ من دمار الاقتصاد السوري الممنهج تحت حكم عائلة الأسد، يتفق السوريون بمختلف انتماءاتهم على أن القضاء على الفقر يشكل الأولوية القصوى لإعادة بناء سورية. لقد أدت سياسات النظام السابق، التي طبقت فعلياً وصفات اقتصادية نيوليبرالية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالإضافة إلى الحرب والعقوبات الغربية المدمرة، إلى انهيار الاقتصاد وتدمير البنية التحتية، فضلاً عن نزوح الملايين وعجز غالبية السكان عن تأمين احتياجاتهم الأساسية. وفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2025، يعيش تسعة من كل عشرة سوريين تحت خط الفقر، و66% منهم في فقر مدقع. اليوم، مع سقوط السلطة السابقة، نتفق على ضرورة تركيز جهود إعادة الإعمار على إنهاء الفقر كخطوة نحو الاستقرار الفعلي. لكن ربما ما نختلف عليه هو الطريقة.
في التاسع من تموز 2025، أعلنت الرئاسة السورية عن ستة مراسيم جديدة دفعة واحدة، كان من بينها مرسوم يقضي بتعديل بعض مواد قانون الاستثمار رقم 18 لعام 2021، القانون الذي يشكّل الإطار التشريعي الأساسي للعملية الاستثمارية في البلاد. وقد حمل هذا التعديل الجديد أهمية استثنائية في السياق السوري الراهن بالنظر إلى أنه يأتي في مرحلة بالغة الحساسية من تاريخ البلاد، مرحلة يُفترض بها أن تشهد مراجعة جذرية وشاملة لسياسات السلطة السابقة، لا إعادة إنتاجها. وما يزيد من حساسية الموضوع هو أن سورية ما تزال تفتقر إلى مؤسسات تمثيلية شرعية قادرة على مساءلة السلطة التنفيذية أو مراجعة خياراتها، في ظل غياب مجلس شعب منتخب، واستمرار تمركز القرار في يد السلطة التنفيذية. وبالتالي، فإن تعديل قانون الاستثمار لا يمكن النظر إليه كمسألة تقنية أو قانونية محضة، بل يجب قراءته بوصفه جزءاً من معركة أوسع حول مستقبل الاقتصاد السوري وطبيعته.
شهدت السياسات العامة في سورية تحت حكم الأسد - وفي القلب منها منظومة الأجور والدعم الاجتماعي - تحولاً تدريجياً نحو تفكيك منظومة الدعم الاجتماعي التي كانت تُعتبر إحدى الركائز الأساسية للاستقرار النسبي للدولة في العقود السابقة، ونحو تخفيض القيمة الحقيقية لأجور العاملين. ولم يكن هذا التحول فجائياً أو معلناً بوضوح، بل اتبع أساليب احتيالية اعتمدت على تقليص الدعم بصورة تدريجية بطرق مباشرة وغير مباشرة: ابتداءً من تقليص مبالغ الدعم التي كانت تُدرَج في موازنات الدولة، إلى تضاؤل الإنفاق الفعلي على بنود الدعم الاجتماعي، وصولاً إلى الإلغاء الكامل للدعم عن بعض السلع والمواد الأساسية، إما بوقف توزيعها عبر «البطاقة الذكية» سيئة الذكر، أو بإعلانات رسمية عن انتهاء دعمها مثلما حدث مع البنزين.