دعوة الكونغرس للعصيان: اختراق في الخطوط الحمراء السياسية والأخلاقية
في مشهد ينذر بعواصف سياسية، هزت واشنطن خلال تشرين الثاني 2025 تصريحات متصاعدة بين قوى سياسية متنازعة، وصلت إلى اتهامات مباشرة بالخيانة وتحريض على العصيان العسكري. بدأت الأزمة عندما نشر ستة أعضاء ديمقراطيين في الكونغرس، جميعهم من العسكريين أو ضباط الاستخبارات السابقين، مقطع فيديو عبر منصة «إكس» حثوا فيه أفراد الجيش ومجتمع الاستخبارات على رفض الأوامر غير القانونية، قائلين: «لا يجب على أي شخص تنفيذ أوامر تنتهك القانون أو دستورنا».
رد الرئيس دونالد ترامب بحدة عبر منصة «تروث سوشيال» بوصفهم «خونة» ودعا إلى اعتقالهم ومحاكمتهم بل والإعدام، حيث كتب: «هذا يسمى سلوكاً تحريضياً على أعلى مستوى. يجب اعتقال كل واحد من هؤلاء الخونة لوطننا ومحاكمتهم». وأضاف: «لن يكون لدينا وطن بعد الآن!!! يجب أن يضرب المثل بهم». كما أعاد نشر منشور لمستخدم آخر يقول: «هل شنقوهم كما كان جورج واشنطن ليفعل!!»، معقِّباً: «يعاقَب على هذا بالإعدام!».
هذه التطورات ليست مجرد تبادل اتهامات سياسية روتينية، بل تشير إلى اختراق خطير للخطوط الحمراء التي تحافظ على التوازن المؤسساتي الأمريكي، وتهز أسس العلاقة التاريخية بين السلطتين المدنية والعسكرية.
تحليل السياق السياسي والأيديولوجي
يأتي هذا التصعيد في إطار سجال أوسع حول سلطات الرئيس وحدودها، خاصة فيما يتعلق باستخدام القوة العسكرية. الفيديو الذي نشره الأعضاء الديمقراطيون – بمن فيهم السيناتور إليسا سلوكين (محللة سابقة في وكالة المخابرات المركزية) والسيناتور مارك كيلي (رائد فضاء وطيار سابق في البحرية) – ليس مجرد رسالة تذكيرية بالقانون، بل هو إنذار سياسي موجه للرئاسة وللمؤسسة العسكرية على حد سواء.
من الناحية الأيديولوجية، يُظهر الحزب الديمقراطي، الذي يصف نفسه تقليدياً بكونه حزب «يسار الوسط»، انقساماً داخلياً بين أجنحة محافظة وتقدمية ووسطية. ويبدو أن هذه الخطوة تمثل محاولة من الجناح الأكثر تشدداً في الحزب لرسم حدود واضحة في مواجهة إدارة ترامب، مستخدمين خبراتهم العسكرية والأمنية السابقة كوسيلة لشرعنة موقفهم.
المؤشرات السياسية: أزمة ثقة مؤسسية عميقة
يشير هذا التصعيد إلى عدة مؤشرات خطيرة:
- انهيار الثقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية: تحول النقاش السياسي من مجادلات حول السياسات إلى اتهامات بالخيانة وتحريض على العصيان.
- عسكرة الخطاب السياسي: استخدام الأعضاء الديمقراطيين لخلفياتهم العسكرية لتوجيه رسالة مباشرة للقوات المسلحة، والرد الرئاسي بخطاب يعيد إلى الأذهان عقوبات زمن الحرب.
- تهديد مباشر للمبدأ الدستوري: المبدأ الدستوري الأساسي القائل بأن «الكونغرس وحده يملك الصلاحية الدستورية لإعلان الحرب» يتعرض لتحدٍّ عملي من خلال هذه المواجهة التي تضع العسكريين في موقف الحَكَم بين سلطتين متنازعتين.
المؤشرات العسكرية: اختبار الولاء المزدوج
على المستوى العسكري، تضع هذه الدعوات المؤسسة العسكرية الأمريكية في مأزق وجودي يتعلق بطبيعة ولائها:
التناقض بين الطاعة والتشكيك: يُلزم «قانون القضاء العسكري الموحد» الجنود بطاعة الأوامر القانونية، لكنه يمنحهم الحق – بل ويُلزمهم أخلاقياً وقانونياً – برفض تنفيذ الأوامر التي يعرفون أنها غير قانونية. ومع ذلك، فإن الدعوة المباشرة من المشرعين للجنود بضرورة التمييز بأنفسهم بين ما هو قانوني وغير قانوني تخلق حالة من الارتباك المؤسسي الخطير.
تسييس المؤسسة العسكرية: تحول الجيش من مؤسسة تنفيذية محايدة تقنياً إلى ساحة صراع سياسية، حيث يُطلب من ضباطه وجنوده اتخاذ موقف من صراع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
هل نحن أمام تداعي التماسك المؤسساتي؟
تشير الأدلة إلى أن التماسك المؤسساتي الأمريكي يتعرض لضغط غير مسبوق، لكنه لم ينهر بعد. ردة الفعل المؤسساتية على هذه الأزمة توضح ذلك:
- تحرك فوري لحماية المشرعين: قام زعيم الأقلية في مجلس النواب، حكيم جيفريز، وفريقه القيادي بالاتصال بضابط شرطة مجلس النواب وشرطة مبنى الكابيتول الأمريكي لضمان سلامة الأعضاء وعائلاتهم. هذا الإجراء الوقائي يُظهر أن المؤسسات التشريعية تأخذ التهديدات الموجهة لأعضائها على محمل الجد.
- موقف البيت الأبيض المزدوج: على الرغم من محاولة المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، تهدئة الأجواء بنفي أن يكون ترامب قد قصد فعلاً الدعوة لإعدام المشرعين، إلا أنها انتقدت الديمقراطيين بدعوى أنهم «يشجعون أفراد الجيش على تحدي تسلسل القيادة». وهذا يظهر محاولة المؤسسة التنفيذية لاحتواء الأزمة مع الاستمرار في الهجوم السياسي.
- تدخل جهاز العدالة: قال نائب المدعي العام تود بلانش إن وزارة العدل ستبدي «اهتماماً وثيقاً» بأفعال هؤلاء الأعضاء، واصفاً إياها بأنها «عرض مثير للاشمئزاز وغير لائق». هذا يشير إلى أن الصراع قد ينتقل من الساحة السياسية والإعلامية إلى الساحة القضائية.
الخلاصة: أمريكا على مفترق طرق
ما تشهده واشنطن اليوم ليس مجرد عراك سياسي عابر، بل هو تجسيد لصراع أعمق حول طبيعة الحكم والدستور والدور المستقبلي للمؤسسات الأمريكية. الدعوة للعصيان العسكري، والرد عليها بتهديدات تطال الحياة نفسها، تُخرج البلاد من نطاق السياسة الاعتيادية إلى منطقة خطرة حيث تُستدعى المؤسسة العسكرية كطرف في صراع مدني.
على الرغم من أن المؤسسات الدستورية – كالكونغرس ووزارة العدل – لا تزال تتحرك لاحتواء الأزمة ضمن الأطر القانونية، فإن استمرار هذا النوع من التصعيد يهدد بتآكل الثقة العامة وتقويض المبادئ الأساسية للحكم المدني.
السؤال الأكبر الذي تطرحه هذه الأزمة هو: هل يمكن للمؤسسات الأمريكية الصمود أمام مزيد من الاستقطاب، أم أن البلاد تدخل مرحلة جديدة حيث تصبح المواجهة المباشرة والخطاب العنيف هي اللغة السائدة في الحوار السياسي؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مصير الإدارة الحالية، بل أيضاً مصير التوازن الدستوري الذي حافظ على استقرار الولايات المتحدة لأكثر من قرنين، مع ما يرافق ذلك من تغير لوزن الولايات المتحدة النوعي ضمن التوازنات الدولية الجديدة.