الليبرالي الذي يحكم الأرجنتين يسحبها إلى الحضيض
يحكم الأرجنتين اليوم رجل يميني متطرف يدعى خافيير ميلي، يصف نفسه بأنّه «فوضوي رأسمالي». صُنعت مسيرته السياسية بدعم من قلة من كبار الأثرياء وأباطرة المال. كما حظي ميلي بدعم كبار أثرياء الولايات المتحدة. خلال حملته الرئاسية عام 2023، تبنّى ميلي لقب «المجنون el loco»، وكان يحمل منشاراً كهربائياً إلى تجمعاته الانتخابية، متعهداً بـ«تمزيق» الحكومة إلى أشلاء.
ترجمة: أوديت الحسين
لكن بعد وصوله إلى سدة الحكم، أطلق ميلي مشروعاً احتيالياً في سوق العملات المشفّرة يُدعى «ليبرا»، تسبب بخسائر ضخمة لعشرات الآلاف من أنصاره الذين فقدوا ملايين الدولارات، في حين راكم حلفاؤه أرباحاً بلغت مئة مليون دولار.
لم يكتفِ ميلي بذلك، بل أجهز على الاقتصاد الحقيقي للأرجنتين، مشرفاً على تسارع خطير في وتيرة إزالة التصنيع. فقد انهارت قطاعات الصناعة والبناء بشكل مروّع، ما أدى إلى موجات ضخمة من تسريح العمال في القطاعين العام والخاص معاً.
اليوم، يعيش أكثر من نصف سكان الأرجنتين «53%» تحت خط الفقر، وقد سُحقت القدرة الشرائية ومستوى المعيشة بفعل سياسات ميلي التقشفية القاسية. وبحسب استطلاع أُجري في حزيران/يونيو 2024، بعد ستة أشهر فقط من توليه الحكم، أكد نحو 72% من الأرجنتينيين أنّ أوضاعهم الاقتصادية قد ازدادت سوءاً.
في الوقت الذي يعيش فيه الاقتصاد الحقيقي أزمة خانقة، شهدت سوق الأسهم انتعاشاً غير مسبوق، ما أغنى قلة من أصحاب رؤوس الأموال المحليين والمستثمرين الأجانب الأثرياء. كما روّجت حكومة ميلي لمخطط مالي سيئ السمعة يعرف باسم «الدراجة المالية»، الذي ضمن عوائد ضخمة لأولئك القادرين على الاستثمار، بينما تُرك معظم الأرجنتينيين يغرقون في الفقر. وبعيداً عن المضاربات المالية، لم تعرف قطاعات الاقتصاد الأخرى نمواً سوى الزراعة والتعدين، وهما صناعتان تستفيدان من تدهور العملة وضعف الطلب المحلي. باختصار، تتحول الأرجنتين تحت حكم ميلي إلى مستعمرة موارد فقيرة، تُنهب لصالح الشركات الأجنبية والأوليغارشيين.
الليبرالية تعني الدكتاتورية
رغم تخفيضه للإنفاق الحكومي على مجالات حيوية، مثل: التعليم والصحة والبنية التحتية، فقد ضاعف ميلي ميزانية «أمانة الاستخبارات»، التي تشرف على أعمال التجسس والأمن الداخلي. يُذكر أن هذه الأمانة قد لعبت دوراً محورياً خلال الحقبة الديكتاتورية المدعومة من الولايات المتحدة في السبعينيات والثمانينيات، عندما أدارت جهاز شرطة سرية تورط في القتل والتعذيب والإخفاء القسري للناشطين والنقابيين.
في ظل حكم ميلي، يعيش أكثر من نصف سكان الأرجنتين تحت خط الفقر. وفقاً لتقرير صادر عن «المعهد الوطني للإحصاء والتعداد» التابع لوزارة الاقتصاد الأرجنتينية في أيلول 2024، بلغت نسبة الفقراء 52.9 بالمئة.
هؤلاء المواطنون لم يعودوا قادرين على توفير سلة الاحتياجات الأساسية من السلع والخدمات. فبحسب الأرقام الرسمية، كانت تكلفة السلة الأساسية 709,318 بيزو أرجنتيني، بينما لم يتجاوز متوسط دخل الأسرة 407,171 بيزو.
ومع استمرار الانهيار الاقتصادي، تدهورت القدرة الشرائية للأسر بشكل أكبر، إذ لم تتمكن الزيادات الطفيفة في الأجور من مواكبة التضخم الجامح، مما أدى إلى تراجع فعلي في الأجور الحقيقية. أما الفقر المدقع، فقد طال 18.1% من السكان، أي أولئك الذين لا يستطيعون حتى تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية.
في بلد يتفشى فيه الفقر بهذه الطريقة المرعبة، لا تزال الفجوة في توزيع الدخل صارخة. إذ يحصل أغنى 10% من السكان على 24.5% من إجمالي الدخل، في حين يحصل أغنى 20% على 39.7%، وأغنى 30% على أكثر من نصف الدخل «51.8%»، مقابل 8.6 % فقط لأفقر 20 % من الأرجنتينيين.
تدمير العمل والإنتاج
يحاول ميلي تمرير إصلاحات معادية للطبقة العاملة، من بينها مقترحات لتمديد يوم العمل إلى 12 ساعة دون دفع أجر إضافي، والسماح للشركات بدفع أجور عمالية عبر قسائم لا تُصرف إلا في متاجر محددة. كتبت صحيفة «Pausa» الأرجنتينية أنّ «حكومة خافيير ميلي تسحق سوق العمل»، مشيرة إلى أن حجم فقدان الوظائف هو أربعة أضعاف ما كان عليه في عهد الرئيس اليميني السابق ماوريسيو ماكري.
حتى تشرين الأول/أكتوبر 2024، أي بعد مرور عشرة أشهر فقط على تنصيب ميلي، تم القضاء على نحو 167,000 وظيفة رسمية في القطاع الخاص وحده — وهي خسارة توازي حجم التدمير الحاصل طيلة أربع سنوات في عهد ماكري. وعلى الرغم من أن إجراءات التقشف طالت القطاع العام، إلا أن التراجع في الوظائف النظامية كان أكثر حدة في القطاع الخاص «بانخفاض نسبته 1.9%» مقارنة بالقطاع العام «1.2%».
شهد التضخم في الأرجنتين انفجاراً هائلاً في عهد ميلي، إذ قفز إلى ذروته البالغة 292% في نيسان 2024، قبل أن ينخفض إلى 84.5% في كانون الثاني 2025. ورغم أن الإعلام المالي المملوك للأوليغارشيين قدّم هذا الانخفاض كانتصار لميلي، إلا أن الحقيقة المؤلمة هي أن السبب كان تدمير الطلب الداخلي، وسحق القوة الشرائية للشعب.
تؤدي السياسات الليبرالية التي ينتهجها ميلي إلى تسريع خطير لعملية إزالة التصنيع في الأرجنتين. فقد شهد قطاع البناء والصناعة التحويلية انهياراً هائلاً في مستويات التوظيف، كما تراجع عدد العاملين في قطاعات النقل والصحة، في حين سجل قطاعا الزراعة والتعدين نمواً، وهما مجالان تسيطر عليهما الشركات الكبرى المحلية والشركات متعددة الجنسيات الأجنبية.
وبحسب بيانات «المعهد الوطني للإحصاء والتعداد» التابع لوزارة الاقتصاد، فقد انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة تقارب 10% على أساس سنوي خلال السنة الأولى من حكم ميلي. وفي الأشهر الأولى من ولايته بعد توليه المنصب في كانون الأول 2023، سجل الإنتاج الصناعي انهيارات مزدوجة الرقم: تراجع بنسبة 21.4% في آذار، و20.2% في حزيران، مقارنة بالأشهر نفسها من العام السابق. ورغم التحسن الطفيف في نهاية 2024، ظل الإنتاج الصناعي أدنى بكثير من مستوياته قبل ميلي.
كان هذا الانحدار في القطاع الصناعي قد بدأ أيضاً في عهد الرئيس الليبرالي الآخر ماوريسيو ماكري «2015–2019»، الذي، مِثل ميلي، أعطى الأولوية للقطاع المالي والزراعة والتعدين على حساب الصناعة الوطنية. النتيجة كانت واضحة: تدهور التصنيع وانخفاض عدد وظائف الصناعة بشكل دراماتيكي.
وكما في الصناعة، كذلك في قطاع البناء، الذي انهار خلال السنة الأولى لحكم ميلي، مسجلاً تراجعاً بنسبة تقارب 30% على أساس سنوي، هذا الانهيار في قطاع البناء، إلى جانب تدفق الاستثمارات الأجنبية المضاربية في سوق العقارات، أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار السكن. وبحسب تقارير محلية، قفزت أسعار شراء المنازل في العاصمة بوينس آيرس بنسبة 221% سنوياً حتى تشرين الأول 2024، أي بوتيرة أسرع من معدل التضخم العام.
رغم أن خافيير ميلي يقدم نفسه كـ«شعبوي»، إلا أنه لم يفعل سوى مواصلة السياسات النيوليبرالية ذاتها التي تبناها الرئيس المحافظ السابق ماوريسيو ماكري، بل ذهب بها إلى حدود أبعد وأكثر شراسة.
اقتصادياً، لم يحِد ميلي قيد أنملة عن خط النيوليبرالية المفروضة من واشنطن. لذلك لا عجب أن صندوق النقد الدولي، الخاضع للهيمنة الأمريكية، قد أمطره بالمديح. ناهيك عن أنّه أعلن رفضه الانضمام إلى بريكس، قاطعاً بذلك طريق الأرجنتين نحو التكتلات الاقتصادية والسياسية العالمية التي يقودها الجنوب.
إنّ ميلي، كأيّ رئيس ليبرالي آخر، مستعد دوماً للتحوّل إلى أداة طيّعة بيد النخبة المالية الأمريكية وأقطاب التكنولوجيا، ولبيع بلاده: مواردها، ومؤسساتها، ومستقبل أجيالها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1224