دعم الجوع: الرغيف السوري في معمعة أزمة الغذاء العالمية
لم يعد الحديث عن أزمة الغذاء العالمية مجرد تكهنات وتحذيرات يطلقها البعض. بل خطت دول العالم، وبشكلٍ خاص دول الجنوب العالمي، خطوات فعلية في هذا الاتجاه. وعلى الصعيد السوري، حيث نعاني بالأصل من انعدامٍ في أمننا الغذائي، تتركُ البلاد فعلياً للمجهول، لتكون فريسة بين فكّي أزمة الغذاء العالمية التي لم يُحسم إلى أين يمكن أن تصل بعد، والناهبين الداخليين الجاهزين لاقتناص أي أزمة تزيد من تراكم الثروات فوق ثرواتهم المكدّسة أصلاً.
تشكل الحرب في أوكرانيا ذريعة مناسبة لقوى النهب الداخلي لتبرئة نفسها من المسؤولية عن مفاقمة أزمة الغذاء المحلية. لكن، دون إهمال دور الحرب الأوكرانية، وتحديداً العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا، فإن المسؤولية الأساسية عن تردي الأوضاع الغذائية في البلاد تقع على عاتق كبار الناهبين المحليين الذين جعلوا من الغذاء مادة للتربّح على حساب ملايين السوريين، وذلك عبر السياسات المتواصلة التي اتخذتها الحكومة على امتداد السنوات السابقة، وكان عنوانها الفعلي: انسحاب الدولة من لعب دورها الاجتماعي، بينما تلطت خلف شعارات واهية مثل: توجيه الدعم لمستحقيه، وعقلنة الدعم، وإعادة هيكلته... إلخ.
لمحة عن واقع سورية الغذائي
وفقاً لتقديرات برنامج الأغذية العالمي WFP، فإنه خلال عام واحد فقط، دخل ملايين السوريين الإضافيين إلى حالة انعدام الأمن الغذائي، حيث ارتفعت نسبة السوريين الذين يعانون انعداماً غذائياً من 20% في 2019 إلى 60% في 2021، بينما يعاني 12.4 مليون مواطن سوري «انعداماً حاداً» في الأمن الغذائي. وهذا كله قبل عام 2022 الذي شهد «نقلات نوعية» في حالة التردي على مستوى البلاد.
وبحسب التقديرات، تجبر غالبية الشعب السوري على اتباع أنظمة غذائية غير صحية أساسها الاعتماد المفرط على السكريات والزيوت، ونقص البروتينات الحيوانية وفيتامين A بشكلٍ حاد، وتقليص عدد الوجبات، وتقليص الحصص الغذائية للبالغين من أجل إشباع الأطفال، وتكثيف الاعتماد على الخبز.
الخبز ليس «خط أحمر»
بينما كان من الواجب أن تنصبّ السياسات الحكومية خلال الأعوام الماضية على تأمين قوت السوريين، شهد الإنفاق الحكومي (التقديري) على قطاع الزراعة عموماً في الموازنة الحكومية انخفاضاً حاداً من 515,432,500 دولار في عام 2011 إلى حوالي 124,686,914 دولار في عام 2021، أي أن الإنفاق في عام 2021 لم يتجاوز ربع الإنفاق في عام 2011 (هذا إذا أحسنا النية وسلّمنا أن هذه المبالغ قد أنفقت فعلاً).
بالتوازي مع ذلك، ورغم كل الضوضاء التي أثارتها الأوساط الرسمية حول أرقام الدعم المخصصة لتأمين مادة الخبز، فإن الأرقام الدقيقة «تكذب الغطاس». حيث انخفضت تقديرات دعم الدقيق التمويني في الموازنة العامة للدولة على سبيل المثال من 846 مليون دولار في عام 2016، إلى 674 مليون دولار في عام 2019، وبحسب تصريحات المدير العام للمؤسسة العامة لتجارة وتصنيع وتخزين الحبوب، عبد اللطيف الأمين، لوكالة «سانا» الرسمية في منتصف شهر شباط 2022، فإن تكلفة الدعم اليومي لمادة الخبز تعادل 5.5 مليار ليرة سورية، أي ما يصل إلى حوالي 501 مليون دولار سنوياً. ما يعني أن تقديرات دعم الدقيق التمويني انخفضت بأكثر من 40% خلال ستة أعوام فقط.
وفوق ذلك، هنالك الكثير من مواضع الإنفاق المرتبطة بالغذاء والتي تمّ تقليصها كنتيجة طبيعية لتراجع القيمة الحقيقية للموازنة العامة وبند (مساهمة الدولة في تثبيت الأسعار - الدعم الاجتماعي)، ويشمل ذلك ميادين عدّة مثل الإنفاق على البحوث العلمية الزراعية والمباقر والدواجن والثروة السمكية والمطاحن والمخابز.
ويذكر أن الأراضي المروية بفعل مشاريع الري الحكومية تراجعت من 817 ألف هكتار في عام 2002 إلى 286 ألف هكتار في 2019. وتراجعت أعداد المطاحن وإنتاج الفروج والبيض والأبقار خلال الفترة ذاتها بنسبٍ تفصح عن مستوى الإهمال الحكومي لأزمة الغذاء التي صارت اليوم واقعاً مستعصياً.
مخابز الدولة والخبز الحاف
تمثل المخابز العامة شريان حياة لملايين الأسر السورية المنهوبة، حيث يعتمد الـ12.4 مليون سوري الذين يعانون اليوم من انعدام الأمن الغذائي على «خبز الدولة» لتأمين الحد الأدنى من السعرات الحرارية الضرورية يومياً ليبقى الإنسان على قيد الحياة. وفي ظل منظومة الأجور الهزيلة في البلاد، حتى «الخبز الحاف» يصبح أمراً صعباً.
ماذا لو افترضنا أن الأسرة السورية قررت أن تأكل الخبز فقط لتحصل على سعراتها الحرارية الضرورية، دون أية إضافة أخرى؟ لتأمين 2400 سعرة حرارية يحتاج كل فرد إلى 984 غرام من الخبز، ما يعني أن الأسرة السورية المكونة من 5 أشخاص تحتاج إلى 4920 غرام يومياً و152,520 غرام شهرياً، ومع الأخذ بعين الاعتبار أن ربطة الخبز المدعومة حكومياً وزنها المفترض هو 1100 غرام وبداخلها 7 أرغفة، فإن وزن الرغيف الواحد هو 157 غرام تقريباً، ما يعني أن الأسرة تحتاج يومياً إلى حوالي 31 رغيف ونصف، وما يقارب 976.5 رغيف شهرياً.
سعر الرغيف الواحد المدعوم حكومياً يقارب 35.7 ليرة سورية (على اعتبار أن سعر الربطة من المعتمدين هو 250 ليرة). وبالنظر إلى أن الحكومة وضعت سقفاً لمخصصات الخبز للأسرة المكونة من 5 أفراد هو 12 ربطة أسبوعياً (أي 1.714 غرام يومياً)، فإن الأسرة لن تستطيع أن تشتري سوى حوالي 339 رغيفاً مدعوماً من أصل 976.5 رغيف تحتاجهم شهرياً. ما يعني أن عليها شراء 637.5 رغيفاً بالسعر غير المدعوم، ويبلغ سعر الرغيف غير المدعوم حوالي 171.4 ليرة سورية (على اعتبار أن سعر الربطة غير المدعومة هو في أحسن الحالات 1200 ليرة).
في هذه الحالة ستدفع الأسرة المكونة من 5 أفراد 12,102 ليرة سورية ثمناً لـ339 رغيفاً مدعوماً، و109,267 ليرة سورية ثمناً لـ637.5 رغيف غير مدعوم. وبالمحصلة، ستدفع شهرياً 121,369 ليرة سورية ثمناً «للخبز الحاف» فقط، علماً أن الحد الأدنى لأجر العامل السوري لا يتجاوز 92,970 ليرة، ما يعني أن الحد الأدنى لأجر العامل السوري لا يغطي سوى 76.6% من الثمن اللازم للأسرة لتناول الخبز الحاف فقط، هذا في حال كان الحظ حليفها واستطاعت انتزاع مخصصاتها الشهرية المدعومة كاملةً!
ورغم الواقع الرديء للخبز أصلاً كما أوضحنا، فإن المعنيين في البلاد أشاحوا بوجههم عن مسائل أخرى تمس الأمن الغذائي في البلاد خلال السنوات الماضية، مثل التحذيرات المتتالية لمنظمات الأمم المتحدة من أن الجفاف وسوء توزّع الأمطار سيؤثران على محصول القمح في البلاد.
الخميرة والقمح نماذج من «الاهتمام الحكومي»
قبل انفجار الأزمة في عام 2011، كانت تملك البلاد 4 مصانع خميرة مملوكة للدولة في حلب وحمص وحرستا وشبعا، توفر ما يقارب 113 طناً من الخميرة الضرورية لإنتاج الخبز يومياً. أما اليوم، فليس لدى الدولة سوى معمل خميرة واحد في حمص ينتج من 6 إلى 10 أطنان فقط، أي ما لا يزيد عن 9% من إنتاج ما قبل الأزمة. وذلك في ظل غياب أي مسعى رسمي جدي لمعالجة هذه المسألة، حيث لم نسمع ما يفيد بسعي المعنيين في البلاد لوضع حد لعملية استيراد الخميرة الجافة التي فرضتها ظروف الأزمة. (مؤخراً قالت الأمم المتحدة إنها ستخصص مبلغ مليون دولار لإعادة تأهيل معمل خميرة حمص ليرتفع إنتاجه إلى 24 طن يومياً).
وعلى النحو ذاته، انخفض إنتاج البلاد من القمح خلال سنوات الأزمة، حيث يتوقع ألا يتجاوز حصاد هذا العام عتبة المليون طن في أحسن الأحوال، وذلك بعدما كان الإنتاج السوري يتجاوز وفقاً للأرقام الحكومية 4 ملايين طن في عام 2010 يحقق اكتفاءً ذاتياً ويصدّر منه حوالي مليون طن إلى الخارج. ومن المليون طن التي يتم إنتاجها حالياً، تنتج المنطقة الشرقية كمية تتراوح بين 700 ألف إلى 800 ألف طن، أي ما يقارب 80% من إجمالي إنتاج البلاد، وهو إنتاج يقع تحت تهديد مباشر، حيث تشير بعض التقديرات إلى أن 16% من مزارعي المنطقة الشرقية لم يتمكنوا من الوصول إلى أي مصدر للري كآبار المياه والأنهار، بينما وصلت خسائر الحصاد الناجمة عن درجات الحرارة المرتفعة إلى 30% خلال موسم 2020 - 2021.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1073