كيف تسرّع الولايات المتحدة أفول إمبراطوريتها عبر الرسوم؟
فيما يلي إليكم أبرز ما جاء في حلقة نقاش معمّقة استضافها الصحفي الأمريكي داني هايفونغ، وجمع فيها اثنين من أبرز الاقتصاديين في العالم: البروفيسور ريتشارد وولف، مؤسس حركة «الديمقراطية في العمل» الأمريكية وأستاذ الاقتصاد السياسي، مع البروفيسور مايكل هادسون، الخبير المعروف في الاقتصاد العالمي ومؤلِّف كتّاب «مصير الحضارة». تتناول المقابلة التحليلية تطورات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وتكشف كيف تؤدي السياسات الاقتصادية التي تنتهجها إدارة ترامب إلى نتائج عكسية، من تسريع صعود الصين وتكتل «البريكس»، إلى تقويض موقع الدولار وتآكل أسس الهيمنة الأمريكية في الاقتصاد العالمي.
ترجمة: أوديت الحسين
هايفونغ: قبل أن أستضيف ضيفيَّ اليوم، أودّ أن أقدّم لمحة سريعة عمّا يدور الآن: ترامب تراجع في حربه التجارية ضد الصين، وذلك بعد أن لوّحت بكين بالرد على أي دولة تدعم الجهود الأمريكية لعزل الصين اقتصادياً عبر الرسوم الجمركية. لم يمرّ 24 ساعة حتى أعلن ترامب أنه سيخفّض الرسوم. إنها إشارة واضحة إلى أن واشنطن بصدد التراجع. لكن من البداية، كانت الصين هي الطرف المبادر، متعهدة بالقتال حتى النهاية، وماضية في التخلص من اعتمادها على الدولار الأمريكي، ما أحدث صدمة في الاقتصاد العالمي وأربك توازنات «الإمبراطورية الأمريكية الآيلة إلى الأفول». أعلن ترامب موقف إدارته بشأن الرسوم، وقال بأنّها لن تبقى كما هي، ولكنّها لن تعود إلى الصفر. إذاً، الرسوم الجمركية لن تبقى في حدود 140% أو 200%. بروفيسور وولف، طبعاً نحن نعلم أن ترامب كثيراً ما يقول شيئاً ويفعل آخر، لكن هل يمكنك أن تشرح لنا مسار هذه الحرب التجارية منذ بدايتها، وكيف تترجم سياسات إدارة ترامب إلى مؤشرات على انحدار الإمبراطورية الأمريكية كما ناقشنا مراراً؟
وولف: على عدة مستويات، ما يحدث متوقَّع تماماً. فالولايات المتحدة الآن تذوق طعم ما فعلته سابقاً ببريطانيا. في الماضي، كانت أمريكا الطرف الصاعد، تسعى لتجاوز الهيمنة البريطانية من خلال إنتاج سلع أرخص أو بجودة أعلى، وها هي الصين تكرر السيناريو نفسه اليوم.
ما تفعله الصين اليوم تجاه الولايات المتحدة هو بالضبط ما فعلته أمريكا سابقاً تجاه بريطانيا: الصعود عبر التفوق الصناعي، اعتماداً على نموذج اقتصادي طويل الأمد، مدعوم من الدولة، يقوم على الاستثمار، الشراكة بين القطاع العام والخاص، والتركيز على الابتكار والتصدير. وقد فعلتْ ذلك ليس في السيارات الكهربائية فقط، بل في كل ما يتعلق بالبنية التكنولوجية للقرن الحادي والعشرين.
والآن، أمام الولايات المتحدة خياران: إمّا أنْ تحاول إعاقة هذا الصعود بأساليب عدائية – عبر الرسوم، العقوبات، الحروب التجارية، وحملات التخويف – أو أن تعترف بالواقع الجديد وتبحث عن شراكات متوازنة، كما فعلت بريطانيا في نهاية المطاف مع أمريكا بعد فشلها في احتوائها.
لكن بدلاً من ذلك، تحاول أمريكا فرض هيمنة متراجعة باستخدام أدوات اقتصادية صارت ضد مصالحها الذاتية، مثل العقوبات والرسوم، مما يدفع حتى أقرب حلفائها لإعادة النظر في علاقتهم بها.
هادسون: ريتشارد محق. أمريكا الدولة الوحيدة التي قامت بتسليح سياستها التجارية، وسياستها النقدية، وحتى عملتها – الدولار. ورغم الكلام الإيجابي حول خفض ترامب للرسوم، فقد نفى وزير الخزانة الأمريكي هذه الخطوة، وأشار إلى أن السياسات لا تزال «مرنة» وتخضع للدراسة، والبيت الأبيض أعلن أنه قد يتم اعتماد رسوم جمركية تدريجية تصل إلى 100% على المنتجات التي تعتبر «استراتيجية». بمعنى: كل شيء يرتبط بالأمن القومي. وهنا، إذا اعتُبرت الصين «عدواً وجودياً»، فكل شيء يدخل في خانة الأمن القومي.
هل من المعقول أن تتراجع الصين الآن عن سياساتها، وتستأنف تصدير المعادن النادرة التي تحتاجها أمريكا لصناعاتها العسكرية، بينما تتجه أمريكا فعلياً نحو حرب معلنة معها في عام 2026؟ من الجنون أن نطلب من الصين أن تبيع لنا «الحبل الذي سنشنقها به»، كما قال لينين يوماً.
هايفونغ: بروفيسور وولف، أود سؤالك: ما مدى تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية على تسريع مسار «إلغاء الاعتماد على الدولار»؟ خصوصاً أن هذه المخاوف أصبحت الآن أكثر علنية، حتى في الصحف الغربية.
وولف: الحقيقة بدأ تراجع الدولار قبل ترامب بوقت طويل. الدولار كان نتاج اتفاق بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية، حين انهارت الإمبراطورية البريطانية وصعدت أمريكا كقوة مالية وعسكرية. لكن منذ ذلك الوقت، تغيرت المعادلة.
الصين، والعديد من دول الجنوب العالمي، بنت شبكات تجارية ومالية مستقلة، لا تعتمد على الدولار. وليس لأنهم يتآمرون ضد أمريكا، بل لأن أمريكا هي التي جعلت الدولار أداة غير موثوقة، بسبب تقلباتها وسياساتها العقابية: العقوبات، الرسوم، التهديدات. من يستخدم الدولار اليوم، يدرك أنه يضع نفسه تحت رحمة البيت الأبيض.
هادسون: ترامب نفسه أعلن أنه يريد دولاراً ضعيفاً لدعم الصادرات الأمريكية. لكن المشكلة أن أمريكا لم تعد تصدِّر الكثير! الصناعات تآكلت، ورأس المال يهرب للخارج. وحتى لو خفّض قيمة الدولار، فهذا لا يساعد أمريكا، بل العكس. لأنّ المستثمرين الأجانب سيتوقّفون عن شراء سندات الخزانة الأمريكية، خوفاً من الخسارة. وسيفضّلون الاستثمار في أسواق أكثر استقراراً.
الصين، على عكس ذلك، تبني نموذجاً اشتراكياً يوفّر الخدمات الأساسية مثل التعليم، الصحة، النقل، بأسعار مدعومة، ويعتمد على التخطيط المركزي لتوجيه الاستثمارات. إنها ليست أكثر إنتاجية فحسْب، بل وأكثر كفاءة أيضاً، لأن الاقتصاد لا يُدار بهدف الربح الخالص، بل خدمة المجتمع.
وولف: ما قاله مايكل أساسي: ما يجعل الصين متفوقة ليس فقط تحسينها للتصنيع أو الابتكار، بل بنيتها الاقتصادية المختلفة جذرياً. الصين لا تدفع نظامها الصحي للربح، ولا تترك السكك الحديدية أو الاتصالات للشركات الخاصة لامتصاص الفوائض من المواطنين. بل تضع هذه القطاعات تحت إشراف الدولة، وتديرها لتخدم الإنتاج والاستهلاك، لا الاحتكار.
أما في الغرب، فإننا نحتسب الأرباح الناتجة عن الخصخصة والمضاربات ضمن الناتج المحلي الإجمالي، بينما في الصين لا تُعد تلك الأرباح «ناتجاً»، بل كلفة زائدة لا لزوم لها. ومن هنا يظهر الفرق بين اقتصاد إنتاجي وآخر طفيلي.
هايفونغ: هذا يقودنا إلى سؤال مهم: ما هي الأوراق التي ما زالت تملكها الولايات المتحدة في هذه الحرب التجارية؟ إذا كانت حتى اليابان – أقرب الحلفاء – باتت ترى في واشنطن شريكاً لا يقدم شيئاً في المقابل؟
وولف: سلاح أمريكا الوحيد هو سوقها الاستهلاكية الضخمة. وتستخدمه الآن كسلاح تهديد. الرسالة هي: «إذا لم تسايرونا، سنمنع منتجاتكم من دخول سوقنا». لكنها لعبة خطيرة. فما يقوله ترامب ضمناً هو أنه يريد من المنتجين الأجانب أن يخفضوا أسعارهم كي لا يشعر المستهلك الأمريكي بأثر الرسوم. أي أن يُحمَّل الأجانب عبء الضرائب الأمريكية! وهذا يثير غضبهم، ويدفعهم للضغط على حكوماتهم، التي بدورها لن تبقى صامتة إلى الأبد.
هادسون: بالنسبة للصين، الوضع مختلف. كثير من السلع التي تصدّرها لا يوجد لها بديل أمريكي. ثم إن ما تريده واشنطن الآن ليس حماية صناعتها فقط، بل منع الصين من منافستها تكنولوجياً. الهدف أن تبقى أمريكا محتكرة لقطاعات التكنولوجيا والرقمنة والذكاء الاصطناعي.
إنها تريد إعادة بناء هيمنة من نوع جديد: هيمنة معرفية وتكنولوجية، تستنزف أرباح الدول الأخرى من خلال رسوم تراخيص وبراءات اختراع واحتكار منصات البرمجيات. تماماً كما فعلت بريطانيا سابقاً عبر احتكارها للتأمين والتمويل البحري. لكنّ المشكلة أن الصين لم تعد متأخرة تكنولوجياً، بل بدأت في بناء بدائلها. وإذا استمر هذا النهج الأمريكي، فسينتهي به المطاف إلى دفع حلفائه أنفسهم إلى البحث عن بدائل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1225